العلماء الرَّبَّانيُّون أمانٌ للأمَّة
الكاتب : رابطة خطباء الشام
الخميس 29 سبتمبر 2022 م
عدد الزيارات : 845
مقدمة:
عَنْ ‌أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه فِيمَا أَعْلَمُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِنَّ اللهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ ‌عَلَى ‌رَأْسِ ‌كُلِّ ‌مِائَةِ ‌سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا). سنن أبي داوود: 4291
يحمل هذا الحديثُ إشارةً خطيرةً إلى أنّ الأمّة تمرّ بفتراتٍ عصيبةٍ، يقع فيها الانحراف والتّغيير، وتبتعد عن الهدي الرّبّانيّ، وتدخل في ظلماتٍ حالكةٍ، حينئذٍ يأتي دَور مَن يجدّد للأمّة دِينها ويعيدها إلى الجادّة، كما في هذا البيان النّبويّ العظيم: (إِنَّ اللهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ ‌عَلَى ‌رَأْسِ ‌كُلِّ ‌مِائَةِ ‌سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا)، فهذه الوظيفة هي وظيفة المجدِّد الّذي يخبر عنه المصطفى صلى الله عليه وسلم، ويُشير هذا الحديث في ثناياه -لمَن تأمَّله- إلى عدّة أمورٍ، منها:
ندرة هؤلاء المجدِّدين، فهم يأتون كلّ مئة سنةٍ! يعني أنّهم ليسوا بتلك الكثرة الموجودة في كلّ فترةٍ، بل يندر أن يجود الزمان بهم، ويوضّح هذا الأمر حديثٌ آخر، عَنِ ‌ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (تَجِدُونَ ‌النَّاسَ ‌كَإِبِلٍ ‌مِائَةٍ لَا يَجِدُ الرَّجُلُ فِيهَا رَاحِلَةً). صحيح مسلم: 2547
أي تبحث عنهم في كلّ مئة شخصٍ ولا تكاد تجد واحدًا مِن هؤلاء.
هؤلاء المجدِّدون لهم صفاتٌ، ليسوا كغيرهم، وهذا واضحٌ في حديث: (تَجِدُونَ ‌النَّاسَ ‌كَإِبِلٍ ‌مِائَةٍ لَا يَجِدُ الرَّجُلُ فِيهَا رَاحِلَةً)، فالتّشبيه هنا بالإبل الرّاحلة، وذلك لأنّ الإبل ليست كلّها على صفةٍ واحدةٍ في القوّة، بل منها ما يصلح للحمل والرّكوب وغير ذلك، وهذه نادرةٌ في الإبل، والمقصود بهذا التّشبيه -راحلة الإبل- بيان أنّ العالِم المجدِّد في النّاس هو عالمٌ؛ لكن ليس كغيره مِن العلماء، بل هو راحلةٌ تعظم وجوه النّفع به، وخيره على الأمّة عظيمٌ.
هؤلاء العلماء المجدِّدون في الأمّة، الرّواحل كما شبّههم في الحديث؛ هم العلماء الرَّبَّانيُّون، ومعنى الرّبّانيّ في قوله تعالى: {وَلَكِنْ ‌كُونُوا ‌رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران:79].
هو العالِم بالفقه والحكمة من المصلِحين، يَرُبُّ أمورَ النّاس؛ بتعليمه إيّاهم الخيرَ، ودعائهم إلى ما فيه مصلحتهم، وكان كذلك الحكيمُ التّقيُّ لله، والوالي الّذي يلي أمور النّاس على المنهاج الذي وَليه المقسطون مِن المصْلحين أمورَ الخلق، بالقيام فيهم بما فيه صلاحُ عاجلهم.
قال الإمامُ ابن القيّم: "ومعنى الرَّبَّاني في اللّغة: ‌الرفيعُ الدرجة في العلم، العالي المنزلة فيه، وعلى ذلك حملوا قوله تعالى: {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانيُّون وَالْأَحْبَارُ} [المائدة: 63].
وقوله: {‌كُونُوا ‌رَبَّانِيِّينَ} [آل عمران:79].
قال سعيد بن جبير: حكماء فقهاء، وقال أبو رَزِين: فقهاء علماء، وقال أبو عمر الزاهد: سألتُ ثعلبًا عن هذا الحرف -وهو الرَّبَّانيّ- فقال: سألتُ ابن الأعرابيّ فقال: إذا كان الرجلُ عالمًا عاملًا معلِّمًا قيل له: هذا ربَّانيّ، فإنْ خَرَمَ عن خصلةٍ منها لم يُقَل له: ربَّانيّ". مفتاح دار السعادة: 1/350
هؤلاء العلماء الرَّبَّانيُّون مثل النّجوم الّتي يُهتدى بها، والأعلام الّتي يُقتدى بها، عَنْ كَاتِبِ أَبِي قِلَابَةَ قَالَ: "مَثَلُ الْعُلَمَاءِ مَثَلُ النُّجُومِ الَّتِي يُهْتَدَى بِهَا، ‌وَالْأَعْلَامِ ‌الَّتِي ‌يُقْتَدَى ‌بِهَا، إِذَا تَغَيَّبَتْ عَنْهُمْ تَحَيَّرُوا، وَإِذَا تَرَكُوهَا ضَلُّوا". مصنّف ابن أبي شيبة: 35178
1- صفات العلماء الرَّبَّانيِّن
إذا كانت هذه هي مكانة العلماء الرَّبَّانيِّن، وهذا هو دورهم العظيم في الأمّة، فحريٌّ بنا أن نتعرّف على صفاتهم، وإذا تأمّلنا في نصوص الشّريعة نجد عدّة أوصافٍ لهم، منها:
الرّسوخ في العلم: ففي الحديث: (إِنَّ الْعُلَمَاءَ هُمْ ‌وَرَثَةُ ‌الْأَنْبِيَاءِ، لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، وَإِنَّمَا وَرِثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَ بِهِ، أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ). مسند أحمد: 21715
ويقول الإمام ابن القيّم: -في شأن العلماء الرَّبَّانيِّن- هم: "ورثة الرّسل وخلفاؤهم في أممهم، ‌وهم ‌القائمون ‌بما ‌بُعثوا ‌به علمًا وعملًا ودعوةً للخلق إلى اللَّه على طريقهم ومنهاجهم، وهذه أفضل مراتب الخلق بعد الرّسالة والنّبوّة، وهي مرتبة الصّدِّيقيّة... وهؤلاء هم الرَّبَّانيُّون، وهم الرّاسخون في العلم، وهم الوسائط بين الرّسول صلى الله عليه وسلم وأمّته، فهم خلفاؤه وأولياؤه وحزبُه وخاصَّتُه وحَمَلةُ دينه". طريق الهجرتين وباب السّعادتين: 2/764
الخشية لله: قال سبحانه في شأن أهل العلم: {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا ‌الْعِلْمَ ‌مِنْ ‌قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا} [الإسراء: 107].
وقال تعالى: {إِنَّمَا ‌يَخْشَى ‌اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28].
التّمسّك بالسّنّة والهدي النّبويّ: لذا فهم حصنٌ للأمّة مِن الانحراف؛ باعتصامهم بالهدي النّبويّ.
الصّبر على التّحديّات، واليقين بوعد الله: كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السّجدة: 24].
قال الحافظ ابن كثيرٍ: "أَيْ: لَمَّا كَانُوا ‌صَابِرِينَ ‌عَلَى ‌أَوَامِرِ ‌اللَّهِ وَتَرْكِ نَوَاهِيهِ وَزَوَاجِرِهِ وَتَصْدِيقِ رُسُلِهِ وَاتِّبَاعِهِمْ فِيمَا جَاؤُوهُمْ بِهِ، كَانَ مِنْهُمْ أَئِمَّةٌ يَهْدُونَ إِلَى الْحَقِّ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَيَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ، وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، ثُمَّ لَمَّا بَدَّلُوا وحَرَّفوا وأوَّلوا، سُلِبُوا ذَلِكَ الْمَقَامَ، وَصَارَتْ قُلُوبُهُمْ قَاسِيَةً، يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، فَلَا عَمَلَ صَالِحًا، وَلَا اعْتِقَادَ صَحِيحًا... قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: ‌بِالصَّبْرِ ‌وَالْيَقِينِ تَنَالُ الْإِمَامَةَ فِي الدِّينِ". تفسير القرآن العظيم: 6/370
العمل بالعلم: فهؤلاء قرنوا العلم بالعمل والقول بالفعل، لذا حازوا المصداقيّة عند الأمّة، فهم قدوةٌ للأمّة في قولهم وفعلهم.
إدراك الواقع وفهم مشكلاته: فهم دائمًا مع الأمّة في كل ما يواجهها مِن مكرٍ وتلبيسٍ، مع الأمّة في كلّ ما يستجدّ ممّا يستهدفها في دينها وأمنها وكرامتها، لذا يجدونهم النّاس دائمًا معهم في محنهم، ويجدون توجيههم في كلّ نازلةٍ مِن النّوازل.
الحكمة: فهم بما ورثوا مِن ميراث النّبوّة، وبتبصّرهم بهدي الكتاب والسّنّة ومقاصد الشّريعة الجليلة يؤتيهم الله حكمةً وتبصّرًا، يزنون الأمور ويوجّهون الأمّة بما يعصمها في المحن والملمّات ممّا يستجدّ مِن حوادث ونوازل.
2- دَور العلماء الرَّبَّانيِّن في الأمَّة
شهدت الأمة عبر تاريخها نماذج لعلماء ربَّانيِّن أفذاذًا، كانوا في طليعة الأمّة وقادتها، كانوا بوصلتها عندما تدلهمّ الأمور، مِن هؤلاء قديمًا إمام أهل السّنّة الإمام أحمد، لمّا وقف في وجه السّلاطين عندما أرادوا تحريف الشّريعة.
ومنهم الإمام سلطان العلماء العزّ بن عبد السّلام، عندما وقف إلى جانب الأمّة عندما أراد السّلاطين أن يستبدّوا بأمرها. 
ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية، عندما وقف في مقدّمة الجيوش وحار بالتّتار عندما اجتاحوا العالم الإسلاميّ، وفي الأمّة نماذج كثيرةٌ مضيئةٌ مِن هؤلاء العلماء الرَّبَّانيِّن، الّذي جدَّدوا للأمَة أمر دينها.
وإنّه بغياب هذه النّماذج في الأمّة يقع النّقص الكبير، ولا يُسد مكانُهم.
هؤلاء هم أمانٌ للأمّة إذا وجدوا، وبفقدهم تفقد الأمّة صمّام أمانها.
3- فداحة المصاب بفقد العلماء الرَّبَّانيِّن
فقْد هؤلاء الرَّبَّانيِّن مؤذنٌ بفشوّ الضّلالة، إنّ فقد العالِم ليس فقدًا لشخصٍ ولا لصورةٍ، ولكنّه فقْدٌ لجزءٍ مِن ميراث النّبوّة؛ وهو العلم، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ العِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بِقَبْضِ العُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا). صحيح البخاريّ: 100
قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [الرّعد: 41].
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه، قَالَ: "ذَهَابُ عُلَمَائِهَا، وَفُقَهَائِهَا، وَخِيَارِ أَهْلِهَا". تفسير الطّبريّ: 13/579
بفقدهم تغدو الأمّة حائرةً، لا سيّما اليوم حيث نشهد كثيرًا مِن التّحدّيات، منها ما يستهدف دِين الأمّة، حيث تُحاك مخطّطاتٌ لتغيير الدِّين الحنيف، بما أسموا بالدِّين الإبراهيم تارةً، وتارةً أخرى يقولون الدّين الإنسانيّ، يبتكرون دينًا جديدًا يسوّي بين الإسلام وغيره مِن الأديان؛ كما تفقد الأمّة قوّةً في حربها ضد ما نشهده في هذا الزّمان مِن استبداد الحكّام بالمسلمين ومصادرتهم لحرّيّاتهم وأبسط حقوقهم، فما أعظم المصاب بفقدهم.
وفي السّنوات الأخيرة فقدت الأمّة ثلّةً مِن العلماء المصلِحين، بعضهم فُقد بالموت، وبعضهم فقدته الأمة في سجون الظّالمين المستبدِّين، ولا زالت الأمّة تفقد مِن علمائها ومصلحيها، ولا زال يُثلم في الإسلام ثلمة بفقدهم، ومِن ذلك ما كان هذه الأيام؛ حيث فقدت الأمّة عالمًا مِن علمائها، عُرف بوقوفه مع قضايا الأمّة، في وقتٍ شهدنا فيه تملّق الكثير ممّن يُحسبون على أهل العلم لأصحاب السّلطة والحكّام، ولا زال هذا العالِم يقف ويساند الأمّة في قضاياها ولقي في سبيل ذلك الكثير مِن السّجن والنّفي والتّشريد، إنّه العالِم العلَم (يوسف القرضاويّ) الّذي فقدته الأمّة هذه الأيّام، ولا ننسى -كسوريّين- وقوفه معنا منذ بدايات هذه الثّورة، حيث صدح بالحقّ في مواضع كثيرةٍ، بل وسعى بنفسه في مساراتٍ متعددةٍ لتخفيف المحنة ونصرة السّوريّين في مطالبهم العادلة.
خاتمةٌ:
ما أحوجنا اليوم إلى أن نتعرّف على علمائنا في حياتهم وليس بعد مماتهم، بل نتعرّف عليهم في حياتهم، ونعرف فضلهم ومكانتهم، ونعظّم كلمتهم، ونحيي مرجعيّتهم في الأمّة.
ما أحوجنا اليوم لأن نربّي في أبنائنا مَن يشدو العلم ويربو في محاضنه، ونعدّ للأمّة علماءها، وهذه اليوم أمانةٌ وواجبٌ في رقاب المصلحين في الأمّة، علينا جميعًا أن نسعى لأن نسدّ هذا الثّغر الّذي ينكشف بموت المصلِحين الرَّبَّانيِّن، لا سيّما ونحن نرى تكالب المكر مِن كلّ حدبٍ وصوبٍ.

http://shamkhotaba.org