مقدمة:
لقد دعا الإسلام إلى الأخلاق الفاضلة والقِيم النّبيلة، وأمرنا أن نتمسّك بها، ونجعلها نظام عملٍ في حياتنا، ليسود في المجتمع الأمن والأمان، والمحبّة والحنان، وتزيد الألفة فيما بيننا في كلّ مكانٍ، ولعلّ مِن أهمّ هذه الواجبات: الصّدع بالحقّ ونُصرة المظلوم، حيث جعلها النّبيّ صلى الله عليه وسلم حقًّا للمسلم على المسلم، عَنِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنه قَالَ: "أَمَرَنَا النَّبِيُّ بِسَبْعٍ، وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ: أَمَرَنَا بِاتِّبَاعِ الجَنَائِزِ، وَعِيَادَةِ المَرِيضِ، وَإِجَابَةِ الدَّاعِي، وَنَصْرِ المَظْلُومِ".
وإنّنا نشاهد اليوم كيف تُنتهك أعراض المسلمين، ويُسلب مالهم، ويُسفك دمهم، ثمّ لا نجد مَن ينصرهم، بل أصبح هذا الواجب غريبًا ضائعًا في حياتنا، ولقد عاتب عز وجل على ذلك فقال: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا} [النّساء: 75].
بل لم يرضَ الإسلام منّا أن نجتنب الظّلم ونسلم منه فقط، بل أوجب علينا أن نُحقّ الحقّ ونأخذ على يد الظّالم، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: (مَنْ أُذِلَّ عِنْدَهُ مُؤْمِنٌ فَلَمْ يَنْصُرْهُ، وَهُوَ يقَدِرُ عَلَى أَنْ يَنْصُرَهُ أَذَلَّهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).
فأين نحن مِن القيام بهذه الحقوق والواجبات؟!، ألا فليعلمْ كلّ مَن رأى مظلومًا، ثمّ لم يكن عنه منافحًا، ولا عن المنكر ناهيًا، كان على خطرٍ عظيمٍ، قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ *كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 78-79].
أحداثٌ وعبرٌ تستدعي فهم السّنن الرّبانيّة، وتستلزم عدم الرّكون إلى الّذين ظلموا، والحذر مِن الاغترار بالجاه والسّلطان، والقوّة والمال، وتأمرنا بنصرة المستضعفين، والوقوف جانب المظلومين، ومجابهة الظّلمة الطّغاة المجرمين، غير آبهين لقوّتهم ولا مكترثين، فمهما بلغت قوّة الظّلوم، وضعُفَ المظلوم، فإنّ الظّالم مقهورٌ مخذولٌ، وفي التّاريخ القديم والحديث شواهد كثيرةٌ على ذلك، فكمْ مِن جبابرةٍ نازعوا الله سبحانه في كبريائه وعظمته، فقصمهم الله وأذلّهم، وجعلهم عبرةً لخلقه؟! وكم مِن أممٍ رفضت الحقّ، فسلّط الله جل جلاله عليها عدوًّا غاشمًا؛ استباح ديارها، وأباد خضراءها، ومزّقها شرّ ممزّقٍ، أو أرسل عليها عذابًا مِن السّماء فصارت أثرًا بعد حينٍ...
1- الصَّدع بالحقِّ نِعمةٌ مِن الحقِّ
إنّ التزام الحقّ والصّدع به، والوقوف مع أهله، لَمِنْ أجلّ نعم الله سبحانه على عبده، فكم مِن قومٍ زاغوا فأزاغ الله قلوبهم، وعموا عن الحقّ فأضلّهم الله بحكمته وعدله! قال تعالى: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأعراف: 30].
وكم مِن قومٍ عرفوا طريق الحقّ فسلكوه، وعرفوا الباطل فجانبوه، ولكنّهم ما استقاموا على ذلك! قومٌ أصابتهم الفتن فجمحت بهم عن الجادّة، وباعدت بينهم وبين الطّريق المستقيم، فضلّوا مِن بعد الهداية، وعمُوا مِن بعد البصيرة.
إنّ الثّبات على الحقّ إلى الممات أمرٌ عسير المنال، إلّا على مَن وفّقه الله سبحانه وثبّته، فإنّ الفتن إذا تتابعت، وترادفت المحن، وعظمت الابتلاءات؛ كثر المتساقطون مِن جرّائها، ولكنّ الله جل جلاله يُكرم طائفةً مِن عباده، ويُنعم عليهم بالثّبات على الحقّ، والوقوف في مواجهة أهل الباطل، سواءً كانت مواجهةً بالسّلاح والقتال، أم كانت مقارعةً بالحجّة والبيان، قال تعالى: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [آل عمران: 74].
ولن يصرف هؤلاء عن الحقّ صارفٌ مهما كانت قوّته وأثره، ولا يمنعهم مِن الصّدع به مانعٌ ولو عُذّبوا بالنّار، أو قُطّعوا بالسَّنان، ما يَردّهم ذلك عن دينهم، كما أخبرنا الله عز وجل عن سحرة فرعون، حينما آمنوا؛ هدّدهم فرعون بالعذاب الأليم: {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأعراف: 124].
فكان جوابهم على وعيد فرعون وتهديده أن قالوا: {لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه: 72].
إنّه الثّبات على الإيمان لَمّا خالطت بشاشته القلوب، إنّه الثّبات على الحقّ مهما كلّف الأمر، وكثرت التّبعات، ففي سبيل الله جل جلاله تهون عظائم المصائب، وتصغر المحن الجسام، وليست مقارعة الباطل بالحجّة أقلّ شأنًا مِن مقارعته بالسّلاح، وليست مجادلة أهل الشّبهات في شبهاتهم إلّا مِن جهاد الكلمة الّذي أمر الله به -مع جهاد السّلاح- في قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التّحريم: 9].
فامتثل الرّسول صلى الله عليه وسلم لأمر ربّه وحثّ النّاس على ذلك، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ، وَأَنْفُسِكُمْ، وَأَلْسِنَتِكُمْ).
قال ابن عبّاس رضي الله عنه: "أمره الله سبحانه بجهاد الكفّار بالسّيف، والمنافقين باللّسان، وأذهب الرّفق عنهم".
2- انصروهم ولا تخذلوهم
إنّ الأخوّة الإسلاميّة تفرض علينا حقوقاً وواجباتٍ تجاه المستضعفين والمعذّبين، والمظلومين والمعتقلين مِن المسلمين في كلّ مكانٍ، فكم مِن دماءٍ أُريقت؟! وأعراضٍ انتهكت؟! وكم سمعنا مِن صرخاتٍ للمظلومين ولا مجيب؟! بل إنّ الأحداث المتلاحقة والوقائع المتوالية الّتي نزلت بأهل الشّام، لم تعدْ خافيةً على أحدٍ، حيث العالم كلّه يسمع ويرى كيف نكّلت آلة الحرب والقتل والقمع والتّعذيب، بالضّعفة والأطفال، والشّيوخ والنّساء، في صورٍ مِن الوحشيّة الّتي تُدكّ لهولها الجبال الرّاسيات، ولا يُقدم عليها إلّا عديم الرّحمة وفاقد الضّمير، لا سيّما في غياهب سجون الطّغاة، وزنازين الإجرام، وإنّ تلك الأحداث تستوجب اليقظة والتّذكّر، حيث إنّها محنٌ تُمتحن بها القلوب، ليعلم الله سبحانه مَن ينصر الحقّ في وجه الباطل، قال تعالى: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25].
وإنّ انتشار الظّلم وغياب الأمن والأمان، مؤذنٌ بخراب الحال عند البشر، فأنواعٌ مِن الظّلم تقع بين النّاس لبعضهم اليوم، ظلمٌ في السّياسة والأنظمة، وظلمٌ في الأعراض والأموال، وهذا يوجب علينا نصرتهم بما نستطيع، كلٌّ بحسب طاقاته ومواقعه وقدراته، فصاحب المال ينصر بماله، وصاحب الجاه بجاهه، وصاحب القلم بقلمه، ولِوسائلِ الإعلام دورٌ مهمٌّ في ذلك، فلا نُغيّبُ عنّا قضيّة المظلومين، لا سيّما المعتقلين، ولا نُخفي صورهم عن أنظارنا، بل نتكلّم عنهم ولا نكلّ ولا نملّ، ونظلّ نثير قضيّتهم ونطالب بالإفراج عنهم، وتلهج ألسنتنا بالدّعاء لهم، إن لم نستطع الدّفاع عنهم بالقوّة والسّلاح، فقد كان يمرّ صلى الله عليه وسلم بآل ياسر وغيرهم ممّن يعذبون فيصبّرهم، ويدعو لهم، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ الآخِرَةِ، يَقُولُ: (اللَّهُمَّ أَنْجِ عَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، اللَّهُمَّ أَنْجِ سَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ، اللَّهُمَّ أَنْجِ الوَلِيدَ بْنَ الوَلِيدِ، اللَّهُمَّ أَنْجِ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ، اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ).
وهذا مِن أوجب واجبات الوقت علينا تجاه أسرانا البواسل، حتّى يُفكّك قيدهم وأسرهم، فمِن أجل ذلك حرّك المسلمون الأوائل جيوشهم، يوم أن كان للمسلم قيمةٌ واعتبارٌ، وكانوا ملتزمين بأوامر الجبّار جل جلاله، وما حكاية نداء المعتصم مِن المرأة الأسيرة عنّا ببعيدٍ، بل لقد حضر النّبيّ صلى الله عليه وسلم قبل البعثة حلف الفضول الّذي دعا إليه الزّبير بن عبد المطلب قائلًا:
إنّ الفضول تعاقدوا وتحالفوا ألّا يقيم ببطن مكّة ظالمُ
أمرٌ عليه تعاقدوا وتواثقوا فالجار والمعترّ فيهم سالمُ
خاتمةٌ:
في زمن الخطوب الكبار، والشّدائد والأخطار، يتوجّب علينا أن نتذكّر تلك الحقيقة السّاطعة في الدّين؛ ألا وهي وجوب التّناصر بين المسلمين، ومؤازرة المظلومين، والمطالبة بالإفراج عن المعتقلين، وإطلاق أسر المأسورين، والنّصفة للمستضعفين، وهذا ممّا أوجبه علينا ربّ العالمين، إن تحققّت القدرة والقوّة وجبت المؤازرة والنّصرة، حيث قال سبحانه: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الأنفال: 72].
فمتى استجار المسلم بك، ولاذ بساحتك، وجبت نصرته، ولزمت إعانته، حتى يقوى ظهره، ويشتدّ أزره، ويندحر عدوّه، فمن نصر أخاه نصره الله عز وجل، ومن خذل أخاه خذله الله جل جلاله، عَنْ جَابِرِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبي طَلْحَةَ بْنَ سَهْلٍ الْأَنْصَارِيَّيْنِ رضي الله عنهما قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنْ امْرِئٍ يَخْذُلُ امْرَأً مُسْلِمًا عِنْدَ مَوْطِنٍ تُنْتَهَكُ فِيهِ حُرْمَتُهُ وَيُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ إِلَّا خَذَلَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ، وَمَا مِنْ امْرِئٍ يَنْصُرُ امْرَأً مُسْلِمًا فِي مَوْطِنٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ وَيُنْتَهَكُ فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ إِلَّا نَصَرَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ).
فلا يَهولنَّكم قوّة عدوّكم، ولا كثرة عتادهم، ولا طول طغيانهم، بل اجأروا إلى ربّكم واستنصروه على هؤلاء الأعداء المجرمين، فلن يصمد الباطل في وجه الحقّ، ولن يُنصر في الأرض من حُورب في السّماء.
إنّ معرفة أحوال الأمم ونهاية الدّول، وعاقبة الظّلم والظّالمين عبرةٌ لأولي الألباب، والسّعيد من وُعظ بغيره، وإنّ التّاريخ البشريّ مليءٌ بالعظات والعبر، زاخرٌ بالحوادث والقصص، الّتي أضحى الآمر فيها مأمورًا، والعزيز ذليلًا، والآمن خائفًا، سواءٌ مِن ذلك ما وقع في الأمم الغابرة والقرون الخوالي، أو ما شهدناه فيما عشنا، ونعيشه اليوم.
http://shamkhotaba.org