وداع رمضان
الكاتب : عبد الرحمن محمود الضحيك
الثلاثاء 22 يوليو 2014 م
عدد الزيارات : 3408
 
وداع رمضان
 
قال تعالى: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).
عباد الله،
لقد عزم شهر رمضان على الرحيل، ولم يبق منه إلا القليل، فمن كان قد أحسن فيه فعليه بالتمام؛ ومن كان قد فرط فيه فليختمه بالحسنى؛ فإن الأعمال بالخواتيم، كما صح ذلك عن نبينا صلى الله عليه وسلم، فتزودوا منه ما بقي من الليالي، واستودعوه عملاً صالحًا يشهد لكم به عند الله.
وهذه الجمعة هي آخر جمعة في هذا الشهر المبارك لهذا العام، فسبحان مصرف الشهور والأعوام، ومدبر الليالي والأيام، وسبحان الذي كتب الفناء على كل شيء، وهو الحي القيوم، الدائم الذي لا يزول،
(الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا). فلا إله إلا الله، كم هم الذين تمنوا حضور هذا الشهر، ولكن حال بينهم وبينه هاذم اللذات ومفرق الأحباب والجماعات. ولا إله إلا الله، كم هم الذين حضروه، ولكنهم لم يقيموا له قدرًا ولا وزنًا. ألا فليعلم كلُّ متأخر عن استغلال هذا الموسم العظيم، أنه ربما يأتيه رمضان القادم وهو تحت التراب، فهل ينفع الندم بعد فوات الأوان؟
قال تعالى:(حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ، لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ).
يقول المقصرون بعد الموت إذا رأوا الحسرات: ربنا أعدنا إلى الدنيا فسوف نجتهد بالأعمال الصالحة، بالصلاة والصيام، والصدقة والقيام، وبالجهاد والرباط، ولا نفرط في شيء أبدا، فهل يعودون؟ لا والله، بل هم في قبورهم مرتهنون، إما في روضة من رياض الجنة، أو في حفرة من حفر النار والعياذ بالله من ذلك. ولو كانوا ينطقون لقالوا للأحياء: تزوّدوا فإن خير الزاد التقوى.
يا عباد الله،
إذا كان الشهر قد وَدّع، وأناس في غيّها لم تَرجع، فمتى تكون اليقظة؟ ومتى يكون الرجوع؟
ألا أيها المقصر -وكلنا كذلك- ويا أيها المفرط -وكلنا كذلك-
أين مُقلتك الباكية؟
وأين دمعتك الجارية؟
وأين زفرتك الرائحة والغادية؟
لأي يوم أخَّرت توبتك؟ ولأي يوم ادخرت عدتك؟ إلى عام قابل، وحول حائل؟ كلا، فما إليك مدة الأعمار، ولا معرفة الأقدار،
فاحمدوا الله -عباد الله- على بلوغ اختتامه، واسألوه قبول قيامه وصيامِه.
 
أيها المقصّر المفرّط، إن الفرصة مواتية، ولا زال في العمر بقية، فأحسن الختام، فالتوبة تَجُبُّ ما قبلها، والأعمال بالخواتيم. فطوبى لمن غَسَل دَرَنَ الذنوب بتوبة، ورجع عن خطاياه قبل فوات الأوبة. يا مَنْ تاب في رمضان، لا ترجع إلى ارتضاع ثدي الهوى من بعد الفطام، فالرضاع يصلح للأطفال لا للرجال، ولكن لا بد من الصبر على مرارة الفطام، فإن صبرت تعوّضت عن لذة الهوى بحلاوة الإيمان في القلوب، (ومن ترك شيئًا لله عوضه الله خيرا منه).
 
يا من وفى في رمضان على أحسن حال، لا تتغير بعده في شوال. يا من أصلح في رمضان وعزم على الزلل في شوال، ويحك فإن ربّ الشهرين واحد. يا مَن عزم على العودِ إلى التّفريط والتقصير بعد رمضان، إن الله يرضى عمّن أطاعه في أيّ شهر كان، ويغضَب على من عصاه في كلّ وقت وآن، ومدارُ السعادةِ إنما هي في طول العمر وحسنِ العمل،
يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (خير النّاس من طال عمره وصلح عملُه). ومداومة المسلمِ على الطاعة من غير قَصر على زمنٍ معيّن أو شهر مخصوص أو مكان فاضل من أعظم البراهينِ على القبول وحسنِ الاستقامة.
شهر رمضان المبارك قد آذن بالرحيل، ولم يبق منه إلا القليل، (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لّلْعَبِيدِ). فيا لسعادة و فوز من اتخذ من رمضان موسمًا لطاعة الله تعالى، فصام نهاره وقام ليله. ويا لشقاوة من لم ينتفع برمضان، فلم يستفد من صيامه ولا قيامه، وإنما كان شغله الشاغل ما يملأ المعدة من أصناف المطعومات، وما يطفئ روح النفس من الطيش والسباب، وإطلاق اللسان فيما حرم الله. وشتان شتان -رحمكم الله- بين من حظه من رمضان القبول والتوبة الصادقة والغفران، ومن كان حظه فيه الخيبة والندامة والتعب والخسران. روى البخاري في الأدب المفرد عن أبي هريرة رضي اللّه عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم صَعدَ الْمِنْبَرَ ذَاتَ يَوْمٍ، فَلَمَّا وَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى الدَّرَجَةِ الدُّنْيَا، قَالَ: آمِينَ، ثُمَّ وَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ، فَقَالَ: آمِينَ، ثُمَّ وَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ، فَقَالَ: آمِينَ، فَلَمَّا فَرَغَ صلى الله عليه وسلم مِنْ خُطْبَتِهِ وَنَزَلَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلاَمَ أَتَانِي حِينَ وَضَعْتُ رِجْلَيَّ عَلَى الدَّرَجَةِ الدُّنْيَا، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ أَوْ أَحَدَهُمَا فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ، فَمَاتَ فَدَخَلَ النَّارَ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ، قُلْ: آمِينَ، قُلْتُ: آمِينَ، ثم قال لي في الدرجة الثانية: ومَنْ ذكِرْتَ عنده فلم يصل عليك فأبعده اللّه، قل: آمين. قلت: آمين، ثم تبدى لي في الدرجة الثالثة فقال: ومن أدرك شهر رمضان فلم يغفر له فأبعده اللّه، قل: آمين. قلت: آمين).
فيا عباد الله،
أوصي نفسي وإياكم أن نتدارك أنفسنا وخاصة في هذه الأيام القليلة الباقية المحدودة، فعسى للمنقطعين عن ركب المقبولين أن يفوزوا باللحاق، وعسى برحمة من الله أن من استوجب النار أن يعتق منها؛ فرحمة الله وسعت كل شيء. فلا تقنطوا -عباد الله- من رحمة الله تعالى، وبادروا بالتوبة الصادقة النصوح، والأعمال الصالحة. وإياكم والملل فإن النصر صبر ساعة. اجتهد أبو موسى الأشعري رضي الله عنه قبل موته اجتهادا شديدا، فقيل له: لو أمسكت ورفقت بنفسك؟ فقال: "إن الخيل إذا أرسِلت في السباق فقارَبَتْ رأسَ مَجْراها أخرجت جميع ما عندها، والذي بقي من أجلي أقل من ذلك". وهذا من أعظم الفقه، فرضي الله عنه وأرضاه. اللهم تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتُب علينا إنك أنت التواب الرحيم. ووفقنا لما تحبه وترضاه، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم.
 
الخطبة الثانية:
عباد الله،
لقد شرع الله لكم في ختام شهركم شرائع فاعلموها، لتعملوا بها ولا تضيّعوها، والأعمال بالخواتيم: أذكّركم بزكاة الفطر التي شرعها الله طُهْرة للصائم من اللغو والرفث وطُعْمة للمساكين وشكرًا لله على توفيقه، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى الْعَبْدِ وَالْحُرِّ، وَالذَّكَرِ وَالأُنْثَى، وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلاةِ). وأذكّركم أيضًا بالتكبير فإنه سنة، قال الله تعالى: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ)، فيُسنّ التكبير ليلة العيد ويسن الجهرُ به في المساجد والبيوت والأسواق؛ تعظيمًا لله وشكرًا له على تمام النعمة. وهو سنة من السنن المهجورة، أحيا الله قلب من أحياها. ويستمر التكبير إلى أن يدخل الإمام في صلاة العيد. وأيضًا أذكّركم بصلاة العيد، فإنها من تمام ذكر الله، قال الله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى، وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى)،
قال بعض السلف: تزكى: أي: أدّى زكاة الفطر، وذكر اسم ربه فَصَلَّى أي صلى صلاة العيد.
فاحرصوا -رحمني الله وإياكم- عليها، فقد ذهب كثير من العلماء إلى وجوبها. ومن المؤسف أيها الإخوة أن بعض الناس تجده بعد التعب في أيام رمضان ولياليه تجده ينام عن صلاة العيد، ولا يشهد الخير مع المسلمين، وهذا حرمان عظيم. ولا يجوز صيام يوم العيد لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، بل المستحب ألا يخرج في عيد الفطر للصلاة حتى يأكل تمرات، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات.
 

http://shamkhotaba.org