لا تيأسوا من روح الله
قال تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ).
عباد الله،
إن الله هو الوليُّ الحميد، يخلُقُ ما يشاءُ ويحكُمُ ما يُريد، وهو العدلُ يفعلُ ما يشاءُ، بيده المنع والعطاءُ، والمُعافاة والابتِلاءُ، سبحانه وتعالى وتقدَّسَ، لا تخرُجُ أفعالُه وأوامرُه عن الحِكمةِ والرحمةِ والمصلحة، ونحن عبيدُه بنو عبيدِه بنو إمائِهِ، ماضٍ فينا حُكمُه، عدلٌ فينا قضاؤُه، وهو سبحانه أحكمُ الحاكمين وأرحمُ الراحمين، لا يقضِي لأوليائِه قضاءً إلا كان خيرًا لهم، ساءَهم ذلك القضاءُ أو سرَّهم، وله الحِكمةُ البالِغةُ المحمودةُ في كل ما يجرِي على المُؤمنين حتى وإن كان القضاءُ في ظاهِرِه بلاءً وشرًّا، فإن في طيَّاته من الحِكَم والمصالِحِ ما لا يُحصِيهِ إلا اللهُ، (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ).
وإذا أيقنَ المؤمنون بهذه الحقيقةِ، وتعرَّفوا أوجُهَ الخير والرحمةِ فيما يُصيبُهم؛ امتلأَت قلوبُهم بالثباتِ والصبرِ، وبالرجاءِ والأملِ والثقةِ بوعدِ الله، والاطمِئنانِ إلى حُسن تدبيرِه واختِيارِه، (فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا).
إن الجُرحَ في بلادنا عميق، والمُصابَ عظيم، والألمَ شديد، ولكنَّ الوعيَ الذي أحدَثَه هذا الدمارُ في الأمةِ كبير، ولئن اشتَكَت بلاد الشامُ؛ فلقد أحدثت خيرا كثيرا؛ فقد ضجَّت المساجِدُ بالدعاء، واستيقَظَت في كثير من أبناء الأمةِ مشاعِرُ دفينة، طالَما حاولَ أعداءُ الإسلام تخديرَها، وإذ بها تستيقظُ من جديدٍ، وتتأجَّجُ في القلوب، وهي ترى دماءَ الأحِبَّةِ تجري على أرضِ الشامِ المُبارَكة، فعادَ كثير من الناس عودةً صادقةً إلى الدين، وبانَ صِدقُ الصادقين، وظهر خُذلان الخاذِلين، واستيقَنَت قلوبُ المؤمنين
بقولِ الحقِّ سبحانه: (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذلكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ).
ولا تجزَع إذا ما نابَ خَطْبٌ فكَم لله من لُطفٍ خفِيِّ وكم يُسْرٍ أتَى من بعد عُسْرٍ ففرَّجَ كُربةَ القلبِ الشَّجِيِّ وكم أمرٍ تُساءُ به صباحًا وتأتيكَ المسَرَّةُ بالعَشِيِّ إذا ضاقَت بك الأحوالُ يومًا فثِق بالواحدِ الفردِ العلِيِّ أيها المؤمنون، إن الله تعالى يُريد منَّا عند كل مُصيبةٍ أو نازِلةٍ أن نُكفكِفَ العَبَرات، وأن نمسحَ الأحزان، وأن نُجدِّدَ التوبة، وألا نهِنَ ولا نيأَس، وأن نُدافِعَ القدرَ بالقدر،
(وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).
الابتِلاءُ: رفعةٌ وتطهيرٌ وتمحيصٌ، والشهادةُ: اختيارٌ واصطِفاءٌ،
(وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى). الألمُ يُولِّدُ الأمل، وبقدر ما يشتدُّ الكربُ يحصُلُ اليقينُ بقُرب الفرَج،
(واعلَم أن النصرَ مع الصبر، وأن الفرجَ مع الكَرب، وأن مع العُسرِ يُسرًا). بالصبرِ يكونُ المَدَدُ من السماء: (بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ). وبالصبرِ يذهبُ أذى الأعداء: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا).
ولقد أثنَى اللهُ على الصابرين في البأساء والضرَّاء وحين البأس، فقال سبحانه: (أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقونَ). إنه لا بُدَّ من الصبر ولا بَديلَ عنه، لا بدَّ من الصبرِ على ما تُثيرُه الأحداثُ من الألمِ والغَيظ، ومن اليأسِ أحيانًا والقُنوط، لا بُدَّ من الصبرِ ومن المُصابَرة، مُصابَرة الظالمين الذين يُحاوِلون جاهِدين أن يفلُّوا من صبر المؤمنين. وإذا كان الباطلُ يُصِرُّ ويصبِرُ ويمضِي في الطريقِ، فما أجدرَ أهلَ الحقِّ أن يكونوا أشدَّ إصرارًا وأعظمَ صبرًا، (إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا).
فيا أهل الشام، يا أهل الرباط
(اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ). إن الله عز وجل قد تكفلَ لنبيِّه بالشام وأهله، ومن تكفل الله به فلا ضيعَةَ عليه، وإن وصفَ الشام في الكتاب والسنة بالبركة لمُبشِّرٌ بأنه لن يطُولَ فيها أمَدُ الفتنةِ والطُّغيان؛ لأنها موطِنُ برَكةٍ وأمنٍ وإيمانٍ. ولقد كانت الشامُ مقبرةً لأعداءِ الأمةِ والكِبار؛ ففيها انكسَرَ الصليبيُّون والتتار، وفيها يُغلَبُ الروم كما في حديثِ المَلحَمة الكُبرى، وفيها يُهلَكُ الدجَّال ومن تبِعَه من اليهود، وقد جعل النبيُّ صلى الله عليه وسلم فسادَ الشام مُؤذِنًا بذهابِ الخير من الأمة، فقال صلى الله عليه وسلم: (إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم) وجعل صلاحَها مُبشِّرًا بصلاح أمرِ الأمةِ كلها. وإننا لنُقسِمُ بالله عز وجل جازِمين مُوقِنين بما عوَّدَنا ربُّنا من نُصرة أوليائِهِ والدفاع عنهم إذا أخَذوا بأسبابِ النصر، بأن الكربَ والشدَّةَ لن تطُول على قومٍ أنزَلوا حاجتَهم بالله،
وهتَفوا: يا اللهَ، ما لنا غيرُك يا اللهَ!
والله تعالى يقول: (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)، ويقول: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ). أيها المؤمنون، إن انتظار الفرَجِ من أعظم العبادات، وإن اليأسَ من رحمةِ الله من كبائرِ الذنوبِ، وعلى المؤمنين أن يملأَ قلوبَهم الفألُ بقربِ الفرَجِ، واليقينُ بنهايةِ الظالمين، (فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا). وقد يُريد اللهُ لعباده نصرًا وفرَجًا أعظمَ مما يظُنُّون، وتمكينًا أدوَمَ مما ينتظِرون، (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا). إن اليأس والقنوط ليسا من خلق المسلم، قال سبحانه: (وَلاَ تَيْأسُواْ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأسُ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْكَافِرُون) وقال ابن مسعود رضي الله عنه: (أكبر الكبائر الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله).
إذا اشتملت على اليأسِ القلوبُ وضاق لما بهِ الصدرُ الرحيبُ ولم تر لانكشافِ الضرِ وجها ولا أغنى بحيلته الأريبُ أتاك على قنوطٍ منك غوثٌ يمنُّ به اللطيفُ المستجيبُ وكل الحادثاتِ وإن تناهت فموصولٌ بها الفرجِ القريب فيا أيها الغيورون على أمة الإسلام، يا من احترقت قلوبهم لآلامها، ويا من أصبتم بالبأساء والضراء، إياكم أن يبلغ بكم اليأس مبلغه، فإن الذي أهلك فرعون وعادًا وثمود وأصحاب الأيكة، والذي رد التتار ودحر الصليبيين قادر على أن يمزق شمل الظالمين، ويبدد غطرسة المستبدين، ويحطم أصنام الوثنية المعاصرة. فالثبات الثبات والصبر الصبر ولقد ذكر الله الصبر في القرآن في نحو من تسعين موضعا. بل إن الله عز وجل تعبدنا بالصبر ففرض علينا فرائض لا يمكن قيامها إلا بالصبر: من ذلك صيام شهر رمضان الذي صار على الأبواب.
رمضان! وما أدراك ما رمضان؟
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الْجِنِّ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ، وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ، وَيُنَادِي مُنَادٍ يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ وَذَلكَ كُلُّ لَيْلَةٍ).
إن فتح أبواب الجنة في رمضان حقيقة، لا تحتاج إلى تأويل، وهذه نعمة عظيمة ومنة كريمة من الله، يتفضل بها على عباده في هذا الشهر. إنها الجنة يا عباد الله التي غرسها الرحمن بيده. إنها الجنة التي لا يُسأل بوجه الله العظيم غيرُها. إنها الجنة دار كرامة الرحمن، فهل من مشمر لها؟ إنها الجنة فاعمل لها بقدر مقامك فيها. إنها الجنة فاعمل لها بقدر شوقك إليها. نعم إنها الجنة التي تفتح أبوابها في رمضان، ولكن يا عجباً لها كيف نام طالبها؟ وكيف لم يدفع مهرَها في رمضان خاطبها؟ وكيف يطيب العيش في هذه الدار بعد سماع أخبارها؟ إنها الجنة، دار الموقنين بوعد الله، المتهجدين في ليالي رمضان، الصائمين نهاره، المطعمين لعباد الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ فِي الجنَّةِ غُرفاً يُرى ظَاهُرهَا مِنْ بَاطنهَا، وبَاطُنهَا مِنْ ظَاهرهَا، أَعدَّهَا اللهُ لِمَنْ أَطعمَ الطَّعامَ، وأَلانَ الكَلامَ، وتَابعَ الصِّيامَ، وصَلَّى باللَّيلِ والنَّاسُ نِيام). إنها الجنة ما حُليت لأمة من الأمم، مثلما حُلّيت لأمة محمد صلى الله عليه وسلم. إن الفلاح كلَّ الفلاح، هو هناك, (في جنات ونهر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر)، حيث الحور العين، المقصورات في الخيام، يخطبن ودّك ولا يعصينك أبدًا. إن نبي الله موسى عليه السلام خدم العبد الصالح عشر سنوات، مهراً لزواجه من ابنته. فكم تخدم أنت مولاك لأجل بنات الجنان الحور الحسان؟ هذه أبواب الجنة الثمانية في هذا الشهر قد فتحت، ونسماتها على قلوب المؤمنين قد نفحت, وأبواب الجحيم كلها لأجلك مغلقة، وأقدام إبليس وذريتِه من أجلك موثقة. قال الحسن البصري: "قال إبليس: أهلكتُ أمَّة محمَّد بالمعاصي، فقطعُوا ظهْري بالاستغفار، فأنيبُوا إلى ربِّكم واستغفروا". إنه ليس أمامنا -يا عباد الله - إلا التوبة الناصحة الصادقة.
إذا لم نتب من ذنوبنا في رمضان، فمتى نتوب؟
إذا لم نتخلص من شوائبنا ومعاصينا، في شهر الرحمة، وفي شهر القرآن، فمتى يكون؟
رمضان شهر التراويح، شهر التهجد والمصابيح، عجباً لأوقاته ما أشرفها، ولساعاته التي كالجواهر ما أظرفها، طوبى لعبد صام كل النهار، وقام حتى الأسحار. يا عباد الله، إلى من يلجَأ المذنِبون؟ وعلى من يعوِّل المقصِّرون؟ وإلى أيِّ مهرَب يهربون والمرجِع إلى الله يومَ المعادِ
(يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ) (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ) ومن لم يتُب في زمنِ الخيرات والهبات فمتى يتوب ومَن لم يرجِع في زمَن النّفحات فمتى يؤوب؟ إن من رحمة الله تبارك وتعالى أن أخرَنا لبلوغ هذا الشهر، وأمهلنا فلم يتخطّفنا الموت كما تخطّف أناساً غيرنا، ولو تأمّلنا قليلاً في حال بعض أقربائنا أو جيراننا أو أصحابنا في ساعة ما، فكم هي نعمة أن يبلّغنا ربنا هذا الشهر الكريم، ومنْ يدري هل سوف نبلغه العام القادم أم لا؟
(وَمَا تَدْرِي نَفسٌ مَّاذا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلَيمٌ خَبِيرٌ).
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين، أقول هذا القول وأستغفر الله.
إن لم تمت عالماً فمت طالباً..............ولا تكن الثالث فتهلك .........
http://shamkhotaba.org