شهر الفتوحات والانتصارات
الكاتب : رابطة خطباء الشام
الأربعاء 20 أبريل 2022 م
عدد الزيارات : 1117
مقدمة:
إنّ سيرة رسولنا المصطفى صلى الله عليه وسلم زاخرةٌ بالحِكَم والأحكام، والدّروس والفوائد، وليست قصصًا مِن نسج الخيال، ولا هي إبداعُ قلم كاتبٍ، بل هي حقٌّ واقعٌ، فيها العبرة والموعظة الحسنة، تحوي أحكامًا فقهيّةً، ودروسًا تربويّةً، وتنطوي على علومٍ متعدّدةٍ، كالسّياسة والاقتصاد، وشؤون الحرب والجهاد، وإنّ ممّا وقع في شهر رمضان مِن السّنة الثّامنة للهجرة، مِن الأحداث الكبرى، والمغازي العظمى: معركة الفتح المبين، الّتي أعزّ الله بها جند الإسلام، ورفع بها كرامتهم؛ حتّى بلغت عنان السّماء، فكما أنّ رمضان شهر العبادات، فقد خلّد لنا على صفحات أيّامه أجمل الانتصارات، والّتي مِن أبرزها: فتح مكّة، الّتي طُهّرت مِن الرّجس والأوثان، على يد أهل الإيمان.
إنّها مكّة: فيها وُلد سيّد الأنام، وعاش فيها يُتمه وفقره، وعرفته جبالها وسهولها زمن صباه، راعيًا لأغنام قريش على قراريط يُعين بها عمّه الفقير، إنّها مكّة: فيها تزوّج وأنجب، وكُلّف وبُعث، ليُخرج النّاس مِن الظّلمات إلى النّور، فشهدت مكّة إيذاء المشركين له ولأتباعه الّذين آمنوا، كما سجّل تاريخها قوّة إيمان أتباعه، وشدّة بأسهم، وصلابتهم في الحقّ، إنّها مكّة: فيها عُذّب النّبيّ المختار وصحبه الأخيار، عُذّبوا فما ارتدّوا، وأُخرجوا مِن ديارهم فخرجوا، وخُلعوا مِن أموالهم فانخلعوا، فرّقتهم قريش عن آبائهم وأبنائهم ونسائهم فتفرّقوا، هاموا في الأرض، وهاجروا إلى البلدان، وهجروا الرّاحة والأمان، وانتقلوا مِن الغنى إلى الفقر، ومِن الاستقرار إلى التّشريد، كلّ ذلك ابتغاء رضوان الله جل جلاله، فلله كم ضحّوا! وكم صبروا! قال تعالى: {فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146].
ولكنّه حفظ لهم تضحياتهم، فأعادهم إلى مكّة فاتحين منصورين، ليعلّموا الأجيال القادمة بأنّ طريق النّصر شاقٌّ لا محالة، وأنّ الباطل مندحرٌ، وكلّ ذلك بعد دفع الثّمن مِن البذل والتّضحية. 
الله أكبر! ما أحسن العزّ بالإسلام! وما أجمل الدّوائر حينما تدور لأهل الإيمان على أهل الأوثان! وما أروع نشوة النّصر بعد الصّبر!
1- ساعةٌ حاسمةٌ في تاريخ مكَّة
إنّ فضل مكّة لا يخفى على أحدٍ، فهي الّتي احتضنت أوّل بيت وُضع للنّاس، وُلِد  فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، و استقبلت أوّل آيةٍ نزلت عليه، ولكن -وللأسف- فإنّ دعوة الرّسول صلى الله عليه وسلم الّتي استمرّت فيها ثلاث عشرة سنةً لم يسلم حاملوها مِن كفّار قريش، حيث تعرّضت هذه القلّة -في سبيل عقيدتهم- لأنواع التّعذيب، وأشكال التّنكيل، حتّى آذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وضربوه، وتآمروا ضدّه، فهاجر مِن مكةّ فارًّا بدينه لا ببدنه، خرج مِن مكّة لا ليغادرها إلى الأبد، ولكن ليُعدّ لفتحها العدّة والعُدد، فخرج مِن بلد الله الحرام؛ الّتي وُلد فيها وترعرع، مهاجرًا مستخفيًا مِن قريش وشدّتها، وما هي إلّا رمضاناتٌ سبعٌ، حتّى عاد إليها فاتحًا يطهّرها مِن الشّرك والوثنيّة، ويُعلن فيها التّوحيد لله ربّ العالمين، خرج منها مستخفيًا مِن قريش، فعاد إليها وقريش تخافه، إنّ هذا الزّمن الّذي كان بين خروجه شريدًا وعودته فاتحًا، أشبه ما يكون بأسطورةٍ يتسلّى بها أهل الحكايات، لكنّ هذا الزّمن حقيقةٌ مِن الحقائق الّتي جلّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام رضي الله عنهم، بصدق الإيمان، وصحّة المنهج، وتحقيق الإخلاص، ولمّا حانت السّاعة الحاسمة في تاريخ مكّة، دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها عزيزًا منصورًا مكرّمًا، وقد أخرجه منها المشركون قبل سنواتٍ قليلةٍ فقط، فطاف حول البيت، وهو يطعن الأصنام بعودٍ كان في يده ويقرأ قول الله سبحانه: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81].
مكسّرًا كلّ الأصنام، ولمّا دخل الكعبة وجد فيها صورًا فأمر بإزالتها، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه، قَالَ: كُنْتُ آتِي رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كُلَّ غَدَاةٍ، فَإِذَا تَنَحْنَحَ دَخَلْتُ، وَإِذَا سَكَتَ لَمْ أَدْخُلْ، قَالَ: فَخَرَجَ إِلَيَّ فَقَالَ: (حَدَثَ الْبَارِحَةَ أَمْرٌ، سَمِعْتُ خَشْخَشَةً فِي الدَّارِ، فَإِذَا أَنَا بِجِبْرِيلَ، فَقُلْتُ: مَا مَنَعَكَ مِنْ دُخُولِ الْبَيْتِ؟ فَقَالَ: فِي الْبَيْتِ كَلْبٌ)، قَالَ: فَدَخَلْتُ، فَإِذَا جَرْوٌ لِلْحَسَنِ تَحْتَ كُرْسِيٍّ لَنَا، قَالَ: فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الْمَلائِكَةَ لَا يَدْخُلُونَ الْبَيْتَ إِذَا كَانَ فِيهِ ثَلاثٌ: كَلْبٌ، أَوْ صُورَةٌ، أَوْ جُنُبٌ). مسند أحمد: 845
أراد أن يعلّم -بفعله- الأجيال مِن بعده بأنّ حبّ الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم أغلى ما يملك الإنسان، ولا أدلّ على ذلك مِن فعل أم حبيبة رضي الله عنها -زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم- يوم أن منعت أباها أبا سفيان أن يجلس على فراش النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا بنيّة أرغبت بي عن هذا الفراش؟ أم رغبت به عنّي؟ قالت: بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت رجلٌ مشركٌ نجسٌ، فقال: والله لقد أصابك بعدي شرٌّ. سيرة ابن هشام: 2/265
2- ومضاتٌ مِن الفتح المبين
إنّ مَن يتأمّل تاريخ الإسلام تتكشّف له الأيّام المجيدة الّتي تشرئبّ لها الأعناق، وتتطلّع إليها النّفوس، لما فيها مِن دروسٍ وعبرٍ، وما تحويه مِن زادٍ، تستطيع الأمّة إن أحسنت الأخذ به أن ترتقي، وتستعيد عزّها المفقود، ومجدها التّليد، وفتح مكّة أحد هذه الأيّام الّتي يشهد التّاريخ على عظمتها وسموّها، ففي ذلك اليوم أرسى النّبيّ صلى الله عليه وسلم قِيمًا عُليا، سبق بها حضارات العالم أجمع. 
نعم: لقد تجلّت في يوم الفتح الأعظم أخلاقٌ عظيمةٌ، ودروسٌ بليغةٌ، ومظاهر الرّحمة والسّماحة وسموّ الأخلاق، الّتي يدعو لها الإسلام الحنيف، ولقد ظهر ذلك بوضوحٍ في دخول النّبيّ صلى الله عليه وسلم مكّة، ولواؤه الأبيض يخفق بين يديه، وبذلك التّواضع العظيم، حتّى كادت لحيته أن تلامس ظهر ناقته مِن شدّة تواضعه، وحرصًا منه على حقن الدّماء، وتأكيدًا على رسالة السّلام الّتي يحملها الإسلام للنّاس جميعًا، أرسل مع أبي سفيان قراره الحكيم، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْفَتْحِ، جَاءَهُ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بِأَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ فَأَسْلَمَ بِمَرِّ الظَّهْرَانِ، فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ يُحِبُّ هَذَا الْفَخْرِ، فَلَوْ جَعَلْتَ لَهُ شَيْئًا، قَالَ: (نَعَمْ، مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ). سنن أبي داود: 3021
وصحّح خطأ سعد بن عبادة رضي الله عنه يوم الفتح، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمَّا سَارَ رَسُولُ اللَّهِ عَامَ الفَتْحِ، فَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: يَا أَبَا سُفْيَانَ، اليَوْمَ يَوْمُ المَلْحَمَةِ، اليَوْمَ تُسْتَحَلُّ الكَعْبَةُ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَا عَبَّاسُ حَبَّذَا يَوْمُ الذِّمَارِ، ثُمَّ جَاءَتْ كَتِيبَةٌ، وَهِيَ أَقَلُّ الكَتَائِبِ، فِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ وَأَصْحَابُهُ، وَرَايَةُ النَّبِيِّ مَعَ الزُّبَيْرِ بْنِ العَوَّامِ، فَلَمَّا مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ بِأَبِي سُفْيَانَ قَالَ: أَلَمْ تَعْلَمْ مَا قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ؟ قَالَ: (مَا قَالَ؟) قَالَ: كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ: (كَذَبَ سَعْدٌ، وَلَكِنْ هَذَا يَوْمٌ يُعَظِّمُ اللَّهُ فِيهِ الكَعْبَةَ، وَيَوْمٌ تُكْسَى فِيهِ الكَعْبَةُ). صحيح البخاريّ: 4280
ومِن ثمّ تتوّج الفتح المبين بالعفو العامّ منه صلى الله عليه وسلم عن قريش، وما هذا إلّا للتّأكيد على أنّ الإسلام دين الرّحمة والسّماحة والسّلام، يحرص على حرمات النّاس، وحفظ أنفسهم وحقن دمائهم، وهو دينٌ يرفض العنف والقتل والتّنكيل والفساد، ويؤكّد على مكانة الإنسان وحرمة دمه، وها هو يُطلق الإعلان العالميّ بحرمة الاعتداء على النّفس والمال والعِرض في خطبة الوداع، عَنْ مُوسَى بْنِ زِيَادِ بْنِ حِذْيَمٍ السَّعْدِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ -حِذْيَمٍ بْنِ عَمْرٍو- أَنَّهُ شَهِدَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَقَالَ: (أَلَا إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، وَكَحُرْمَةِ شَهْرِكُمْ هَذَا، وَكَحُرْمَةِ بَلَدِكُمْ هَذَا). مسند أحمد: 18966
لقد كان فتح مكّة عزًّا ومجدًا للإسلام والمسلمين، أعزّ الله عز وجل به دينه، ونصر به رسوله صلى الله عليه وسلم وجنده الأمين، واستنفد به بلده وبيته، الّذي جعله هدى للعالمين، وأعاد إليه رسوله والمؤمنين، منتصرين غانمين فاتحين، لربهم شاكرين حامدين. 
خاتمةٌ: 
على المؤمنين -أجمعين- أن يعتبروا بهذا النّصر العظيم، وأن تقرّ أعينهم بوعد الله سبحانه وأن يثقوا به، ففتح مكّة لم يأتِ إلّا بعد مدّةٍ تجاوزت عشرين عامًا في الدّعوة إلى الله جل جلاله، والمشركون يصبّون حقدهم على المؤمنين المستضعفين، أرغموهم على الهجرة عن وطنهم مرّتين، وغزوهم في مهاجرهم وحاربوهم فيه، وقد صبروا على أذاهم، وتمسّكوا بدينهم، وجاهدوا في سبيل الله سبحانه، ووثقوا بوعد الله الّذي لا يُخلف الميعاد، حتّى أنعم الله عز وجل عليهم بالنّصر المؤزّر على أعدائهم، والتّمكين في الأرض، والعودة إلى ديارهم، ليكون ذلك عهدًا لكلّ مؤمن بالله حقًّا، يُؤذى في سبيل الله جل جلاله مِن أجل  دينه ومعتقده، فيصبر كما صبروا، ويضحّي كما ضحّوا، ويثق بأنّ جزاء ذلك نصرٌ وتمكينٌ، فالباطل جولةٌ، والحقّ إلى قيام السّاعة.
كانت تلك مواقفُ ومواعظُ مِن الفتح المبين في رمضان العظيم، وأحداث الفتح كثيرةٌ وأخباره غزيرةٌ، ودروسه عديدةٌ، ولكن هل مِن معتبرٍ؟ في زمن تُنسى فيه سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام، الّذين كانت حياتهم جدًّا وعملًا، وجهادًا وعبادةً، ولكن -وللأسف- فإنّ كثيرًا مِن النّاس زهدوا في سيرة سلفهم رضي الله عنهم، واستبدلوا بها سيرة السّاقطين الماجنين، فكان هذا الشّهر الكريم عندهم موسماً للفضائيّات الّتي تبثّ نتنها وخبثها، لتنسيهم أنّ رمضان شهر الانتصار والكفاح، وشهر التّقدم والعمل والنّجاح، وبذلك تخدّرت أمّتنا اليوم، حتّى لم تعد تفقه مِن تاريخ أسلافها شيئًا، ولا مِن حاضرها أمرًا، فلا تزال تُجرح وتُقتّل وهي تضحك، وتُنتهب وأبناؤها لاهون مرحون، فهلّا استفدنا مِن أخبار الفتح المبين، فهيّا لنقرأ سيرة الأبطال، ولنفقه منها الدّروس، لنصلح بها النّفوس، لعلّ القلوب تحيا، والعقول تستضيء، فنستيقظ مِن سباتنا، ونقـتدي بأسلافنا.

http://shamkhotaba.org