ثورتُنا مُستمِرَّة.. رُغم الظُّروف المُرَّة
الكاتب : رابطة خطباء الشام
الأربعاء 16 مارس 2022 م
عدد الزيارات : 848
مقدمة:
وجوهٌ بيضاء تنساب مِن الطُّرق الفرعية إلى الطُّرق العامّة؛ كما تنساب الجداول الصّغيرة لتشكّل النّهر الكبير، وأقدامٌ متوضّئةٌ -أطهر مِن جباه السّلاطين الظّلمة- تخطّ إذ تمشي خطًّا جديدًا في التّاريخ، وصيحات تكبيرٍ تملأ الميادين بعد صلاة الجمعة، وهتافاتٌ طموحةٌ، وشعبٌ يريد إسقاط النّظام، وعبارات تضامنٍ عابرةٌ للمحافظات: "يا إدلب درعا معاك للموت"، بل عابرةٌ للأقطار، إذ يتضامن السّوريّ مع المصريّ، تجسيدًا لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَبِي مُوسَى الأشعريّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا). مسند أحمد: 196250
إذا استحضرت هذا كلّه فأنت تقف على أعتاب ثورةٍ كبيرةٍ، ستترك أثرًا في التّاريخ المعاصر لسوريّا، وستكشف عن بطولاتٍ كبيرةٍ، وتضحياتٍ جزلةٍ ما كان المرء ليتصوّر حدوثها لولا أنّها حدثت على الحقيقة، ولكان للمرء أن يشكّك في إمكانيّتها لولا أنّ أقوى أدلّة الإمكان الوقوعُ، أضجع الخليل عليه السلام ابنه للذّبح إذ أمره الله جل جلاله: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} الصّافّات [100-107].
وأمر الله سبحانه المؤمنين أن يتبّعوا ملّة إبراهيم عليه السلام: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النّحل: 123].
فهل يتصوّر امرؤٌ أن يضجع اليوم أحدٌ ولده للذّبح؟ لقد رأينا الأمّهات يودّعن أبناءهنّ قبل توجّههم إلى ميادين العزّ والشّرف، ثمّ لا تكتفي الأمّ بتقديم الشّهيد والشّهيدين، حتّى صار لدينا خنساواتٌ في المحرّر، أمرٌ يصعب تصوّره، لكنّه كان.
1- آذار يُبشِّر بالرَّبيع
في آذار مِن سنة (2011م) تفتّحت أزهارٌ مِن نوعٍ جديدٍ، عهد النّاس أنَّ الرّبيع يزيّن الأرض بأزهار اللّوز والكرز، لكنّ الزّمان ما يفتأ يأتي بالعجائب، بدأت شجرة الحرّيّة تُظهر للنّاس مِن زينتها ما فتنهم، فحرّكت النّفوس التوّاقة إليها، والنّاس في عطشٍ شديدٍ لها، يحلمون بها ويرجون، وما إن لاحت لهم الفرصة حتّى اقتنصوها، وهم في ذلك على دربٍ مشروعٍ، فقد أمر النّبيُّ صلى الله عليه وسلم النّاسَ أن تسعى في تغيير المنكر، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ رضي الله عنه: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ). صحيح مسلم: 69
وإنّ مِن أعظم المنكر أن يسكت المسلمون عن طغمةٍ مِن الضّبّاط النّصيريين يتحكّمون في دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم، والأهمّ مِن ذلك يتحكّمون في دينهم، فيمنعون النّاس مِن أداء صلوات الجمعة والجماعات في الخِدمة الإلزاميّة، وقد بيّن نبيّنا صلى الله عليه وسلم أنّه مأمورٌ بالقتال حتّى يقيمَ النّاس الصّلاة، فقد ورد عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الإِسْلاَمِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ). صحيح البخاريّ: 25
فعلّق إيقاف القتال على إقامة النّاس للصّلاة، ومَن امتنع عنها قوتل، فما بالك بالّذي لا يمتنع فحسب؟ بل يمنع النّاس عنها! {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى * كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ * فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ * كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 9-19].
إنّ عدونا لا يستحقّ أن يُقاتَل فحسب، بل لقد بلغ مبلغ أبي جهلٍ فرعون هذه الأمّة في الطّغيان، ويستحقّ ما استحقّ مِن الوعيد، لكنّ أبا جهلٍ كانت تحكمه مروءة العرب، وهذا لا خُلقٌ ولا دينٌ.
هذا الحقّ الّذي خرج النّاس للمطالبة به استدعى أن يَجود النّاس بأموالهم وأنفسهم وأبدانهم في سبيله، والحقّ يستحقّ، فتاجرَ النّاسُ أربحَ تجارةٍ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [الصّفّ: 10- 11].
إنّ هذه التّضحيات السّالفة تحتاج إلى مثابرةٍ لئلّا تذهب سدًى، وأنصاف الثّورات مقبرةٌ للثّائرين.
2- غرسةٌ تحتاج إلى عِنايةٍ
يستعجل البعض ثمار الثّورة، وربّما أدركه الضّجر لمِا رأى مِن أخطاء فيها، ومِن تعثّرٍ وتراجعٍ، مع ضيق المساحة الّتي يُسيطر عليها الثّوار اليوم مقارنةً بما كان عليه الحال قبل عِقدٍ مِن الزّمان، لكنّ الثّورات على الحقيقة تغلب فيها التّضحية على جني الثّمار، لأنّ الغرسة لم يشتدَّ عودها ولم تنضج ثمرتها بعد، وما تزال تحتاج إلى عنايةٍ ورعايةٍ، تحتاج إلى المزيد مِن العَرَق والدّماء؛ كي تمتدّ جذورها في النّفوس أكثر فأكثر، فيثبت عليها الجيل التّالي، وإذا استطعنا توريث الثّورة إلى جيلٍ لاحقٍ ضمنّا لها الاستمرار حتّى النّصر، ولا يتمّ توريثها إلّا بالثّبات على ما فيها مِن بلاءٍ وشدّةٍ، عَنْ خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ رضي الله عنه، قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الكَعْبَةِ فَقُلْنَا: أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا أَلاَ تَدْعُو لَنَا؟ فَقَالَ: (قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ، يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهَا، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الحَدِيدِ، مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ، فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرُ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لاَ يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ، وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ). صحيح البخاريّ : 6943
ومَن تأمل سيرة النّبيّ صلى الله عليه وسلم وصبره في مجالدة الباطل ومجاهدته علم أنّ الطّريق ليس باليسير إلّا على مَن يسّره الله عليه، وقد ارتضى أصحاب الأخدود يومًا أن يبذلوا نفوسهم في سبيل الله وما رأوا ثمرة تضحياتهم، وقُتل نبيّ الله يحيى وأبوه زكريا إ وما انتصفا في الدّنيا مِن القتلة.
صحيحٌ أنّ مساحة سيطرة الثّورة تراجعت، لكنّ هذا التّراجع الّذي تمّ له أسبابه الموضوعيّة الّتي تجعله أمرًا مفهومًا غير خارجٍ عن سنن الله في كونه، فالكلمة المتفرّقة أضعف من الكلمة الواحدة، والتّنازع سبيلٌ إلى الفشل {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46].
إذا اجتمع إلى تفرُّقنا اجتماعُ الأعداء علينا مِن كلّ جانبٍ، فروسيا وإيران وداعش عداوةٌ علنية، وقوًى كثيرةٌ تعلن الصّداقة وتُبطن الشّر، أفلا يحدث تراجعٌ والحال هذه؟
وَلَو كَانَ سَهْمًا وَاحِدًا لاتَّقيته    ولكنّه سهمٌ وثانٍ وثالث
لكنّ الواجب علينا الإصلاح ما استطعنا، وجمعُ الثّورة على كلمةٍ واحدةٍ، مع الاستعداد لجولاتٍ قادمةٍ مع طغمة الظّلم والفساد المتمثّلة بنظام الإجرام، ومع جولاتٍ قادمةٍ مع الفساد داخل مؤسّسات الثّورة، حتّى تكون محلّ رضى الله عز وجل، فتحافظ على صورتها نقيّةً في عيون أبنائها وأنصارها.
خاتِمةٌ:
العمل لدِين الله والعيش في سبيل الله مشروع العمر، لا ينظر المرء كم أمضى فيه مِن الوقت وكم بذل فيه مِن الجهد، لأنّه موضوع حياتنا ومحورها الأساس، ولو جعل المرء ينظر النّتائج السّريعة لتضحياته لأخطأ بالغ الخطأ، فنحن نبذل ما نبذل ونسأل الله القبول، {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 60-61].
ومَن ظنّ أنّ الثّورة مزرعةٌ خصبةٌ تبذر فيها اليوم وتحصد فيها غدًا فقد أخطأ التّقدير، بل هي العمر، حتّى يقضي المرء نحبه {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23].
نتمسّك بثورتنا كلّ التّمسّك، ونسعى في إصلاحها كلّ السّعي، حتّى تحين فرصةٌ؛ فنرجعها جذعةً كما كانت وأقوى بإذن الله.
ثمّ إنّ الأيام تظهر لنا عن خفاياها، فمَن كان يظنّ أن تتحرّر مناطق درع الفرات، ثمّ عفرين وغصن الزّيتون ثمّ نبع السّلام في فترة تراجع الثّورة؟ ومَن كان يظنّ أن تندلع حربٌ بين روسيا رأس الإجرام، وأوكرانيا؟ هذه أمورٌ استجدّت مِن حيث لا نعلم ولا نملك، لها تأثيراتٌ كبيرةٌ على حالتنا الرّاهنة.
دعِ المقاديرَ تجري في أعِنَّتها    ولا تَبِيتَنَّ إلَّا خاليَ البالِ
ما بين غمْضةِ عينٍ وانتباهتِها    يُغيِّر اللهُ مِنْ حالٍ إلى حالِ
نحن نجزم أنّ عاقبة أمر المسلمين إلى خيرٍ، لمِا بشّرتنا الأحاديث والنّصوص العامّة في هذا الشّأن، نظلّ متمسّكين بالدّرب القويم، حتّى إذا أدركتنا المنيّة أدركتنا على استقامةٍ، سائلين الله أنّ يقرّ أعيننا بنصرٍ وتمكينٍ للمسلمين.

http://shamkhotaba.org