أمانة المسؤوليَّة، وواجب النُّصح مِن الرَّعيَّة
الكاتب : رابطة خطباء الشام
الأربعاء 2 مارس 2022 م
عدد الزيارات : 1271
مقدمة:
استخلف الله الإنسان على هذه الأرض، بعد أن سوّاه ونفخ فيه مِن روحه: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ * قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ * قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [ص: 71-76].
وهو في هذا الاستخلاف يطيع ربّه ويعصي شيطانه: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30].
وعرض عليه الأمانة فقبلها: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا * لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 72-73].
وهذا يقتضي أنّه غدًا سيُسأل عن هذه الأمانة فعَنْ أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ). سنن التّرمذيّ: 2417
فما حدود هذه المسؤوليّة، هل يسأل الله الأفراد دون أمرائهم؟ أم يسأل الأمراء دون الأفراد؟
1- كُلُّكم مسؤولٌ
لا بدّ أن يقف المرء وحيدًا بين يدي ربّه غدًا ليسأله يوم القيامة عن الأمانات التي اؤتمن عليها، هل حفِظ أم ضيّع، فعن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنه، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ) قَالَ: -وَحَسِبْتُ أَنْ قَدْ قَالَ- (وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي مَالِ أَبِيهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ). صحيح البخاريّ: 893
وقد جاءت الشّريعة بتكامل المسؤوليّة، فلم يتمّ إلقاؤها على جانبٍ واحدٍ فحسب، بل هي موزعةٌ على الجميع، كلٌّ بحسب موقعه وصلاحيّاته، وقدرته على التّأثير، فمسؤوليّة العالِم تختلف عن مسؤوليّة الجاهل، ومسؤوليّة الأمير تختلف عن العناصر، لكنّ الجميع مسؤولٌ، فالله سيسأل العنصر هل نصح لأميره أم غشّه! فعَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: (الدِّينُ النَّصِيحَةُ) قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ: (لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ). صحيح مسلم: 55
يقول ابن رجبٍ: في جامع العلوم والحكم: "أَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ النُّصْحُ لِوُلَاةِ الْأُمُورِ، وَنُصْحُهُمْ لِرَعَايَاهُمْ، فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا: يَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا، وَأَنْ تَنَاصَحُوا مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ أَمْرَكُمْ). صحيح مسلم: 1715
وَفِي الْمُسْنَدِ وَغَيْرِهِ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي خُطْبَتِهِ بِالْخَيْفِ مِنْ مِنًى: (ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ: إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ، وَمُنَاصَحَةُ وُلَاةِ الْأَمْرِ، وَلُزُومُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ). مسند أحمد: 16754 جامع العلوم والحكم: 1/217
وكذلك واجب الأمير أن يحفظ رعيّته، وإلا فالنّار؛ عَادَ عُبَيْدُ اللهِ بْنُ زِيَادٍ مَعْقِلَ بْنَ يَسَارٍ الْمُزَنِيَّ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، قَالَ مَعْقِلٌ: إِنِّي مُحَدِّثُكَ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، لَوْ عَلِمْتُ أَنَّ لِي حَيَاةً مَا حَدَّثْتُكَ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللهُ رَعِيَّةً، يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ، إِلَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ). صحيح مسلم: 142
فما أعظمها مِن مسؤوليّةٍ، وما أخطرها مِن عاقبةٍ!
2- نماذج مِن نُصح العُلماء للأمراء
لا يستقيم حال الأمراء ما لم يتعهّدهم النّاس بالنّصح والمتابعة، وإنكار ما يكون منهم مِن منكرٍ، لأنّ الإمارة فيها الصّلاحيات الواسعة، الّتي تغري المرء بالجَور والبطش، وسريعًا ما نرى الرّجل الصّالح بعد أن يستمرئ طعم الإمارة يبدأ بالانحراف، ثمّ إنّ الإنكار عليهم يحتاج مِن قوّة الإيمان والجرأة ما يفتقده كثيرٌ مِن النّاس اليوم، لأنّ التّفكير المصلحيّ قد يمنع المرء مِن الإنكار على الأمير، إذ التّرقيات بيده، والعزل بيده، والمِنح الماليّة وفُرص العمل بيده، فيما يظنّ النّاس ويرون مِن ظاهر الأمر، أمّا العلماء فيعلمون أنّ الفاعل على الحقيقة هو الله، والمالك على الحقيقة هو الله، ولا نفع ولا ضرّ إلا بيده، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه أَنَّهُ: كَانَ خَلْفَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لِي وَأَنَا رَدِيفٌ خَلْفَهُ: (يَا غُلَامُ إِنِّي مُعَلِّمُكُ كَلِمَاتٍ فَاحْفَظْهُنَّ، احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، وَإِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ جَفَّتِ الْأَقْلَامُ، وَطُوِيَتِ الصُّحُفُ). المعجم الكبير للطّبرانيّ: 12988
ومِمّا نُقل مِن نهيٍ للأمراء: ما رُوي في الصّحيح عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ -وَهَذَا حَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ- قَالَ: أَوَّلُ مَنْ بَدَأَ بِالْخُطْبَةِ يَوْمَ الْعِيدِ قَبْلَ الصَّلَاةِ مَرْوَانُ، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ، فَقَالَ: الصَّلَاةُ قَبْلَ الْخُطْبَةِ، فَقَالَ: قَدْ تُرِكَ مَا هُنَالِكَ، فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: أَمَّا هَذَا فَقَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ). صحيح مسلم: 49
وهذا العزّ بن عبد السّلام -بائع الأمراء- يقف في وجه أمراء المماليك ويُنكر عليهم ما هم فيه مِن أوضاعٍ غير شرعيّةٍ، لكنّهم لا يستجيبون له، فيجمع متاعه ويخرج مِن مصر غضبًا لمنكرٍ لم يستطع تغييره، فإذا النّاس يخرجون وراء الشيخ استرضاءً له، الأمر الّذي صنع -كما يقال- رأيًا عامًّا أجبر الحكّام على التّراجع واسترضاء الأمير والتّلطّف به دون تغيير حقيقيٍّ، وأرسل إليه كبيرهم -نائب السّلطان- بالملاطفة، والشّيخ لم يتغيّر، لأنّه يريد إنفاذ حكم الله، عندئذٍ انزعج نائب السّلطان وأصدر قراره بتصفية الشّيخ جسديًّا، وقال: "...واللهِ لأضربنّه بسيفي هذا في جماعته"، وجاء إلى بيت الشّيخ -والسّيف في يده صلتًا- وطرق الباب، فخرج إليه ولد الشّيخ، فرأى أمرًا جلدًا، وعاد إلى أبيه، وأخبره الحال، فقال بائع الأمراء -ممتلئًا إيمانًا بربّه- لولده: يا ولدي! أبوك أقلّ مِن أن يُقتل في سبيل الله، فلمّا رآه نائب السّلطان اهتزّت يده وارتعدت فرائصه وسقط أرضًا، فبكى، وسأل الشّيخ أن يدعو له. يُنظر: السّلطان سيف الدّين قطز ومعركة عين جالوت، للصّلّابيّ: 1/36
فانظر إلى تعاون العالِم مع العامّة للوقوف في وجه السّلطان الجائر.
خاتمةٌ:
أقسَم الله في قرآنه أن سيسألنا جميعًا: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحِجر: 92-93].
ثمّة موقفٌ لا بدّ للظّالم أن يقفه: {وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ * هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ * احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ * وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصّافّات: 20-24].
والسؤال فرديٌّ يومئذٍ، لا حاشيةٌ ولا جنودٌ، فقد يمتنع الظّالم في الدّنيا بشيءٍ مِن عرَضها؛ كالجاه والمال والسّلطان، أمّا في القيامة فيأتي فردًا: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم: 93-95].
يقول الحقّ: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا * كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا * وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا} [مريم: 77-80].
ونظرًا لما تقدّم: فالمسؤوليّة تقع على الجميع، ومسؤوليّة الأمراء أعظم وأكبر مِن مسؤولية عامّة النّاس، لِما لهم مِن سُلطاتٍ وصلاحيّاتٍ، والرّجل في بيته مسؤولٌ، والمرأة مسؤولةٌ، والابن مسؤولٌ، وكلّنا راعٍ، وكلّنا مسؤولٌ.

http://shamkhotaba.org