بالتَّراحُم نستقبل شَهر الرَّحمة
الكاتب : رابطة خطباء الشام
الأربعاء 23 مارس 2022 م
عدد الزيارات : 1322
مقدمة:
لقد رحم الله البشريّة بالنّبوءات، وشرع لها التّشريعات، لتدلّها على التّوحيد والإيمان، وتهذّب فيها السّلوك والوجدان، وتزرع فيها الرّحمة والرّأفة بالعباد، فبرحمة الله يتراحمون، وبها يتواصلون ويتعاطفون، فيرقّ قويّهم لضعيفهم، ويُعين قادرُهُم عاجزَهم، ويحنو كبيرهم على صغيرهم، وكلّها مِن الخصال الحميدة  الّتي يتحلّى بها أهل الإيمان، ولكن إذا ما ضعف إيمانهم وقلّ إحسانهم، أو فترت عزائمهم وتسلّطت عليهم شياطينهم، فجمحت بهم إلى زخارف الدّنيا جاءهم -بين الحين والآخر- ما يذكّرهم ربّهم، ويزيد في إيمانهم، ويجدّد رغبتهم في الآخرة، كما يتجلّى ذلك في مواسم الخيرات والرّحمات عمومًا، و شهر رمضان -خصوصًا-  الّذي يعود كلّ عامٍ، واحدٌ مِن هذه المواسم العظيمة المباركة، حيث تنبعث فيه النّفوس مِن كسلها، ويتجددّ نشاطها، وتقوى عزائمها، وتشتدّ رغبتها فيما عند الله، فلا تراهم إلّا ركّعًا سجّدّا، يتلون كتاب الله، ويخلصون له الدّعاء، ويرجون رحمته، ويخافون عذابه، مع محبّةٍ وخشوعٍ، وإنابةٍ وخضوعٍ، فتزكو نفوسهم، وترقّ قلوبهم، وتجود مدامعهم، وترخص الدّنيا في ميزانهم، فيُرفع عنهم التّحاسد والتّباغض والتّقاطع، الّذي هو مِن أثر حبّ الدّنيا، وها هم قد سما بهم إيمانهم عنها كلّها؛ فأصبحوا مِن طلّاب الآخرة.
1- تفقَّد قلبك قبل رمضان
لقد جمع الإسلام النّاس بعد التّفرّق، ووحّدهم بعد الشّتات، وأبدل ما في قلوبهم مِن البغضاء والشّحناء محبّةً ووِئامًا وإيثارًا، قال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103].
وامتنّ الله على نبيّه بتأليفه بين قلوب عباده، {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ}، فكان لا بدّ مِن الاعتناء بهذه القلوب وتصفيتها مِن كلّ زغلٍ، وتنقيتها مِن كلّ شائبةٍ في كلّ وقتٍ، لا سيّما في الأوقات الفاضلة كأيّام شهر رمضان الّتي ننتظرها على أحرّ مِن الجمر، ولقد علّمنا ديننا الحنيف أنّ أمراض القلوب سببٌ لردّ الأعمال؛ مِن صيامٍ وقيامٍ وسائر الأعمال الصّالحة، ولقد أشار النّبي صلى الله عليه وسلم في حديث ليلة النّصف مِن شعبان بوجوب طهارة القلب وسلامة الصّدر، فإن لم يطهّر قلبه كان مِن المحرومين المطرودين، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (يَطَّلِعُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى خَلْقِهِ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِعِبَادِهِ إِلَّا لِاثْنَيْنِ: مُشَاحِنٍ، وَقَاتِلِ نَفْسٍ). مسند أحمد: 6642
فأصحاب القلوب السّليمة، يفيضون بالخير والبرّ والإحسان على النّاس، ويتزيّنون بكلّ خلقٍ جميلٍ، فسرائرهم نقيّةٌ، وجوارحهم طاهرةٌ، فهم أسلم النّاس صدورًا وأطهرهم قلوبًا، ولكنّ أصحاب القلوب القاسية السّوداء محجوبةٌ عن ربّها، محرومةٌ مِن نفحات خالقها، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ، وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا، إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا). صحيح مسلم: 2565
إنّ أصحاب القلوب السّليمة يُدركون عظيم الأجر، ويبلغون مِن المنازل العالية -بطهارة قلوبهم ونقائها- ما لا يبلغه الصّائمون القائمون بصيامهم وأعمالهم الصّالحة، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنه، قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: (كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ، صَدُوقِ اللِّسَانِ)، قَالُوا: صَدُوقُ اللِّسَانِ، نَعْرِفُهُ، فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ؟ قَالَ: (هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ، لَا إِثْمَ فِيهِ، وَلَا بَغْيَ، وَلَا غِلَّ، وَلَا حَسَدَ). سنن ابن ماجه: 4216
وإنّ سلامة الصّدر خصلةٌ مِن خصال البرّ العظيمة، فحريٌّ بالمسلم أن يوليها عنايته واهتمامه، لا سيّما في مثل هذه الأيّام الفاضلة، الّتي نستقبل فيها شهر الصّيام، والّذي هو سببٌ لإزالة ما في القلوب مِن الفساد، فتُقبل النّفوس على الصّفح والعفو والمسامحة، عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (صَوْمُ شَهْرِ الصَّبْرِ وَثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ صَوْمُ الدَّهْرِ، وَيُذْهِبُ مَغَلَةَ الصَّدْرِ) قَالَ: قُلْتُ: وَمَا مَغَلَةُ الصَّدْرِ؟ قَالَ: (رِجْسُ الشَّيْطَانِ). مسند أحمد: 21364
2- الرَّحمة سببٌ للرَّحمة
إنّ الله أقام صلاح المجتمعات كلّها على أساسٍ واحدٍ لا بدّ مِنه، ألا وهو: التّراحم، فحيثما وُجد التّراحم صلح المجتمع، ولقد أثنى الله على صحابة رسوله بخُلُق الرّحمة؛ فقال: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29].
ولكنّ المجتمع الّذي يختفي التّراحم ممّا بين أبنائه، لا بدّ أن تختفي رحمة الله عنه، حيث أوضح العلاقة اللّزوميّة بين تراحم النّاس فيما بينهم، وبين رحمة الله لهم، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (لاَ يَرْحَمُ اللَّهُ مَنْ لاَ يَرْحَمُ النَّاسَ). صحيح البخاريّ: 7376
ولئن كان الإسلام قد حثّنا على تفعيل مبدأ التّراحم فيما بيننا في سائر الأوقات، فإنّ الأمر يتضاعف في الأيّام الفاضلة كشهر رمضان وغيره، حيث لا يخفى على أيّ إنسانٍ أنّه شهر الرّحمة والغفران والجود والإحسان، ممّا يوجب علينا أن نكون متراحمين مُتعاطفين، يشعر أغنياؤنا بفقرائنا، ويحنو أقوياؤنا على ضعفائنا، فتسود فيما بيننا المودّة والمحبّة، ويعيش المجتمع حياةً آمنةً هادئةً، ينعم أبناؤه فيها بالأمن والرّخاء، قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التّوبة: 71].
هكذا يكون المؤمنون؛ متعاونين متحابيّن، تسود بينهم روح المحبّة والإخاء، فيعيشون في جوٍّ مِن النّقاء والصّفاء، جسدًا واحدًا كما مثّل رسول الله صلى الله عليه وسلم، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى). صحيح مسلم: 2586
ولقد حثّنا ديننا الحنيف على البذل والعطاء في سبيل إسعاد الآخرين وإدخال السّرور عليهم -لا سيّما في شهر رمضان- عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه، أَنَّ رَجُلًا، جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ وَأَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: (أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ تَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا، أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا). المعجم الصّغير للطّبرانيّ: 861
وإنّها لمقصدٌ عظيمٌ مِن مقاصد الصّوم، ومعنىً أراده الشّارع الحكيم ليهذّب الأخلاق ويسمو بنفوس الصّائمين، فلقد سُئل أحد السّلف لمَ شُرع الصّيام؟ قال: "ليذوق الغنيّ طعم الجوع، فلا ينسى الجائع". الحافظ بن رجب، لطائف المعارف، :315
فلئن نسي المنعَّمون أو غفلوا عن حوائج المحتاجين طوال العام -وما كان لهم أن ينسوها- فشهر الصّيام يذكّرهم بمِن أثخنتهم الجراح وهجّرتهم البراميل المتفجّرة للعراء، فعزّ فيهم الطّعام وقلّ الكساء، والشّراب والدّواء، فكان المحسنون عونًا لهم ومددًا، أمّا الّذين ينتهي تفكيرهم في الصّيام عند الإمساك عن الطّعام والشّراب، دون إحساسٍ بالحكمة والسّرّ العظيم مِن وراء ذلك؛ فما فقِه هؤلاء حكمة الصّيام، وما لله حاجةٌ أن يدع أحدهم طعامه وشرابه، دون أن يورّثه ذلك تقوىً وخشيةً، تدعوه لفعل الخيرات، وتنأى به عن المحرّمات، وتهذّب نفسه، وترقّق مشاعره.
خاتمةٌ:
فلنستقبل هذا الشّهر الكريم بقلوبٍ عامرةٍ، ونفوسٍ طاهرةٍ، وتوبةٍ صادقةٍ خالصةٍ، ولنغتنم أيّامه ولياليه في تقديم وجوه الخير وأعمال البرّ للنّاس، ونسعى إلى مرضاة الله بالتّكافل والتّعاون والتّراحم، ولنتذكّر أهل الفاقة والبلاء، والمصائب واللأواء، فإنّهم ينتظرون مدد السّماء، وإغاثة أهل الوفاء، في موسم الصّدقات والقربات، وموسم المسارعة إلى الجود والعطاء، قال تعالى: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} [المزّمّل: 20].
أقبلت ليالي الجود والغفران، فشدّوا عزمكم للصّيام والقيام، واغسلوا القلوب وطهّروها، وابتعدوا عن الذنوب وجانبوها، ونزهوا أنفسكم عن فحش الكلام، ورطّبوها بذكر العليم العلّام، وانزعوا مِن قلوبكم الحقد والحسد، والعداوة والبغضاء، وارحموا مَن في الأرض يرحمكم مَن في السّماء، وانهجوا في الصّوم نهج الأبرار مِن أسلافكم وسيروا فيه سير الصّالحين مِن أمّتكم، فقد كانوا يقطعون أيّام رمضان ولياليه بالصّيام والقيام، وصلة الأرحام والعطف على البائسين والأيتام.

http://shamkhotaba.org