قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ). عباد الله،
ها هو رمضان قد انتهى وانقضى،
لقد انتهى شهر الصيام،
انتهى شهر القيام والقرآن،
انتهى شهر البر والجود والإحسان،
فمن كان يعبد رمضان فإن رمضان قد فات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت. ومما لا شك فيه أن الله جل وعلا قد فضل شهر رمضان على سائر الشهور والأزمان، واختصه بكثير من رحماته وبركاته، ويسَّر فيه الطاعة لعباده، مما لا يحتاج إلى دليل أو برهان، ولكن ما يحزن القلب ويؤلم النفس أنك ترى كثيراً ممن ثبتوا على طاعة الله في رمضان، قد أعرضوا عن ذلك بعد رمضان، وكأنهم في رمضان يعبدون ربا آخر، ولا حول ولا قوة إلا بالله. إن الإيمان بالله، والثبات عليه، له ثوابت لا يستغني عنها المؤمن حتى يلقى ربه، وهي ثوابت لابد منها في رمضان وغير رمضان. فمن ثوابت الإيمان الصلاة: مَنْ مِنَ المؤمنين الصادقين يستغني عن الصلاة بعد رمضان؟
انظر إلى المساجد في رمضان، وانظر إلى ذات المساجد بعد رمضان. !
صلاة الفجر التي كان يجتمع فيها عدة صفوف في رمضان، لا يكاد يجتمع فيها صف واحد بعد رمضان. وقد حذر الله أشد التحذير من تضييع الصلاة ومن تركها
فقال جل وعلا: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاَةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا).
وقال جل وعلا:
(كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ، إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ، فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ، عَنِ الْمُجْرِمِينَ، مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ، قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ).
فيا من هيأ الله له صيام شهر رمضان لا تضيع الصلاة، فالصلاة صلة لك بالله، ومعين لك يطهرك من المعاصي والذنوب. الصلاة افترضها الله على المؤمنين وتعبدهم بها في كل زمان ومكان حتى يلقى العبد ربه ليُسأل أول ما يُسأل عن الصلاة.
قالَ النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر).
إن الله الذي أمرك بالصلاة في رمضان هو الذي يأمرك بالصلاة في كل يوم من أيام السنة، لكن ما الذي جرى؟
ما هذا الخلط العجيب في فهم العبودية؟
يا أمة الإسلام، هل نحن نعبد رمضان أم ربَّ رمضان؟
قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ)، ليعبدونِ في رمضان وغير رمضان. عباد الله: ومن ثوابت الإيمان التي ينبغي أن تستمر بعد رمضان القرآن: فالقرآن حياة القلوب والأرواح والأبدان، فهل يستغني مؤمن عن روحه؟
هل يستغني مؤمن عن أصل حياته؟
(إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم)، هل يستغني أحد عن أن يكلمه الله في اليوم مرات؟
فمن أراد أن يكلم الله فليدخل في الصلاة، ومن أراد أن يكلمه الله فليقرأ القرآن، وهل يستغني أحد عن ربه؟
فيا عبد الله،
لا تضيع القرآن بعد رمضان، واعلم أن الله قد مَنَّ عليك بالقرآن في رمضان فجعلت لنفسك جزءا يومياً، فلماذا بعد رمضان تركت هذا الجزء، ووضعت المصحف جانبا كأنك لن تحتاج إليه إلا في رمضان المقبل؟
أنسيت قول نبيك صلى الله عليه وسلم: (اقرؤوا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه).
أم أنك استغنيت عن شفاعته؟ فتنبه لنفسك قبل فوات الأوان. يا عبد الله، لقد ذقت حلاوة الإيمان في رمضان، وعرفت طعمها، ما منا من أحد صام وقام رمضان وقام ليلة القدر، إلا وذاق هذه الحلاوة، حلاوة شرح الصدر وانبساط القلب، فإن كنت قد عرفت ذلك فالزم هذا المنهج الطيب، واستقم على هذا الصراط المستقيم، واسمع إلى نبيك صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (يا أيها الناس عليكم من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا، وإن أحب الأعمال إلى الله ما دووم عليه وإن قلَّ). وعن سفيان بن عبد الله الثقفي أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم (قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك)
فقال صلى الله عليه وسلم: (قل آمنت بالله ثم استقم)، أي استقم على طريق التوبة والاستغفار والإيمان، واستقم على طريق الرباط والجهاد والإحسان، استقم على ثوابت الإيمان التي أعانك الله عليها في رمضان،
قال جل وعلا: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتمْ تُوعَدُونَ، نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآْخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تدَّعُونَ، نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ)
قرأها عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوماً على المنبر فقال: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا)
فقال: استقاموا على منهج الله فلم يروغوا روغان الثعالب. لقد عهدناك في رمضان تائبًا من ذنبك منيبًا إلى ربك، عهدناك في رمضان مهذبًا تقيًا متواضعًا نقيًا، عهدناك في رمضان حريصًا على حضور الجمعة والجماعات، مقبلاً على دروس العلم، مستعدًا لقبول النصائح والعِظات، فلماذا تراجعتَ عن هذا الخير كله وهجرتَ بيت الله وطويتَ مصحفكَ؟ ولا ندري متى تعود إليه أيها المسكين. لقد كنتَ في رمضانَ جوادًا كريمًا معطاءً سخيًا، تبذل الكثيرَ من مالك، وتحسنُ معاملة الناس أجمعين؛ لأنك متخلقٌ بأخلاق الصائمين القائمين.
من رآكَ في رمضان يقول: (ما هذا بشرًا إن هذا إلا مَلَكٌ كريم)؛ لما يرى فيكَ من حرصٍ على الطاعةِ ومواظبةٍ على العبادةِ، فما الذي حدثَ حتى تخرجَ من رمضانَ مقبلاً على المعصية، ناسيًا ما كنت فيه من العبادة والاستقامة؟! ثم اعلم يا من ثبت على طاعة الله في رمضان، ويا من صبرت عن الحرام في رمضان، اعلم أن ثباتك على الطاعة وصبرك عن المعصية، لم يكن بحولك ولا قوتك؛ لأن من أعانه الله فهو المُعان، ومن خذله الله فهو المخذول، فلا حول لك على طاعة الله، ولا قوة لك على الثبات على دينه، ولا قدرة لك على الثبات على الحق إلا بمدده سبحانه، فاستعن بالله ولا تعجز، واتق الله ما استطعت، واطلب المدد والعون منه أن يثبتك على طريق طاعته، وعلى درب نبيه صلى الله عليه وسلم. يا من صبرت على البلاء والمحن في رمضان، اطلب العون والمدد من الله سبحانه، وأنت إن فعلت ذلك فلن يخزك الله أبداً،
أليس هو القائل: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)؟
أليس هذا وعد رب العالمين؟ وأنت تعلم يقينا أن الله لا يخلف الميعاد. فأحسن أيها المسلم ظنك بربك ليكون الله معك، فمن توكل عليه كفاه، ومن اعتصم به نجَّاه، ومن فوض إليه أموره كفاه،
قال جل في علاه: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ)؟ علق قلبك بالله سبحانه فهو الغني الذي لا تنفعه الطاعة، ولا تضره المعصية، ومع ذلك لو تاب إليه عبده الفقير الحقير لفرح بتوبته، وهو الغني عن العالمين، اسمع له صلى الله عليه وسلم كما في البخاري يوم يأتيه سبي، وإذا بامرأة من بين هذا السبي تبحث عن صبي لها فقدته، لا تلوي على شيء، كلما وجدت طفلا قلبته ونظرت فيه، فإذا به ليس طفلها، ثم تجد ابنها بعد مشقة وعناء، فتلصقه ببطنها وترضعه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم يرقبون الموقف، وإذا بها تذرف الدموع على ابنها وهو على ثديها، فيقول صلى الله عليه وسلم: أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ قالوا: لا والله يا رسول الله وهي تقدر أن لا تفعل. فقال: (لَلَّهُ أرحمُ بعباده من هذه بولدها).
نعم إنها رحمة الله جل وعلا، ينادي بها على عباده. إنها رحمة الله التي وسعت كل شيء، فاستعن بالله ولا تعجز، وإياك أن تيأس أو تقنط، واسأل الله أن يثبتك ويهديك، وألح على الله تعالى بأن يربط على قلبك ويثبتك على دينه؛ فالقلوب ضعيفة، والشبهات خطافة، والشيطان قاعد لك بالمرصاد، ولك فيمن تقدمك من المؤمنين أسوة حسنة؛
فإن من دعائهم: (رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ).
وما ذكره الله تعالى عنهم: (رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ). فيا من رحمته وسعت كلَّ شيء ارحمنا برحمتك، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ولا أقل من ذلك. أقول هذا القول وأستغفر الله.
5شوال1435-1-8-2014
http://shamkhotaba.org