مِن معاني المراقبة للإله وثمراتها
الكاتب : رابطة خطباء الشام
الأربعاء 9 نوفمبر 2022 م
عدد الزيارات : 1222
مقدمة:
خصلةٌ من خصال الدِّين، وصفةٌ مِن صفات أهل اليقين، صفةٌ تحلّى بها خيار العبّاد مِن العقلاء، وصفوة النّاس مِن الأتقياء، وأرباب البصائر والضّمائر، فعلموا أنّ الله عز وجل يعلم ما يسرّون وما يعلنون، إنّها  صفةٌ تنبع مِن أعماق القلب، وتنبثق مِن طوايا النّفس، وترتبط بالباطن أكثر ممّا ترتبط بالظّاهر، لأنّها  قائمةٌ على الشّعور الحسّيّ  العميق بجلال الله وسلطانه، إنّها صفة المراقبة، تلكم الكلمة العظيمة الّتي تعني قرب القلب مِن الرّب جل جلاله، ومتابعة الإنسان نفسه، وملاحظته لها في أعمالها وأقوالها، وتحرّكاتها وخطراتها، ليُقيمها على الصّراط السّويّ، والطّريق المستقيم، فبها تُؤدّى الواجبات، وتُحفظ الحقوق والأمانات، وبها تنهمر الدّموع، وتُسكب العبرات، وتُصان الأعراض والممتلكات، فالمراقبة حالةٌ للقلب يُثمرها نوعٌ مِن المعرفة والعلم بأنّ الله محيطٌ بكلّ شيءٍ، وأنّه مطّلعٌ على الضّمائر، رقيبٌ على السّرائر، قائمٌ على كلّ نفسٍ بما كسبت، لا تخفى عليه خافيةٌ، قال تعالى: {رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ‌فِي ‌الْأَرْضِ ‌وَلَا فِي السَّمَاءِ} [إبراهيم: 38].
ولكَم هي الآيات القرآنيّة الّتي تحدّثت عن هذه الصّفة -تصريحًا وتلميحًا- قال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ ‌كَانَ ‌عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النّساء: 1].
وأخبرنا أنّه معنا في كلّ مكانٍ وزمانٍ، لا تغيب عنه أفعالنا، وسينبّؤنا بها يوم القيامة، قال تعالى: {‌أَلَمْ ‌تَرَ ‌أَنَّ ‌اللَّهَ ‌يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة: 7].
فمَن شعر بأنّ الله يراه، سعد في دنياه، وفاز في أخراه، وكان أداةً فعّالةً نافعةً لنفسه ولمجتمعه، فيغدو المجتمع به وبأمثاله مجتمعًا صالحًا متماسكًا، مطمئنًّا نقيًّا، يسوده الأمن والأمان، ويُطرد عنه الظّلم والعدوان.
1- أهمِّيَّة المراقبة
إنّ مراقبة العبد لربّه سبحانه أصل كمال الإيمان، وسببٌ لحصول الغفران، فبالمراقبة يُضبط السّلوك والتّصرفات، وتُحفظ الحقوق وتؤدّى الواجبات، حتّى وإن غابت رقابة البشر ووسائل الضّبط وقوانين العقوبات، فتقوى الله ومراقبته والخوف منه؛ أقوى في قلب المؤمن مِن كلّ شيءٍ، حيث يمتلك المؤمن بهذه المراقبة الحقّة قوّةً روحيّةً، تحكم مواقفه وتفكيره، وتدلّه على الخير والشّرّ، فتذكّره بربّه -كلّما همّت نفسه بالحرام- وتنبهه إلى استشعار رقابة مَن لا يغفل ولا ينام، وإنّ مِن أعظم صور المراقبة وأكملها: ما حصل مِن نبيّ الله يوسف حين راودته امرأة عزيز مصر عن نفسه، فكان العاصم له مِن الوقوع في شِباك كيدها، مراقبته للعليم العلّام، قال تعالى: {‌وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف: 23]. 
ولقد جاء مثيلًا لهذه القصّة خبر أولئك الثّلاثة الّذين أووا إلى الغار، فانحدرت صخرةٌ فأطبقت فم الغار، فدعوا بصالح أعمالهم حتّى أنجاهم الله، وكان مِن دعاء أحدهم: (اللَّهُمَّ إِنَّهُ كَانتْ لِيَ ابْنَةُ عمٍّ كُنْتُ أُحِبُّهَا كَأَشد مَا يُحبُّ الرِّجَالُ النِّسَاءِ، فَأَرَدْتُهَا عَلَى نَفْسهَا فَامْتَنَعَتْ مِنِّى حَتَّى أَلَمَّتْ بِهَا سَنَةٌ مِنَ السِّنِينَ فَجَاءَتْنِي فَأَعْطَيْتُهِا عِشْرينَ وَمِائَةَ دِينَارٍ عَلَى أَنْ تُخَلِّىَ بَيْنِى وَبَيْنَ نَفْسِهَا ففَعَلَت، حَتَّى إِذَا قَدَرْتُ عَلَيْهَا). صحيح البخاريّ: 2333
وهذا الشّعور هو مقام الإحسان الّذي حدّث عنّه النّبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله: (أنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأنَّكَ تَرَاهُ، فإنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فإنَّه يَرَاكَ). صحيح البخاريّ: 50
فالسّعيد مَن وصل إلى ذلك المقام العالي والمنزل السّامي، في علاقته مع الله ومع عباد الله، قال تعالى: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ ‌وَخَشِيَ ‌الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيم} [يس: 11].
وأمّا ضعيف الإيمان فإنّه يمتنع عن المعاصي لوجود رقابة الخلق، ويرتكب الفواحش والمنكرات عند خلوته، فيصدق فيه قول الله سبحانه: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا ‌يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} [النّساء: 108].
فهو يظنّ أنّه عندما تغيب أعين الرّقباء، ويُرخي ستائر غرفته، أنّه لا أحد يراه، وقد وَهِم في ذلك وأخطأ، وصدق القائل:
وإِذا خَلَوتَ بِرِيبَةٍ في ظُلمَةٍ    والنَفسُ داعيَةٌ إلى الطُغيانِ
فاِستَحيِ مِن نَظَرِ الإِلَهِ وقل لها    إنَّ الَّذي خَلَقَ الظَلامَ يَراني
2- أثر المراقبة في صلاح المجتمع
إنّ دِيننا الحنيف -إلى جانب ما شرعه مِن أحكامٍ وعباداتٍ، وحدودٍ وعقوباتٍ- فإنّه سعى  لتربية الفرد المسلم على الشّعور بمراقبة الله عز وجل له واطّلاعه عليه، ليسعى إلى طلب رضاه، واجتناب ما عنه نهاه، ومِن هنا كان للمراقبة ثمراتٌ كثيرةٌ مؤثّرةٌ في صلاح الفرد والجماعة في الدّنيا والآخرة، فمَن راقب الله ابتعد عن المعاصي في السّرّ والعلن، حيث يعلم حقًّا بأنّ الله عليمٌ بأقواله وأعماله، وخطرات نفسه وخلجات قلبه، فلا يغيب عنه قول الله تعالى: {يَعْلَمُ ‌خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19].
فتراه ذاكرًا لله بقلبه ولسانه، متدبّرًا لأسماء الله وصفاته، لا سيّما الّتي تنبّهه إلى رقابة الله عليه، قال تعالى: {كُنْتَ أَنْتَ ‌الرَّقِيبَ ‌عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة: 117].
فتشعر العبد باطّلاع الله عليه، فلا يتجرّأ على المعاصي والمنكرات لشهود الله له، قال تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ ‌شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [يونس: 61].
حقًّا: إنّ المراقبة تدفع صاحبها إلى فعل الخير واجتناب الحرام؛ فلا يوجد فسادٌ ماليٌّ، وتأمره بالعدل؛ فلا يوجد جورٌ ولا ظلمٌ، وتذكّره بإخوانه المحتاجين؛ فلا يشبع وغيره جائعٌ، وبهذا الشّعور يزداد الإيمان، ويحصل الأمن والأمان، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ ‌الْأَمْنُ ‌وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82].
إنّ حاجتنا اليوم شديدةٌ لأن نحيي هذه المعاني العظيمة، فإذا كانت مراقبة الله حيّةً في قلوبنا، قائمةً في حركاتنا وسكناتنا، كانت الدّافع لنا إلى كلّ خيرٍ، والزّاجر عن كلّ شرٍّ، وبذلك تسعد الأفراد والمجتمعات، وبدونها يغدو مجتمعًا يموج بالفساد والشّقاء، مهما تطوّر في قوانينه وطُرق ضبطه للجرائم ووضعه لكاميرات المراقبة، نعم: إذا فُقدت عظمة الله مِن قلوبنا، سنجد المعلّم الّذي يقصّر في أداء واجبه، والطّبيب الّذي يهمل علاج مريضه، والموظّف المرتشي، والكاتب المزوّر، والقاضي الجائر، والتّاجر الغشّاش، وسنجد أمثالهم، بينما لو كانت قلوب هؤلاء حيّةً بنور اليقين والمعرفة، لضربوا أروع الأمثلة في المراقبة الحقّة لله، وفي يقظة الضّمير الحيّ كحال الرّعيل الأوّل، عَنْ ‌عَامِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ ‌النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ رضي الله عنه -وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ- يَقُولُ: أَعْطَانِي أَبِي عَطِيَّةً، فَقَالَتْ عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ: لَا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنِّي أَعْطَيْتُ ابْنِي مِنْ عَمْرَةَ بِنْتِ رَوَاحَةَ عَطِيَّةً، فَأَمَرَتْنِي أَنْ أُشْهِدَكَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: (أَعْطَيْتَ سَائِرَ وَلَدِكَ مِثْلَ هَذَا؟)، قَالَ: لَا، قَالَ: (فَاتَّقُوا اللهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ)، قَالَ: فَرَجَعَ ‌فَرَدَّ ‌عَطِيَّتَهُ. صحيح البخاريّ: 2587
أرأيتم إلى هذا الضّمير الحيّ الّذي تملكه عمرة، حيث دفعها إلى عدم قبول العطيّة لولدها دون سائر أبناء ضرّاتها.
خاتمةٌ:
 إنّ النّور الّذي يمحو ظلمات البغي والعدوان، ويقضي على الأخطاء والمخالفات، ويدفع كلّ باطلٍ وزورٍ، هو نور المراقبة الحقّة لله، الّذي يعيش به المؤمن حيثما وُجِد، وهذه هي حقيقة التّقوى الّتي أشار إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (‌اتَّقِ ‌اللَّهِ ‌حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ). سنن التّرمذيّ: 1987
ما أحوجنا إلى مراقبة الله في السّرّ والعلن، والخوف مِن علّام الغيوب، وإيقاظ الضّمائر في القلوب، لنتعرّف -مِن جديدٍ- على أسماء الله الحسنى وصفاته العُلى، أسماء العظمة والجلال، وندنو بها إليه، تلك الأسماء الّتي تدلّ على المراقبة والعلم والإحاطة، كالسّميع والعليم والبصير والرّقيب ونحوها، نتدبّرها ونتعلّمها، ونسير إلى ربّنا بمقتضاها، فيغدو كلّ فرد فينا عاملًا فاعلًا، مثمرًا مجتهدًا، مخلصًا متقنًا، متجنّبًا لجميع سبل الشّرّ والفساد.
فلنستشعر رقابة الله، ولنعظّم ربّنا في قلوبنا، وفي أعمالنا وسلوكنا، ولنحذر غياب هذه المعاني عن ضمائرنا، حتّى لا ننحرف عن صراط ربّنا، وتنتشر الفوضى والجرائم في مجتمعنا، فكلّ ما نراه اليوم من شرٍّ وفسادٍّ، وظلمٍ وطغيانٍ، وأكل للأموال بغير حقّ، وهتكٍ للأعراض والحرمات، وانتحارٍ وسفكٍ للدّماء، فإنّ كلّ ذلك مردّه إلى فقدان الرّقابة، وموت الضّمائر، وغياب الوازع الدّينيّ والأخلاقيّ، فيا ليتنا نصحو مِن رقادنا قبل فوات الأوان!

http://shamkhotaba.org