العشر الأخير وليلة القدر
قال تعالى: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) القصص 68 .
عباد الله :
إن الله خلق الخلق فاختار منهم أنبياءَه ورسله، وخلق البلاد فاختار منها مكة، وخلق البقاع فاختار منها المساجد،
وخلق الأيام فاختار منها العشر الأول من ذي الحجة، وخلق الليالي فاختار منها العشر الأواخر من رمضان.
قال تعالى: (والفجر، وليال عشر).سورة الفجر . ويكفي ليالي العشر شرفًا رفيعًا، وقدرًا عظيمًا، ما خصّها الله به من ليلةٍ هي خيرٌ من ألف شهر،هي ليلة فضلها الله على سواها من الليالي، ليلة أنزل الله فيها القرآن، وأجزل فيها الإفضالَ والإحسان، ليلة لا تشبه ليالي الدهر،
وقد أخبرنا الله سبحانه وتعالى عن فضلها فقال: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ).سورة القدر
الليالي العشر الأخيرة من رمضان سوقٌ عظيم يتنافسُ فيه العاكفون، وموسمٌ يضيق فيه المفرّطون، وامتحانٌ تبتلى فيه الهمم، ويتميز فيه أهل الآخرة عن أهل الدنيا، وطالما تحدث الخطباء، وأطنب الوعَّاظ، وأفاض الناصحون بذكر فضائل هذه الليالي، فيستجيب لهذا النداء من خالط الإيمان قلبه، فينضم إلى قافلة الراكعين الساجدين.
وفئة أخرى يسمعون النداء وكأنه لا يعنيهم، يرون المؤمنين وهم يصلون في القيام لخالقهم، فلا يتحركون، وكأنهم قد ضمنوا الجنة.
فهل يتأمل الشاردون؟ وهل يعيد الحسابَ المفرِّطون؟.
يا عبد الله، ها هو شهر رمضان، وهذه هي نهاياته، كم من مستقبِلٍ له لم يستكمله؟ وكم من مؤمِّلٍ يعود إليه لم يدركه؟
إن كان في النفوس زاجر، وإن كان في القلوب واعظ، فقد بقيت من أيامه بقية. بقيةٌ وأي بقية، إنها عَشْرهُ الأخير.
بقية كان يحتفي بها نبيك محمد صلى الله عليه وسلم أيما احتفاء.
في العشرين قبلها كان يخلطها بصلاة ونوم، فإذا دخلت العشر شمر وجد وشد المئزر. هجر فراشه، وأيقظ أهله، وأحيا ليله. ولا يدع أحداً من أهله يطيق القيام إلا أقامه. يطرق الباب على فاطمة وعلي رضي الله عنهما
قائلاً: (ألا تقومان فتصليان)؟ وهو يتلو: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتقوَى). سورة طه132
الليالي العشرُ الأخيرة من رمضان تاجُ اللّيالي؛ فهي لَيالٍ مبارَكة، أبوابُ الجنانِ فيها مفتحة، وأبوابُ النار فيها مُغلَقَة، والشّياطين فيها مصَفدَة، وفي كلِّ لَيلةٍ ساعةُ إجابَةِ، الأبوابُ فيها تفتَح، والكريم فيها يمنَح، فسَل فيها ما شئتَ فالمعطِي عظيم،
وأيقِن بالإجابةِ فالرّبّ كريم، وبُثَّ إليهِ شَكواك؛ فإنّه الرّحمنُ الرّحيم، وارفَع إليه لأواكَ؛ فهوَ السّميع البصير،
يقول عليه الصلاةُ والسلام:
(إنّ في اللّيلِ لساعةً لا يُوافقها رجلٌ مُسلم يسأل اللهَ خيرًا مِن أمرِ الدّنيا والآخرة إلاّ أعطاه إيّاه، وذلك كلَّ ليلة). صحيح مسلم 757
ومن الملاحظ : أن كثيرا من الناس كلما اقترب الشهر على الانتهاء، يزدادُ تقصيرُه وتفريطه؛ مخالفا بذلك سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وما علم المسكين أن فضل الشهر في آخره.
فلا ينبغي للمؤمن العاقل أن يفوّت هذه الفرصة الثمينة على نفسه وأهله، فما هي إلا ليال معدودة، ربما تكون آخرَ أيام وليال في الحياة، ولعل الإنسانَ منا أن يدرك فيها نفحة من نفحات المولى، فتكون السعادة في الدنيا والآخرة.
عباد الله، دعونا نقترب بالمثال أكثر من الواقع، لو قيل لأحدنا في عمله: لو عملت شهرًا كاملاً متواصلاً سوف تعطى أجور ثلاثة وثمانين عامًا، ألا ينظر إلى ذلك بأنه صفقة رابحة؟ ألا يحاول أن يكيف ظروفه ووضعه وحياته ليتفرغ لأداء عمل ذلك الشهر ليحصل على المقابل؟ والمقابل هنا لا يتطلب جهدًا كبيرًا، فربنا لم يطلب منا إلا عشر ليال فقط، ويضمن العبد بذلك أنه قام ليلة القدر، وأنه قد حصل -بإذن الله- على أجر يزيد على عبادة ثلاثة وثمانين عامًا، أفليست صفقة رابحة من الكريم سبحانه؟ وليس هذا فقط، بل يقول نبينا صلى الله عليه وسلم: (مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذنبهِ)صحيح ابن حبان. الله أكبر، ليلة واحدة نقومها يغفر لنا ما فعلنا من ذنوب وخطايا طوال عمرنا الذي مضى، فأين أصحاب القلوب الحية الذين استشعروا كثرة ذنوبهم وعظيمَ خطاياهم من هذا العرض الرباني السخي؟ ما أشد غبن من غفل عن ترصد هذه الليلة وقيامها.
إن هذا الأجر العظيم لا يستلزم أن يعرف المرء أيَّ ليلة هي ليلة القدر، فمن قام ليالي العشر كاملة فهو بالتأكيد قد قام ليلة القدر، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (تَحَرَّوْا لَيْلَةَ القَدْرِ فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ)،صحيح البخاري
ويحصل أجر القيام لمن قام مع الإمام حتى ينصرف،لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مَنْ قامَ مَعَ الإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ) إرواء الغليل .
لكن البلية أن من الناس من يدخل عليه الشيطان مدخلاً عجيبًا ليفوِّت عليه هذا الثواب العظيم؛ بحيث إنه يقوم الليالي الأولى من الشهر، ثم يتكاسل المسكين ويجلس أو ينشغل عن قيام العشر الأخير، والتي فيها ليلة القدر، فيخسر ويحرم من هذا الثواب العظيم. فيا من فرط أول الشهر إياك أن يفوتك الموسم، واسمع إلى قول نبيك صلى الله عليه وسلم:
(إِنَّ هَذَا الشَّهْرَ قَدْ حَضَرَكُمْ وَفِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَهَا فَقَدْ حُرِمَ الْخَيْرَ كُلَّهُ، وَلا يُحْرَمُ خَيْرَهَا إِلا مَحْرُومٌ) الترغيب والترهيب
فإياك أن تكون محروماً. و يا من نشط أول الشهر، حتى إذا جَدَّ الجد، وحانَ الموسمُ، ترك القيام، إياك أن تكسل عما بدأت به شهرك من القيام والصيام.
يا أهل الغفلة انتبهوا واستيقظوا، إنه والله الغبْن والحرمان،أن نخبَرَ بليلةٍ العبادةُ فيها خيرٌ من العبادة في ثلاث وثمانين سنة، ثم لا نقضيها مع العابدين، ولربنا من الساجدين. وعسى الله أن يتقبل، (إنَّمَا يَتقبَّلُ اللهُ مِنَ المُتقينَ)المائدة27.
وكثيرٌ من الناس يغفلون عن ليالي العشر، لأنهم قد اعتادوا في هذه الليالي التجوال في المحلات والأسواق لشراء مستلزمات العيد، وحاجيات النساء والأطفال، فهم مشغولون إما بالبيع أو الشراء، فتهجَرُ المساجد التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أحَبُّ البِلادِ إلى اللهِ مَسَاجِدُهَا)، وتعمرُ الأسواق التي قال فيها صلى الله عليه وسلم: (أبغضُ البلادِ إلى اللهِ أسواقهَا). وفي أي الليالي؟ في أعظم ليالي السنة وأفضلِها، فلا أعطى لنفسه نصيبًا من الطاعة، ولا تفرَّغ لإحياء ليلة من لياليها ولو بالقيام،
فما هذه الغفلة يا عباد الله؟ وما هذا الإعراض أيها المسلمون؟ أنسيتم الآخرة وأهوالهَا ؟ أغفلتم عن النار وجحيمِها ؟
ألم تذكروا هاذمَ اللذات ومفرِّقَ الجماعات؟ ألم تتعظوا بما حصل للأولين الغابرين؟
فلا إله إلا الله كيف انتصرَ الشيطانُ على كثير مِنْ أمَّة محمد صلى الله عليه وسلم، فصرفهم عن مثل هذه الفرصة العظيمة! إنه والله لو لم يكنْ لِلشيطان معَ أولئك إلا هذا الموقف الذي حرمهم فيه هذا الثواب العظيم لكان ذلك غبناً لهم ومكسباً للشيطان، فكيف وهو قد أوقعهم مع ذلك في كثير من المعاصي؟! ثم صرفهم عن الفرصة التي يمكنهم فيها أن يحصلوا على عفو شامل لتلك الذنوب التي أوقعهم فيها، بحرمانهم من قيام تلك الليلة التي من قامها إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه.
فالله الله عباد الله، اتركوا الغفلة والإعراض، واغتنموا مواسم الطاعات والعبادات، فإن العمرَ قصيرٌ، والزادَ قليلٌ، والسفرَ طويل، وكلٌّ مرتهَن بعمله فمن جاءَ بالحسنة فله عشرُ أمثالِها، ومن جاءَ بالسيئة فلا يُجْزى إلا مثلها، وما ربُّك بظلام للعبيد.
فلا تضيعوا -عباد الله- ساعات هذه الليالي والأيام واغتنموها فلعل أحدنا لا يدركه رمضان آخر إلا وهو في عداد الموتى والمقبورين،
فهنيئًا لمن اغتنمها بالطاعة والذكر والقيام، ويا لخسارة من فرَّط في هذه الليالي المباركة، وضيعها بمجالس اللهو واللعب والعصيان.
فتحرَّوْا -معاشر المؤمنين- هذه الليالي من هذا الشهر .
أسألُ الله العظيم ربَّ العرش الكريم أن يبلغني وإياكم ليلة القدر، وأن يوفقنا لقيامها، وأن يحقق فيها آمالنا، وأن يتقبل منا ومنكم، إنه سميع مجيب. أقول هذا القول وأستغفر الله.