مقدمة:
أقسم الله سبحانه في قرآنه بالزّمن مجملًا: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1-3].
وأقسم بأجزائه: {كَلَّا وَالْقَمَرِ * وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ * وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ} [المدّثر: 32-34].
{وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} [التّكوير: 17-18].
{فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ * وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ} [الانشقاق: 16-17].
{وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} [الشّمس: 3-4].
{وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} [اللّيل: 1-2].
{وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضّحى: 1-2].
وفي هذا تنبيهٌ لنا أن نعتني بتقلّبات الزّمان، إذ لا يقسم ربّنا جل جلاله إلّا بما له شأنٌ، ثمّ كان قسَمٌ بزمانٍ خاصٍّ نعيش في ظلاله، ويوشك ينقضي فنبكي على أطلاله {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 1-2].
عن ابن عبّاسٍ رضي الله عنه: "{وَلَيَالٍ عَشْرٍ} عشر الأضحى".
وإذا كان أرباب الدّنيا لا يفوّتون مواسم الرّبح، فحريّ بطلّاب الآخرة أن يغتنموا مواسم الآخرة أيضًا، وهذا الزّمان زمان الرّبح لمن فطن، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ) يَعْنِي أَيَّامَ الْعَشْرِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: (وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ).
فاستحضِر -إن شئت- فضائل جهاد الطّلب مجتمعةً؛ ومنها: (أَمَّا رَأْسُ الْأَمْرِ فَالْإِسْلَامُ، وَأَمَّا عَمُودُهُ فَالصَّلَاةُ، وَأَمَّا ذِرْوَةُ سَنَامِهِ فَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ).
ثمّ حاول أن تزِن تلك الفضائل بعمل عشر ذي الحجّة فلن توزن، إلّا مَن ضحّى بكلّ ما ملك مِن نفسٍ ومالٍ.
1- أعمالٌ صالحاتٌ
ندبنا النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن نكثر مِن الأعمال الصّالحات في هذه العشر، ومِن العمل الصّالح: ذكر الله {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحجّ: 28].
وروى البخاريّ في بداية باب فضائل العشر: "قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنه: وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ: أَيَّامُ الْعَشْرِ، وَالْأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنه وَأَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَخْرُجَانِ إِلَى السُّوقِ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ؛ يُكَبِّرَانِ وَيُكَبِّرُ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهِمَا".
وهذا هو التّكبير المطلَق الّذي يُشرع مِن بداية العشر، فلا يكون مقيّدًا بأدبار الصّلوات.
ومِن العمل الصّالح: الصّوم، عَنْ هُنَيْدَةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنِ امْرَأَتِهِ، عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ تِسْعَ ذِي الْحِجَّةِ، وَيَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، أَوَّلَ اثْنَيْنِ مِنَ الشَّهْرِ وَالْخَمِيسَ".
ومن هذه العشر يوم خاصٌّ يفضُل ما سبقه مِن أيامٍ، إنّه يوم عرفة، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْمَرَ، أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ أَتَوْا رَسُولَ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بِعَرَفَةَ فَسَأَلُوهُ، فَأَمَرَ مُنَادِيًا، فَنَادَى: (الحَجُّ عَرَفَةُ).
وصوم عرفة له فضل امتيازٍ على صوم سائر العشر، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ: رَجُلٌ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: كَيْفَ تَصُومُ؟ فَغَضِبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا رَأَى عُمَرُ رضي الله عنه، غَضَبَهُ، قَالَ: رَضِينَا بِاللهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ غَضَبِ اللهِ وَغَضَبِ رَسُولِهِ، فَجَعَلَ عُمَرُ رضي الله عنه يُرَدِّدُ هَذَا الْكَلَامَ حَتَّى سَكَنَ غَضَبُهُ، فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ بِمَنْ يَصُومُ الدَّهْرَ كُلَّهُ؟ قَالَ: (لَا صَامَ وَلَا أَفْطَرَ) -أَوْ قَالَ- (لَمْ يَصُمْ وَلَمْ يُفْطِرْ) قَالَ: كَيْفَ مَنْ يَصُومُ يَوْمَيْنِ وَيُفْطِرُ يَوْمًا؟ قَالَ: (وَيُطِيقُ ذَلِكَ أَحَدٌ؟) قَالَ: كَيْفَ مَنْ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا؟ قَالَ: (ذَاكَ صَوْمُ دَاوُدَ) قَالَ: كَيْفَ مَنْ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمَيْنِ؟ قَالَ: (وَدِدْتُ أَنِّي طُوِّقْتُ ذَلِكَ) ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (ثَلَاثٌ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، فَهَذَا صِيَامُ الدَّهْرِ كُلِّهِ، صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ، وَصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ).
أمّا ما ورد مِن نهيٍ عن صومه فخاصٌّ بمَن كان بعرفاتٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ رضي الله عنه، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه فِي بَيْتِهِ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ بِعَرَفَاتٍ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ بِعَرَفَاتٍ".
فليس النّهي عامًّا لكلّ أحدٍ.
2- رُكن الدِّين
مِن مزايا هذه العشر: أنّه يتمّ فيها ركنٌ مِن أركان الدِّين {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحجّ: 26-29].
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ).
وقد رتّب النّبيّ صلى الله عليه وسلم على الحجّ المبرور غفران الذّنوب كلّها، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ).
وهذه مقارنةٌ بين جهاد أمّ المؤمنين وحجّها، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، نَرَى الْجِهَادَ أَفْضَلَ الْعَمَلِ، أَفَلَا نُجَاهِدُ؟ قَالَ: (لَا، لَكنَّ أَفْضَل الْجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ).
ومع تقرّر هذا ووضوحه في شرعنا تسمع اليوم مَن ينادي أن لا يحجّ النّاس بدعوى أنّ الفقراء أولى بالمال الّذي ينفقه النّاس في الحجّ، إلّا أنّ الله الحكيم سبحانه شرع الزّكاة ركن الدّين الثّالث لكفاية الفقراء، وشرع الحجّ لمقاصد عظيمةٍ، وإنْ جهلها جاهل {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216].
نعم ربّما كانت المقارنة بين كفاية الفقراء وحجّ النّافلة لها وجهٌ، أما حجّة الإسلام الأُولى المفروضة فهي ركنٌ، ما ينبغي أن يتخلّف عنه مَن استطاع إليه سبيلًا.
وقد تقصُر النّفقة بالمرء عن الوصول إلى بيت الله، فدونه سنّة الخليل، إذ فاته تلبية أذان الخليل، الأضحية طعمةٌ للفقير، وقربةٌ للرّبّ القدير، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِذَا دَخَلَتِ الْعَشْرُ وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ، فَلَا يَمَسَّ مِنْ شَعْرِهِ، وَلَا أَظْفَارِهِ شَيْئًا).
يقول الحقّ سبحانه: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [آل عمران: 92].
ويقول أيضًا: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39].
خاتمةٌ:
قد أقسمَ ربِّيْ بالفجرِ وليالٍ عشرٍ في الذِّكرِ
ما مِن أيَّامٍ تفضلُها يا مَن تبغي فعل الخيرِ
تهليلٌ تكبيرٌ حمدٌ ونصوم التَّاسعَ مِن عشرِ
ونطيب بعاشرِها نفْسًا ونضحِّي في يوم النَّحرِ
فهي أيّامٌ اختصّها الله جل جلاله بالمزايا الفريدة، فلنكثر فيها مِن العمل الصّالح بشتّى أنواعه، صيامًا وذِكرًا وتكبيرًا، واختصّت بوقوع يوم عرفة فيها، فلنحرص على صومه، وعلى التّكبير المقيّد -عقيب الصّلوات- منذ بدايته، بعد تكبيرٍ مطلقٍ يكون مِن بداية العشر، وممّا اختصّت به أن تكون ظرفًا لركنٍ مِن أركان ديننا الحنيف، وفيها تعظيم شعيرة الأضحية: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} [الحجّ: 36-37].
فلنكثر مِن العمل الصّالح فيها ما وسعنا، ولنتنافس فيه {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطفّفين: 22-26].
http://shamkhotaba.org