مقدمة:
لقد بعث الله رسوله محمّدًا بدِين الإسلام؛ دين الكمال والجلال والتّوسّط والاعتدال، دينٍ أعطى كلّ ذي حقٍّ حقّه، ورتَّب المسؤوليّات على كلٍّ بحسبه، وجعل الأسرة في الإسلام محلّ عنايةٍ واهتمامٍ؛ لينشأ عنها الجيل نشأةً صالحةً، ولا يتمّ ذلك إلّا بالتّلاؤم بين الرجل والمرأة -اللّذين خلقهما الله لحكمةٍ واحدةٍ يشتركان فيها- قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذّاريات: 56].
وعلّق سعادتهما على أداء هذه المهمّة الجليلة، وجعل الشّقاء في الإعراض عنها؛ فقال سبحانه: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} [طه: 124].
ولقد جعل شأن المرأة كبيرًا؛ حيث أكرمها بما كلّفها مِن أحكامٍ وأوجب عليها مِن حقوقٍ وواجباتٍ تجاه أسرتها وأمّتها، وحفظ لها حقّها، وصان لها كرامتها بما لم يكن لها قبل الإسلام، ولكنّ مرضى القلوب يأبون إلّا إهانتها؛ بمزاحمتها للرّجال مزاحمةً تخسر فيه نفسها ودينها وبيتها، ويخسرها المجتمع أمًّا حانيةً وزوجةً فاضلةً وبنتًا محصنةً، وإنّ الإسلام في تعاليمه بيّن وصف كلٍّ مِن الجنسين وخصوصيّته وعلاقته بالآخر، فلكلٍّ مِن الجنسين حقوقه، وعليه واجباته، وبقيام كلّ واحدٍ بواجباته تصبح الأسرة سويّةً، وقد ارتفع -قبل عقودٍ مِن الزّمن- ضجيج الغرب وأبواقه مِن العلمانيّين الّذين نادَوا بتحرير المرأة المسلمة ورفع ظلم الإسلام عنها -كما يزعمون- حيث قالوا: نريد تخليصها مِن قيود الدِّين الذي يعيق انطلاقها مِن المنزل، ومنافستها للرّجال في الأعمال، كي تتبوّأ مكانةً عاليةً، وتحفظ كرامتها، إلى غير ذلك مِن الشّعارات البرّاقة الّتي يلوحّون بها؛ مِن الحرّيّة والمساواة مع الرجل، وَدَعَوا المرأة المسلمة أن تكون كما هي عند الغرب؛ مجرّدةً مِن المسؤوليّة والزّوج والبيت، تقدِّس العمل، وتدور ألعوبةً في أيدي الرّجال، فتكون مستنقعًا للقاذورات ومصرفًا للشّهوات، مع أنّهم يعلمون -يقينًا-أنّ الإسلام صان حقّ المرأة وحفظها مِن أهوائهم وشهواتهم، ولكنّهم يخفون تلك الحقيقة، لأنّهم يريدون خرق سفينة المجتمع وإغراقه في لجج مِن الرّذائل والشّهوات المحرّمة، فهل مِن مُدَّكرِ؟
1- المرأة قبل الإسلام وبعده
لقد كانت المرأة في الجاهليّة موضع شرف العربيّ وكرامته، ولكنّها مع ذلك لقيت ألوانًا مِن الاضطهاد والظّلم عند العرب وغيرهم، حتّى وصلت نظرة بعض الأمم إلى المرأة حدًّا عجيبًا مِن الإسفاف والإساءة لها، حيث كان البعض يعدّها ملكًا للرّجل، يتصرف بها كيفما شاء، والبعض الآخر ينظر إليها على أنّها مصدر كلّ شرٍ وسوءٍ، وعاشت المرأة قبل الإسلام هذه الصّور المظلمة الّتي تمسّ وجودها، فضلًا عن حقوقها وحرّيّتها، وأبرزها جريمة الوأد: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [النّحل: 58-59].
حتّى جاء الإسلام فبوّأها مكانةً ساميةً لم تكن لها مِن قبله، إذ جعلها عنصرًا فعّالًا في نهوض المجتمع وتماسكه وسلامته، فعاشت في ظلّه بكرامةٍ إنسانيةٍ ليس لها مثيلٌ، فكرّمها كما كرّم الرّجل: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70].
ومنحها جملةً مِن الحقوق الّتي تتناسب مع طبيعتها وتكوينها في مختلف المجالات، فقرّر المساواة في الكرامة الإنسانيّة بين الرّجل والمرأة، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النّساء: 1].
وسوّى بينها وبين الرّجل في أصل التّكليف الشّرعيّ مِن النّاحية التّعبديّة وفي الجزاء الأُخروي: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النّحل: 97].
وجعل المساواة بينهما في حُرمة الدّم والعِرض وحقّ الحياة، بل حتّى في حقّ التّعبير عن الرّأي، {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1].
كما أوصى الإسلام بالمرأة خيرًا، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا).
وأسبغ على المرأة مكانةً اجتماعيّةً كريمةً في مختلف المراحل، وجعل هذه الكرامة تنمو كلّما تقدّمت المرأة في العمر، مِن طفلةٍ إلى أمٍّ إلى جدّةٍ، حيث تكون في سنّ الشّيخوخة موضع الحبّ والحنوّ والاحترام، وتتجلّى مكانتها الاجتماعيّة في الإسلام بصونه حقّ حياتها وأمره بتعليمها وجعله حقًّا لها، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ رضي الله عنه، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ ذَهَبَ الرِّجَالُ بِحَدِيثِكَ، فَاجْعَلْ لَنَا مِنْ نَفْسِكَ يَوْمًا نَأْتِيكَ فِيهِ، تُعَلِّمُنَا مِمَّا عَلَّمَكَ اللهُ، قَالَ: (اجْتَمِعْنَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا) فَاجْتَمَعْنَ، فَأَتَاهُنَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَعَلَّمَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَهُ اللهُ، ثُمَّ قَالَ: (مَا مِنْكُنَّ مِنِ امْرَأَةٍ تُقَدِّمُ بَيْنَ يَدَيْهَا، مِنْ وَلَدِهَا ثَلَاثَةً، إِلَّا كَانُوا لَهَا حِجَابًا مِنَ النَّارِ) فَقَالَتِ امْرَأَةٌ: وَاثْنَيْنِ، وَاثْنَيْنِ، وَاثْنَيْنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: (وَاثْنَيْنِ، وَاثْنَيْنِ، وَاثْنَيْنِ).
كما جعل ولاية أوليائها ولاية حمايةٍ ورعايةٍ لشؤونها، لا ولاية تملّكٍ واضطهادٍ واستعبادٍ، ومنحها حقّ حضانة الصّغار، وكفل الحقوق الّتي تترتّب على ذلك، كما منحها حقّ التّملّك والتّصرّف في مالها وإرثها، {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النّساء: 7].
وأباح لها مزاولة العمل المناسب بشروطٍ تحفظ كرامتها مِن الابتذال والامتهان، وتحافظ على تماسك الأسرة، بل لقد كان يستشير زوجاته في أمورٍ تتعلّق بالمسلمين، كما حصل يوم الحديبية عندما استشار أمّ سلمة رضي الله عنها، وهكذا رفع الإسلام مِن شأن المرأة وحفظ لها حقوقها وجعلها تشارك في مجالات الحياة الإنسانيّة وتكون فيه فاعلةً ومنتجةً.
2- ليس الذَّكر كالأُنثى
لقد خلق الله البشر ووهب العقول وأنزل الشرائع، ولم يجعل بين العقل والشّريعة تعارضًا، وإن وقع عند بعض النّاس فهو لخللٍ في عقولهم وطرائق تفكيرهم، ولا يُقضى بالعقل على الشّرع، لشمول الشّريعة لكلّ شيءٍ ولقصور العقل عن ذلك، وكلّ مَن عارض ذلك فهو متّبعٌ لهواه: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية: 23].
وإنّ مِن صور اتّخاذ الهوى إلهًا مِن دون الله: معارضة الشّريعة المنزلَة مِن حكيمٍ حميدٍ بأفكار البشر ونظريّاتهم وتخبّطاتهم، وتقديم أقوالهم على أقوال الله وأقوال رسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1].
وقد استشرى ذلك في البشر في كثيرٍ من المجالات بعد انتشار موجات الإلحاد وإنكار الغيب في دول الغرب، ولم تسلم مِن شرّه دول أهل الإسلام، ولا سيما فيما يتعلّق بشؤون الأسرة والمرأة، فقد أجلب المنافقون والجاهليّون في ديار المسلمين بخيلهم ورجِلهم على أحكام الله في شأن المرأة -يريدون تغييرها- مدّعين أنّهم يحطّمون الأغلال الّتي غلّتها، ويرفعون وصاية الرجل عنها لينقلوها -لو استطاعوا- مِن عبادة الله إلى عبادة المبادئ الغربيّة.
إنّ هذه القضيّة بين الرّجل والمرأة قد كثر القول فيها، وأفردتها بالبحث والنّقاشات الصّحف والمجلّات وعقدت لها المؤتمرات، وواللهِ لهي أيسر مِن هذا كلّه لولا الضّلال والهوى، وإنّ هذه القضيّة لتتلخّص في أنّ الله خلق الذّكر، ومِن الذّكر خلق الأنثى، وجعلهما جنسين مختلفين في التّركيب البدنيّ والعقليّ والنّفسيّ، {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} [النّجم: 45].
ولقد وهم الغرب عندما دعا إلى المساواة بينهما، إذ لو كانا واحدًا لما سمّاهما زوجين، ولما أفرد كلّ واحدٍ منها بوصفٍ يختصّ به، وأخبر سبحانه أنّ كلّ جنسٍ منهما يكمّل الجنس الآخر، وهو محتاجٌ إليه، ولا تكتمل سعادته إلّا به {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة: 187].
ولو كانا متماثلين لما احتاج أحدهما إلى الآخر، ولا أدلّ على التّفريق بينهما مِن الآية: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} [آل عمران: 86].
ولقد جاءت شرائع الله في كتابه العزيز وعلى لسان رسوله الكريم موافقةً لهذه الحقيقة التي شجّع عليها الوحي والعقل والفطرة والحسّ، فثمّة أحكامٌ يشترك فيها الجنسان، وهي أغلب شرائع الإسلام، وأحكامٌ يختصّ بها جنسٌ دون آخر، كاختصاص الرّجل بالجهاد والجمَع والجماعات، واختصاص المرأة بالرّضاعة والحضانة، ولم يسوِّ الله بينهما في الميراث والنّفقة ولا في الولاية والقوامة، {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النّساء: 11].
{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النّساء: 34].
والرجل ينفق على المرآة أمًّا كانت أو زوجة أو بنتًا ولو كان أفقر الناس وهي أغناهم.
خاتمةٌ:
لا يُحسد المسلمون -مِن كثيرٍ مِن الشُّعوب- على شيءٍ كما يُحسدون على الحياة الأسريّة السّويّة التي يعيشونها، فهل نفسدها بأيدينا؟
إنّ التّحدي الّذي نواجهه كبيرٌ، لا يسعنا التّغافل عنه أو التّقليل مِن خطره وشرّه، فعلينا أن ندرك أنّ المرأة إذا فسدت أخلاقها قادت المجتمع إلى بؤر الدّمار والهلاك، وهذا يُوجب علينا أن نتكاتف معًا لنقف في وجه المخطّطات الّتي تنادي بالتّسوية بين الرّجل والمرأة، وأن نجاهدهم بما نستطيع؛ مِن فضح مخطّطاتهم وكشف عوَرها وتحذير المسلمين مِن خطر أفكارهم وطروحاتهم، مع تحصين نساء المسلمين وفتياتهم مِن أفكارهم الضّالّة الّتي يزوّرونها بزخرف القول ويرّوجونها بشعاراتٍ برّاقةٍ تنطلي على كثيرٍ ممّن لا يعرف حقيقتهم، فهم دعاةٌ على أبواب جهنّم، يقذفون فيها كلّ مَن أجابهم، ولكنّنا رغم عظم الفتنة وشدّة البلاء ومكر الأعداء فلا تزال في الأمّة طائفةٌ مِن أهل الخير، فيهم الغيرة على المرأة وفي قلوبهم غرس حبّ الفضيلة والحياء والحشمة، فانبروا للدّفاع عن أحكام الإسلام فيما يخصّ المرأة وعدم اتّباع مايروّج له الأعداء مِن مساواة المرأة بالرّجل، فلم يستجيبوا لدعواتهم ولم يستجيبوا لأفكارهم، وسيظلّون على ذلك حتى تستيقظ الأمّة مِن غفلتها وترجع إلى دِينها مِن جديدٍ.
http://shamkhotaba.org