اجتماع الوفود يُذكِّرنا باليوم الموعود
الكاتب : رابطة خطباء الشام
الأربعاء 6 يوليو 2022 م
عدد الزيارات : 1082
مقدمة:
يوم عرفة هو أعظم يومٍ تشهده أمّة النّبيّ صلى الله عليه وسلم، ففيه تلتقي القلوب، وتنتهي العصبيّات، وتذوب الشّحناء والبغضاء، وفيه تُسكب العبرات، وترتفع الآهات والأنّات، وتختلج القلوب الفرحات.
يوم عرفة هو يوم التّوبة والإنابة والرّجوع إلى الله تعالى، يوم الاصطلاح مع الله تعالى، يوم الطّاعة والإقبال على الله تعالى، يومٌ يعرف فيه العقلاء حقيقة هذه الحياة الدّنيا وحقارتها، وأنّ ما عند الله هو خيرٌ وأبقى.
فللّه تعالى الحمد والثّناء؛ حيث سبقت رحمته غضبه، وتعدّدت نعمه وآلاؤه فلم تنقطع، وله الحمد والثّناء حيث عمّ فضله ونواله، وعظم برّه، لذلك وجب حمده وشكره.
إنَّ مِن أفضل أيّام الدّنيا: يوم عرفة، فهو يومٌ مشهودٌ، يذكّر العباد بالموقف العظيم بين يدي ربّ العالمين في أرض المحشر، حيث يكون النّاس حفاةً عراةً غرلاً.
يوم عرفة يومٌ تتجلّى فيه عظمة الله تعالى، تتجلّى فيه عظمة الفرد الصّمد، الّذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحدٌ، عبادٌ جاؤوا من كلّ فجٍّ عميقٍ، يدعون إلهاً واحداً، بألسنةٍ مختلفةٍ، فسبحان مَن حرّك القلوب، وجمع الأجساد، وعلّم اللّغات، فلا يخفى عليه صوتٌ، ولا تُعجزه حاجةٌ، ولا يُشغله سمعٌ عن سمعٍ، ولا تغلّطه كثرة المسائل، ولا يتبرّم بإلحاح الملحّين.
1- هذه آثار رحمة الله، فلنتذكَّر آثار سخطه
يوم عرفة يذكّر مشهده بمشهد الحشر العظيم في أرض الموقف، حيث لا فرق بين كبيرٍ صغيرٍ، ولا بين سيّدٍ ومسودٍ؛ الكلّ سواءٌ.
هذا اليوم يذكّر الأمّة باليوم الّذي غفلت عنه -إلّا مَن رحم الله تعالى- يذكّرنا باليوم العصيب، كما جاء في الحديث عَنِ ‌ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}، قَالَ: (يَقُومُ أَحَدُهُمْ ‌فِي ‌رَشْحِهِ إِلَى أَنْصَافِ أُذُنَيْه). صحيح البخاريّ: 6531
ما ينبغي أن يغيب عن أبصارنا مشهد يوم القيامة؛ الذي قال الله سبحانه فيه: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ ‌جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 28].
في ذلك اليوم يخرج مِن جهنّم عنقٌ مِن النّار يتكلّم: عَنْ ‌أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (تَخْرُجُ ‌عُنُقٌ ‌مِنَ النَّارِ -يَوْمَ الْقِيَامَةِ- لَهَا عَيْنَانِ تُبْصِرَانِ، وَأُذُنَانِ تَسْمَعَانِ، وَلِسَانٌ يَنْطِقُ، يَقُولُ: إِنِّي وُكِّلْتُ بِثَلَاثَةٍ؛ بِكُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ، وَبِكُلِّ مَنْ دَعَا مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ، وَبِالْمُصَوِّرِينَ). سنن التّرمذيّ: 2574
وفي رواية: (وَبِمَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ، فَيَنْطَوِي عَلَيْهِمْ فَيَقْذِفُهُمْ فِي غَمَرَاتِ جَهَنَّمَ). مسند أحمد: 11354
عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ؛ قَالَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي سَفَرٍ مَعَ سُلَيْمَانَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَأَصَابَتْهُمُ السَّمَاءُ بِرَعْدٍ وَبَرْقٍ وَظُلْمَةٍ وَرِيحٍ شَدِيدَةٍ حَتَّى فَزِعُوا لِذَلِكَ، وَجَعَلَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَضْحَكُ، فَقَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ: مَا ضَحِكُكَ يَا عُمَرُ؟ أَمَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ قَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! هَذَا آثَارُ رَحْمَتِهِ فِيهِ شَدَائِدُ كَمَا تَرَى؛ فَكَيْفَ بِآثَارِ سَخَطِهِ وَغَضَبِهِ؟ المجالسة وجواهر العلم لأبي بكر الدّينوريّ: 1101
إذا كان النّاس في عرفاتٍ، ويتجلّى فيها ربّنا عز وجل تجلّي رحمةٍ، وحصلت صاعقةٌ أو رعدٌ أو ريحٌ، يفزع النّاس، فكيف بحالنا إذا وقفنا بين يدي الله جل جلاله يوم القيامة في أرض الـمحشر وربّنا سبحانه (قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا ‌لَمْ ‌يَغْضَبْ ‌قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ). صحيح البخاريّ: 4712
في يومٍ (يُجْمَعُ النَّاسُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، يُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي، وَيَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ، وَتَدْنُو الشَّمْسُ، فَيَبْلُغُ النَّاسُ مِنَ الْغَمِّ وَالْكَرْبِ مَا لَا يُطِيقُونَ وَلَا يَحْتَمِلُونَ). صحيح البخاريّ: 4712
حقّاً إنّ يوم عرفة مِن أيّام الله العظيمة، يومٌ يحيي القلوب الميتة، ويوقظ العقول الغافلة، ويحيي الأنفس التي غفلت عن الله تعالى، وانشغلت بالدّنيا.
2- السِّلاح المُعطَّل في حياة الأمَّة
السّلاح المعطّل في حياة الأمّة هو سلاح الدّعاء، سلاح الدّعاء به ينشرح الصّدر، وتُيسّر الأمور، ويقبل العبد على طاعة مولاه، وعلى شكره وحسن عبادته، وبه يُعطى المحروم، ويُشفى السّقيم، ويرتاح الفؤاد، ويسلم الإنسان على دِينه ودنياه، وبه يُدفع الضّرّ، وتعمّ البركات، وهو أعظم سلاحٍ يتسلّح به الإنسان المؤمن، وأعظم قوّةٍ يتقوّى بها العبد الضّعيف، لذا كان هو العبادة والسّلاح، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (الدُّعَاءُ ‌سِلَاحُ ‌الْمُؤْمِنِ، وَعِمَادُ الدِّينِ، وَنُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ). المستدرك على الصّحيحين للحاكم: 1812
وعَنِ ‌ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ فُتِحَ لَهُ مِنْكُمْ بَابُ الدُّعَاءِ، فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الرَّحْمَةِ). سنن التّرمذيّ: 3548
هذا السّلاح الذي منحه الله تعالى لعباده، كثيرٌ منهم ما عرف استخدامه، بل إنّ كثيرًا منهم استخدمه ضدّ مَن أساء إليه أو ظلمه، ولم يستخدمه ضدّ نفسه وشيطانه وأهوائه، وما أحوجنا إلى أن نستعمل الدّعاء في إصلاح أحوالنا، عَنْ ‌زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رضي الله عنه قَالَ: لَا أَقُولُ لَكُمْ إِلَّا كَمَا كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ، كَانَ يَقُولُ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْجُبْنِ، وَالْبُخْلِ، وَالْهَرَمِ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ ‌مِنْ ‌عِلْمٍ ‌لَا ‌يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ لَهَا). صحيح مسلم: 2722
لقد كانت أدعيته عليه الصلاة والسلام الّتي يخصّ بها ذاته الشّريفة كثيرةٌ وكثيرةٌ، فأين الاتّباع له؟
وإنّ يوم عرفة هو يوم الدّعاء، كما جاء في الحديث الـشّريف: (خَيْرُ الدُّعَاءِ ‌دُعَاءُ ‌يَوْمِ ‌عَرَفَةَ). سنن التّرمذيّ: 3585
فالدّعاء الدّعاء، عجّوا في هذا اليوم إلى الله تعالى بالدّعاء، فقد قال الله تعالى: {‌وَإِذَا ‌سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186].
فالدّعاء له شأنٌ عجيبٌ، وأثرٌ عظيمٌ؛ في صلاح الحال والمآل، والتّوفيق في الأعمال، والبركة في الأرزاق، وفي كشف الغمّ والكرب والبلاء العظيم.
بالدّعاء شفي سيّدنا أيّوب، وبالدّعاء رزق سيّدنا زكريّا بسيّدنا يحيى، وبالدّعاء خرج سيّدنا يونس  مِن بطن الحوت، وبالدّعاء أغرق الله تعالى القوم الّذين سخروا مِن سيّدنا نوحٍ، وبالدّعاء أهلك الله تعالى قوم سيّدنا لوطٍ، وبالدّعاء عاد سيّدنا يوسف إلى أبيه سيّدنا يعقوب.
خاتمةٌ:
إنّ حياتنا الإيمانيّة تحتاج إلى تجديدٍ بين حينٍ وآخر، يعيد لها قوّة الإيمان، وينمّي فيها إحساس العبوديّة لله تعالى، ويدفع بالنّفوس نحو ربّها جل جلاله، وهي نادمةٌ على معصيته، مجتهدةٌ في طاعته.
حياتنا الإيمانيّة تحتاج إلى تجديدٍ يعيد إلى القلب رقّته، فيخشع لآيات القرآن الكريم، وينقاد إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويهتدي بسنّته العطرة.
وإنّ أعظم فرصةٍ لتجديد هذه الحياة، وزيادة الإيمان، هي أفضل الأزمنة، وأشرف الأوقات، وأطهر الأماكن، وها نحن في يوم عرفة، وفي بيتٍ من بيوت الله عز وجل، فلنعاهد الله تعالى على صدق التّوبة والإنابة.
ولنعلم أنّ عطاء الله تعالى وخيره وفضله يوم عرفة ليس مقصوراً على مَن شهد عرفة ووقف في أرضها، بل هو شاملٌ لكلّ مَن حفظ سمعه ولسانه يوم عرفة، (إِنَّ هَذَا يَوْمٌ ‌مَنْ ‌مَلَكَ ‌فِيهِ ‌سَمْعَهُ، وَبَصَرَهُ، وَلِسَانَهُ، غُفِرَ لَهُ). مسند أحمد: 3041

http://shamkhotaba.org