إحياء سُنَّته خير ما نُعبرِّ به عن محبَّته
الكاتب : رابطة خطباء الشام
الأربعاء 5 أكتوبر 2022 م
عدد الزيارات : 1208
مقدمة:
إذا ذكرت شهر ربيعٍ الأوّل طار عقل المسلم إلى ذكرى ولادة النّبيّ صلى الله عليه وسلم فيه، فالمعروف في التّأريخ أنّه صلى الله عليه وسلم وُلد في هذا الشّهر، وأنّه صلى الله عليه وسلم وُلد في يوم الإثنين، وإن اختلف المؤرخون فيما وراء ذلك، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ صَوْمِهِ؟ قَالَ: فَغَضِبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: رَضِينَا بِاللهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا، وَبِبَيْعَتِنَا بَيْعَةً، قَالَ: فَسُئِلَ عَنْ صِيَامِ الدَّهْرِ؟ فَقَالَ: (لَا صَامَ وَلَا أَفْطَرَ -أَوْ مَا صَامَ وَمَا أَفْطَرَ-) قَالَ: فَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمَيْنِ وَإِفْطَارِ يَوْمٍ؟ قَالَ: (وَمَنْ يُطِيقُ ذَلِكَ؟) قَالَ: وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمٍ، وَإِفْطَارِ يَوْمَيْنِ؟ قَالَ: (لَيْتَ أَنَّ اللهَ قَوَّانَا لِذَلِكَ) قَالَ: وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمٍ، وَإِفْطَارِ يَوْمٍ؟ قَالَ: (ذَاكَ صَوْمُ أَخِي دَاوُدَ) قَالَ: وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ؟ قَالَ: (ذَاكَ ‌يَوْمٌ ‌وُلِدْتُ فِيهِ، وَيَوْمٌ بُعِثْتُ -أَوْ أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ-) قَالَ: فَقَالَ: (صَوْمُ ثَلَاثَةٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَرَمَضَانَ إِلَى رَمَضَانَ، صَوْمُ الدَّهْرِ) قَالَ: وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ؟ فَقَالَ: (يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ) قَالَ: وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ؟ فَقَالَ: (يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ). صحيح مسلم: 1162
فترى أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نصّ على يوم ولادته وبعثته، وبذلك علّل صيامه فرحًا بهذه النّعمة.
1- نِعمة ربِّنا أن أكرمَنا برسولنا
في زمنٍ تفاقمت فيه الجاهليّة والضّلال، وتخبّطت فيه البشريّة في ظلمات الشّرك والخرافة، واستحكمت فيه الغواية، واستشرى الفساد، وتناهى الكفر والإلحاد، أراد الله أن يكرم الكائنات بأعظم نعمةٍ يمنّها عليهم، فبعث لهم سيّد المرسلين عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ‌وَإِنْ ‌كَانُوا ‌مِنْ ‌قَبْلُ ‌لَفِي ‌ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران:164].
اختاره رسولًا مِن أشرف القبائل؛ مِن قريش مِن العرب، يعرفون أصله ونسبه، وأهله وعشيرته، يحرص على هدايتهم، ويحزن لإعراضهم وكفرهم، قال سبحانه: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ ‌حَرِيصٌ ‌عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التّوبة:128].
جعله الله نورًا ليخرج النّاس من الظّلمات إلى النّور، ويهديهم صراطًا مستقيمًا، فأشرقت أنوار هدايته على العالم كلّه، وعمّت بشائر دعوته ورسالته أرجاء الكون، قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ‌قَدْ ‌جَاءَكُمْ ‌مِنَ ‌اللَّهِ ‌نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة:15-16].
فقام بتبليغ دعوة ربّه، وجاهد في سبيل ذلك حقّ الجهاد، فكُذّب وعُودي مِن أقرب النّاس إليه، فضلًا عن غيرهم، فتحمّل الشّدائد، وصبر على الأذى والبلاء، واحتمل الصّعاب، حتّى محى الله به الضّلالة، وعلّم النّاس بعد الجهالة، وأرشد إلى الحقّ بعد الغواية، وفتح الله به الآذان الصّمّاء والأعين العمياء  والقلوب الغُلف، وعرّف النّاس ربّهم ومعبودهم حقّ تعريفٍ، فلا يحتاجون لسؤال غيره، قال جل جلاله: {أَوَلَمْ ‌يَكْفِهِمْ ‌أَنَّا ‌أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت:51].
لقد قرّر رسولنا للعالَم كلّه مبادئ الخير وبيّن طرقها، وهيّأ مناهجها، ووجّه بها الحياة إلى أعظم أهدافها وأشرف أغراضها، وأمر ونهى، وشرع وأوصى، وبشّر وأنذر، وأرشد إلى مكارم الأخلاق، وحذّر مِن سفاسفها، وبيّن للنّاس كيف تكون العلاقة مع الله، و كيف يتعاملون مع بعضهم البعض،  بأسلوبٍ رائعٍ وجميلٍ، وطريقةٍ فاضلةٍ مثلى، ولم يزل يدعو إلى ذلك حتّى تمّ له ما أرسله الله مِن أجله، فكان حقًّا علينا أن نشكر ربّنا على هذه النّعمة الكبرى، ووجب علينا  محبّة نبيّنا ونصرته، واتّباع شرعه وهديه، والوفاء بما أخذه الله على عباده، فقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ ‌لَتُؤْمِنُنَّ ‌بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:81].
2- كيف نفرح؟
شرع الله لنا أن نفرح بفضله، وأن نفرح برحمته: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ ‌بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 57-58].
ونبيّنا صلى الله عليه وسلم مِن مظاهر رحمة الله بعباده {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ ‌إِلَّا ‌رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].
فلم ينعم الله على النّاس بنعمةٍ أعظم مِن بعثة النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وولادته شرط بعثته صلى الله عليه وسلم، عَنْ ‌أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ ‌أَحَبَّ ‌إِلَيْهِ ‌مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ). صحيح البخاريّ: 14
وعن ‌عَبْد اللهِ بْنَ هِشَامٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (لَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ) فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَإِنَّهُ الْآنَ وَاللهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (‌الْآنَ ‌يَا ‌عُمَرُ). صحيح البخاري: 6632
يقول سبحانه: {‌قُلْ ‌إِنْ ‌كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التّوبة: 24].
ومِن طرق التّعبير عن الفرح بمولد النّبيّ صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم أن تصوم هذا اليوم مِن كل أسبوع، ولهذا التّعبير عن الفرح مثالٌ آخر في شريعتنا، لقد أنجى الله عز وجل موسى مِن الغرق يوم عاشوراء وشرع لعباده أن يفرحوا بانتصار أنبياء الله ونجاتهم، عَنِ ‌ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: ‌لَمَّا ‌قَدِمَ ‌النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ، وَجَدَ الْيَهُودَ يَصُومُونَ ‌عَاشُورَاءَ، فَسُئِلُوا عَنْ ذَلِكَ، فَقَالُوا: هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي أَظْفَرَ اللهُ فِيهِ مُوسَى وَبَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى فِرْعَوْنَ، وَنَحْنُ نَصُومُهُ تَعْظِيمًا لَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (نَحْنُ أَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ) ثُمَّ أَمَرَ بِصَوْمِهِ. صحيح البخاريّ: 3943
فأنت ترى المومن متّصلًا بالله في كل حينٍ، يسعى إلى مرضاته مهما كانت مشاعره، فإذا كانت مشاعر الفرح عبّر عنها بما يوافق رضا الله، أمّا أن يختلط الرّجال بالنّساء ويتراقصون معًا ويقولون نفرح بذكرى مولد النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقد وقعوا في المحظور، عَنْ ‌عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ ‌أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ). صحيح البخاريّ: 2697
فمن أحبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم اقتفى أثره، واهتدى بهديه، فالحبّ الاتباع.
خاتمةٌ:
ما أجمل أن نفرح بهذه النّعمة العظمى الّتي امتنّ الله بها علينا -مولد رسولنا- كما يحبّ ويرضى، فإنّ الله أنجانا به مِن الشّرك والضّلال، والجهالة القاتلة، إلى الهدى والنّور والعلم، فأصبحنا حملة لواء العلم  والمعرفة قرابة عشرة قرونٍ، فكنّا مدينون له بذلك الإكرام، و كان له الفضل علينا في نجاتنا مِن الأمراض الخلقيّة والنّفسيّة والصّحيّة  الّتي تفتك بمجتمعاتٍ بالغة الذّروة في الرّقيّ الماديّ والتّقدم الحضاريّ، كما أنّ مِن فضله علينا أن وحّد الله به أمّتنا  وحدةً كاملةً؛ في العقيدة  والإيمان،  والهدف والشّعور، والأمل والألم، على تعدّد أقطارها  وبيئاتها،  وحدةً لم تجتمع لشعبٍ من شعوب الأرض بهذا المظهر الرّائع الجميل،  ولكن -وللأسف- قد عبثت بها الأيدي  الآثمة، ومزّقتها الأهواء المضلّلة، فأصبحت اليوم غير ما كانت.
ألا فلنحمد ربّنا على نعمة بعثة نبيّنا، ولنصلح حالنا مِن جديدٍ، وذلك بالإقبال على وصايا حبيبنا؛ متدبّرين لها، وعاملين بما توجّهنا إليه، ليرضى عنّا، ويعود إلينا مجدنا وحضارتنا كما كانت مِن قبل.

http://shamkhotaba.org