الصُّحبة خَيرٌ كبيرٌ أو شَرٌّ مُستطيرٌ
الكاتب : رابطة خطباء الشام
الأربعاء 9 فبراير 2022 م
عدد الزيارات : 1719
مقدمة:
إنّ مِن الأمور الجِبلّيّة الّتي فَطَر الله عز وجل الإنسان عليها في هذه الحياة: الصّحبة والصّداقة، فلا بدّ للمرء مِن جلساء وأصحابٍ، يتحدّث إليهم ويتحدّثون إليه، يبثّ إليهم همومه، ويشكو إليهم أحزانه، ويستشيرهم فيما ينزل به مِن ملمّاتٍ وأمورٍ، ولقد جعل الله سبحانه شريعة نبيّنا صلى الله عليه وسلم ضابطةً لهذه الأمور الفطريّة، وخصّص لها آدابًا وضوابط وأحكامًا، ولقد حثّ الإسلام على المصاحبة والأخوّة، ورغّب في السّعي إليها، لأنّها تدعيمٌ للعلاقات الاجتماعيّة، وتقويةٌ للمودّات، وشدٌّ لأواصر الصِّلات، فالصّاحب الصّادق مِن ضرورات الحياة وأسباب السّعادة، ولا يشكّ عاقلٌ في أثر الصّحبة الصّالحة على الفرد والمجتمع، ولقد أخبرنا نبيّنا صلى الله عليه وسلم أن التّآلف والتّنافر يكون بين الأرواح قبل أن يكون اللّقاء بين الأجساد، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: (الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ). صحيح البخاريّ: 3336
وإنّك لَتجد كلّ إنسانٍ متأثّرًا بطباع صاحبه، شاربًا مِن مشرب صديقه، وإنّ المسلم العاقل لَيعلم عِلم اليقين، أنّ الحصول على الصّديق الوفيّ مِن أصعب الأشياء، وهذا يوجب عليه أن ينظر بعين البصيرة إلى أخلاق مَن يريد صحبته، فمَن رضي أخلاقه صادقَهُ، ومَن سخط أعماله جانبهُ، لأنّنا مأمورون بالاقتصار على صحبة المؤمن الصّالح، الصّادق المخلص، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: (لَا تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنًا، وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ). سنن أبي داود: 4832
فلن يكون خليلًا وفيًّا مَن يخالفك في الاعتقاد، أو يجانب في أفعاله الهدى والرّشاد، بل كلّ صداقةٍ لا يكون الدّافع لها تقوى الله جل جلاله؛ ستنقلب إلى عداوةٍ يوم تتبيّن الحقائق، وتزول الغشاوة عن العيون والبصائر، قال تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزّخرف: 67].
فليختر كلٌّ منّا الأصحاب الأتقياء الصّالحين، وليحذر الأصحاب المفسدين.
وإنْ تصطحبْ قومًا فصاحبْ خيارهمْ    لتصبحَ في ثوبِ الكمالاتِ مرتدي
وجانبْ قرينَ السّوء ِيا صاحِ صحبةً    ولا تصحبِ الأردى فتردى مع الرَّدي
1- أهمِّيَّة اختيار الأصحاب
قضت الحكمة الإلهيّة أن تتأثّر النّفوس بمَن حولها، وتتجانس الطّبائع بصفات مَن تجالسها وتخالطها، وتصاحبها وتصادقها، فإن كان مَن حولك أناسٌ سمتْ أخلاقهم، وشرفتْ غاياتهم، وكرمتْ نفوسهم وطبائعهم، كنت أنت كذلك سامي الخلق، نبيل الغاية، جميل الطّبع والمعاشرة، صافي السّريرة والعقيدة، وإذا أحاط بك أناسٌ مجرمون، وقرناء متلوّنون، وأصدقاء غشّاشون كذّابون، فاعلم أنّك على خطرٍ عظيمٍ، ووسط بلاءٍ جسيمٍ، وعاقبةٍ وخيمةٍ.
ولا بِدعَ في وفقِ الطّباعِ إذا اقتدتْ    فكلُّ قرينٍ بالمقارنِ مقتدي
فالمؤمن الصّادق في إيمانه، التّقيّ الغيور على كرامته، هو الّذي يبحث عن النّفوس الطّيبة، والسّرائر النّقيّة، فيصاحبها ويجالسها، ويعاشرها ويلازمها، لأنّه سيتطبّع بطباعهم، ويتأثّر بصفاتهم، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلْ). مسند أحمد: 8417
والمرء منّا لا يستطيع اعتزال النّاس جميعًا، فهو مضطرٌ للعمل والسّكن والسّفر، ومحتاجٌ للتّعامل مع بني جنسه، فلا مفرّ له مِن التّعارف والاختلاط، والصّحبة والصّداقة، ولا يصحّ أن يصحب الإنسان كلّ مَن يصادفه، ويصادق كلّ مَن يلقاه، فليس كلّ مخلوقٍ يصلح للصّحبة، بل الواجب تخيّر الأصدقاء، وانتقاء الأصحاب، ووزنُ النّاس قبل الاختلاط بهم، والبحث عن  أخلاقهم، بما أنّنا سنتأثّر بطبائعهم فعلينا أن ندقّق في مصاحبة البشر، كما نهتمّ وندقّق في شراء ملابسنا، واستئجار مساكننا، واختيار أكلنا وشربنا، ننتقي الملابس الجيّدة المتينة لتكسبنا مظهرًا ووقايةً، فلِمَ لا ننتقي صاحبًا جيّد النّفس متين الخلق، ليكسبنا رفعةً وهدايةً، ونحن لا نستأجر إلّا مسكنًا نظيفًا مريحًا، تزوره الشّمس والهواء، حفاظًا على صحّتنا وأبداننا، فلِمَ لا نبحث عن نظافة الصّديق، وطهارة باطنه، حفظًا لأخلاقنا، وإبقاءً على أرواحنا، نخشى من الأكل الفاسد والأطعمة الحامضة، فكيف لا نخشى صاحبًا فسد طبعه، وحمضت أخلاقه، وتعفّنت صفاته، وله نفسٌ ملوّثةٌ بالإثم والفجور، إنسانٌ في خُلُقه، ولكنّه شيطانٌ في طبعه، مزيّفٌ مغشوشٌ، ولقد أمر الحقّ سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجتنب مثل هذا الإنسان ويقاطعه، فقال: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [النّجم: 29].
وقال جل جلاله: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} [القلم: 10-13].
2- خطر الصُّحبة السَّيِّئة
إنّ مصاحبة الأشرار سمٌّ ناقعٌ، وبلاءٌ واقعٌ، فلقد هلكَ بسببهم أقوامٌ كثيرون وقرناء، فكم مِن فتىً انحرف عن الطّريق المستقيم، بسبب صديق السّوء؛ الّذي قاده إلى الهلاك، وأوقعه في الضّلال، حتّى ترك الصّلوات، واتّبع الشّهوات، وارتكب المنكرات، وكم مِن  رجلٍ كان أخا المساجد، مثالَ الاستقامة، أصبح أخا الحانات وصديق الخمر، لأنّه واصل أسوأ القرناء والرّفقاء، فحقّ عليه قول الله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} [الزّخرف: 36-38].
وتأمّلوا هذه الصّورة -يوم القيامة- لكلّ مَن صاحب أهل الشّرّ والفساد، فإنّه لو استطاع أن يقطع أصابع يديه بأسنانه من شدّة النّدم لَفَعل، قال عز وجل: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا} [الفرقان: 27-29].
ولقد جاء في سبب نزول هذه الآيات: أنّ عقبة بن أبي معيط كان مِن زعماء قريش، وكان جارًا للنّبيّ صلى الله عليه وسلم، وحصل أن أقام عقبة وليمةً دعا إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرض عليه الإسلام فأسلم، فلما جاء صاحبه أبيّ بن خلف -وكان غائبًا- قال له: وجهي مِن وجهك حرام، إذا لم تطأ عنق محمّد، وتبصق في وجهه، فاستجاب عقبة لطلبِ صديقه الشّرير، وأراد أن يفعل فعلته النّكراء، فارتدّ عن الإسلام، ونزلت هذه الآيات الكريمة. تفسير الطّبريّ: 8/11
كمْ مِن فتاةٍ كانت عفيفةً طاهرةً، سرعان ما انقلب حياؤها، فأصبحت عاهرةً فاجرةً، ولو بحثتَ عن السّبب لوجدته  انحطاط الصّداقة، وأعوان السّوء، ولقد شبّه النّبيّ صلى الله عليه وسلم صديق السّوء بنافخ الكير، لأنّه يؤذي كلّ مَن حوله، عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (مَثَلُ الجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالسَّوْءِ، كَحَامِلِ المِسْكِ وَنَافِخِ الكِيرِ، فَحَامِلُ المِسْكِ: إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الكِيرِ: إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً). صحيح البخاريّ: 5534
ولا أدلّ على شدّة تأثّر الصّديق بصديقه، مِن حال أبي طالبٍ لمّا حضرته الوفاة، عَنِ سَعِيدُ بْنُ المُسَيِّبِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الوَفَاةُ، جَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ المُغِيرَةِ، فَقَالَ: (أَيْ عَمِّ قُلْ: لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ)، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ المُطَّلِبِ؟ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ، وَيُعِيدَانِهِ بِتِلْكَ المَقَالَةِ، حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ: عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، وَأَبَى أَنْ يَقُولَ: لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (وَاللَّهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ). صحيح البخاريّ: 4772
خاتمةٌ:
إنّ الأخوّة الحقيقيّة والصّداقة المرضيّة، هي الّتي تُبنى على قاعدةٍ مِن تقوى الله جل جلاله، وحبٍّ في الله سبحانه، فما تحابّ اثنان في الله وتعاونا على فعل المعروف ودفع الأذى، إلّا وقد أعزّهم الله عز وجل بعزّته الّتي لا تُضام، وكتب لهم القبول بين الأنام، وأظلّهم بظلّ عرشه يوم الزّحام، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ، يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: ... وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ). صحيح البخاريّ: 660
فلنلزمْ أخَا الصّدق الّذي يقدّم لنا النّصح، ويرشدنا إلى الخير، ويحافظ على الودّ والوفاء في الشّدة واللّين، والفقر والغنى، والصّحة والسّقم، ولا تكترث -أخي- بالصّداقة التّافهة الّتي تقوم على المصالح المؤقّتة، فتزول الصّداقة بزوالها، وكنْ على بيّنةٍ منها، واحذر الأشرار الفجّار، فإنّهم هم العدوّ المبين، واعلم أنّ جلساء السّوء يؤذونك بسلوكهم وأخلاقهم، وطباعهم وأفكارهم؛ فابتعد عنهم، فكلّ إنسانٍ عُرف بين النّاس بحماقته وفجوره فلا تصاحبه، وكلّ مَن اشتهر بمجونه وفجوره فلا ترافقه، فإنّ طبعك سيسرق مِن طبعه، وروحك ستتأثّر بروحه، فتصبح مثله مِن حيث لا تدري، قال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} [النّساء: 140].
وتجنّب مَن انغمس في اللّهو واللّعب؛ حتّى ماتت نفسه وضاع شرفه وفقد رجولته، فاندفع عابثًا ماجنًا، لا يراقب ربًّا، ولا يخشى عقابًا، قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} [الممتحنة: 13].
 

http://shamkhotaba.org