دُروسٌ حِسان مِن يوم الفُرقان
الكاتب : رابطة خطباء الشام
الأربعاء 5 أبريل 2023 م
عدد الزيارات : 937
مقدمة:
لا بدّ لشهر رمضان -في مثل هذه الأيّام- مِن أن يُعيد ذاكرتنا إلى مجد أسلافنا الأبطال الأبرار، والصّحابة الأخيار الأطهار، وينقلنا بخيالنا إلى الأحداث التّاريخية العظيمة الّتي حدثت في مثل هذا الشّهر المبارك، والّتي ينبغي ألّا ينساها المسلمون على مرّ الدّهور والعصور، ولعلّ مِن أجلّها: أوّل معركةٍ حاسمةٍ في تاريخ الإسلام والمسلمين، وهي معركة بدرٍ الكبرى، الّتي تجلّى فيها النّصر للمؤمنين، واندحرت فيها جحافل المشركين، ولقد أبلى المؤمنون فيها بلاءً حسنًا، وبذلوا الأرواح والأموال والمُهَج في سبيل الله، لتكون كلمة الله هي العليا، ولمّا علم الله منهم صِدْق الإيمان، وصفاء النّيّة، وطهارة القلب؛ أكرمهم بالنّصر المبين، رغم وجود فوارق كبيرةٍ بين جيش المسلمين وجيش الكافرين، حيث كان جيش الباطل ثلاثة أمثال جيش الحقّ، وكان أكثر عُدّةً وعددًا، ولكنّ شيئًا آخر عظيمًا، وسلاحًا فتّاكًا كان متوفّرًا لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، استعاضوا به عمّا كان ينقصهم مِن العُدّة والعدد، وإنّ هذا الشيء العظيم لَيرجع إلى الإيمان الصّادق، و العقيدة الصّحيحة الّتي علّمتهم أنّ الله مع المؤمنين الصّادقين الّذين نصروا شرعه، وأيّدوا نبيّه، فلن يتخلّى عنهم، وأنّ مَن تسلّحوا بسلاح الإيمان كان الله حافظهم، ينصرهم ويؤّيدهم، ويمحق عدوّهم، ويقطع دابره، ويظهر الحقّ ولو كره المشركون، {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ ‌لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصّفّ: 9].
ولقد حقّق الله لنبيّه وصحبه الكرام ما وعدهم به، فأيّدهم بجنده، وأرسل النّوم إلى عيونهم ليلة المعركة، وأنزل المطر ينعش أبدانهم، {إِذْ يُغَشِّيكُمُ ‌النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ} [الأنفال:11].
فأيّد خُطاهم، وبارك عملهم، وقوّى جَنانهم فغدت سيوفهم تنهال على رقاب المشركين تحصدهم حصدًا، {إذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال:12].
وهكذا تعلّمنا غزوة بدرٍ الكبرى أنّ الله ناصر المؤمنين -ولو بعد حينٍ- وأنّ تدبير الله لعباده -وإن كان في ظاهره شرّا- فيه الخير كلّه، وأنّ مَن وجد الله وجد كلّ شيءٍ، ومَن فَقَد الله فَقَدَ كلّ شيءٍ، فعند الله جنودٌ كثيرةٌ، وأسلحةٌ متعدّدةٌ، {وَمَا يَعْلَمُ ‌جُنُودَ ‌رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} [المدّثّر: 31].
1- الظَّفَر للمؤمنين، ولو بعد حِين
لقد جرت سنّة الله تعالى أن يقطع دابره الطّغاة، ويستأصل شأفتهم، وأن ينتصر لعباده المؤمنين، فهذه عادٌ لمّا كذّبت هودًا أهلكهم الله، وأنجى هودًا ومَن معه {فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ ‌مَعَهُ ‌بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 72].
وقضى في قوم لوطٍ -لمّا كذّبوه وأتوا الفواحش- بقطع دابرهم {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ ‌مَقْطُوعٌ ‌مُصْبِحِينَ} [الحجر: 66].
وذكّر الله المكذبين لرسوله محمّدٍ صلى الله عليه وسلم بعاقبة المكذّبين قبلهم، لئلّا يُهلكهم كما أهلك أولئك {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا ‌مِنْ ‌قَبْلِهِمْ ‌مِنْ ‌قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} [الأنعام: 6].
غير أنّ مَن كُتب عليه الشّقاء لا بدّ أن يدركهم، فيأتوا بأسبابه حتّى ترديهم شقوتهم، ومَن كتب الله نجاتهم أدركتهم رحمته، وقد وقع ذلك -كما قدّره الله وقضاه- في غزوة بدرٍ الكبرى، إذ سارت جنود الباطل تجرّ أذيالها مِن مكّة إلى المدينة، لتنقذ قوافلها مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام، وتضرب خباءها بالقرب مِن مدينتهم تحدّيًا لهم، واستعادةً لهيبةٍ ضعفت بكلمة التّوحيد، وكاد اللّقاء ألّا يتمّ بنجاة القافلة مِن قبضة المسلمين، ولكنّ الله قضى بقطع دابر أئمّة الشّرك {وَإِذْ ‌يَعِدُكُمُ ‌اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} [الأنفال: 7-8]. 
فكان اللّقاء على غير ميعادٍ، وكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يشير إلى مصارع المشركين في أرض المعركة قبل بدئها، والتقى الجمعان، ووقع أمر الله وتحقّق وعده بقطع دابر المشركين، فقُتل سبعون منهم، وأُسر سبعون، وكان في القتلى أعدادٌ كبيرةٌ مِن سادة قريش وصناديدهم، أخذت منهم سيوف الحقّ حظّها، ودارت دائرة السّوء على أعداء الله، وانتصرت الفئة المؤمنة المستضعفة، ونال المعذَّبون ممّن كانوا يعذّبونهم على الإيمان في رمضاء مكّة، وانتصر الله لهم منهم، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رضي الله عنه قَالَ: "كَاتَبْتُ أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَذَكَرَ قَتْلَهُ وَقَتْلَ ابْنِهِ، فَقَالَ بِلَالٌ: ‌لَا ‌نَجَوْتُ ‌إِنْ ‌نَجَا ‌أُمَيَّةُ". صحيح البخاريّ: 3971
وهكذا كانت نهاية المجرمين في الدّنيا شرّ نهايةٍ، وعذاب الآخرة أشدّ وأبقى، ولقد ناداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موتهم، عَنْ عَبْدِ اللهِ بن عُمَرَ ب، قَالَ: اطَّلَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَهْلِ الْقَلِيبِ بِبَدْرٍ ثُمَّ نَادَاهُمْ، فَقَالَ: (‌يَا ‌أَهْلَ ‌الْقَلِيبِ، هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ حَقًّا؟)، قَالَ أُنَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: يَا رَسُولَ اللهِ: أَتُنَادِي نَاسًا أَمْوَاتًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: (مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا قُلْتُ مِنْهُمْ). مسند أحمد: 6145
2- {‌لَا ‌تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ}
إنّ مِن صُلب عقيدتنا وإيماننا أن نعلم أنّ الله قد أحاط بكلّ شيءٍ علمًا، وجعل لكلّ شيءٍ قدرًا، يقضي القضاء فيظنّ النّاس أنّه شرٌّ لهم، وإنّ في طيّاته خيرًا كثيرًا لم يُدركوه، وحادثة الإفك الّتي أُوذي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجته عائشة رضي الله عنها وصاحبه الصّديّق رضي الله عنه، كان فيها مِن الخير ماحكاه الله بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ ‌لَا ‌تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النّور: 11].
وهكذا أيضًا في فرض الجهاد على العباد -مع ما فيه مِن المشقّة والعُسر، والتّضحية بالمال والنّفس- {‌كُتِبَ ‌عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 216].
ووقع ذلك عمليًّا في أوّل مواجهةٍ بين أهل الشّرك وأهل الإيمان، حيث عرض القرآن لهذا الفصل العظيم مِن تدبير الله وتهيئة أسباب ذلك، والمجادلة الّتي جرت بين أهل الإيمان، وهم في بادئ الأمر لا يريدون إلّا العِير، ولا يريدون منازلة جيشٍ لم يتهيّؤوا لمنازلته {‌كَمَا ‌أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ} [الأنفال: 5-6].
لقد خبّأ الله للمؤمنين في بدرٍ ما هو خيرٌ لهم مِن العِير والغنيمة، فهيّأ أسباب المعركة بلا سابق إنذارٍ ولا استعدادٍ، وهنا تظهر التّضحيات، ويستعلي الإيمان، ويتحقق التّوكل، وعندها لا ينظر أهل الإيمان إلى قلّتهم وكثرة عدوّهم، ولهذا لمّا علم الصّحابة عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على غزو المشركين أعلنوا أنّهم ماضون معه، ولو كان في ذلك ذهاب نفوسهم وأموالهم.
لقد غدت بدرٌ بعد النّصر المبين أعظم معركةٍ في التّاريخ كلّه بين أنصار الحقّ وأهل الباطل، وَلَكمْ تمنّى مَن تخلّف عنها مِن الصّحابة إدراكها، فأهل بدرٍ مغفورٌ لهم، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَعَلَّ اللهَ اطَّلَعَ إِلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، ‌فَقَدْ ‌وَجَبَتْ ‌لَكُمُ ‌الْجَنَّةُ). صحيح البخاريّ: 3983
ويكفي دليلًا على قوّة المسلمين بعد بدرٍ، أنّ النّفاق كان بعدها، إذ كان أهل الكفر مِن أهل المدينة وما حولها يعلنون عداءهم للمسلمين، فلمّا انتصر المسلمون في بدرٍ، أظهر كثيرٌ منهم الإيمان خوفًا مِن المسلمين وأبطنوا الكفر، وكلّ ذلك كان مِن خير هذه الغزوة العظيمة الّتي كره المواجهة فيها بعض المؤمنين في بادئ الأمر، ولكنّ أمر الله نافذٌ، وحكمه قاهرٌ، واختيار الله للمؤمنين خيرٌ مِن اختيارهم لأنفسهم {‌وَلَوْ ‌تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} [الأنفال: 42].
فما أجمل أن يوقن العباد بأنّ قضاء الله كلّه خيرٌ، فيتركون ما يريدون لما يريد عز وجل.
خاتِمةٌ:
لكَمْ هي الدّروس والعِبر الّتي توقفنا عليها غزوة بدرٍ الكبرى، ولعلّ مِن أجلّها: أنّ للباطل جولةً وصولةً مؤقّتةً، ولكن سرعان ما يأتي الحقّ فيزهقه، وإنّ مَن تأمّل مصارع المشركين في بدرٍ، علم أنّ لله الحكمة البالغة في ذلك، فما كان بينهم وبين السّعادة الأبديّة إلّا أن يؤمنوا، ولو آمنوا -وهم سادة مكّة وأشراف قريشٍ- لسادوا النّاس، كما ساد أبو بكرٍ وعمر وعثمان وعليٌّ وسائر الأشراف مِن قريشٍ، ولكن مَن حجب قلبه عن الحقّ، فلن يتقبّل الذّكرى، ولن تجدي فيه المواعظ، ولو جاءته النّذر، وأبصر الآيات {مَنْ ‌يُضْلِلِ ‌اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأعراف: 186].
وإنّ الله يوفّق للهداية مَن يأخذ بأسبابها، ويحجب عنها مَن يرفضها {فَأَمَّا مَنْ ‌أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ ‌لِلْعُسْرَى} [الّليل: 5-10].
وما أحوج المسلمين اليوم لأن يملؤوا قلوبهم -كأهل بدرٍ- بحسن الظّنّ بالله، وصِدْق الإنابة والتّوكّل عليه، واليقين بأنّ الله لا يقدّر شرًّا محضًا، بل سيظهر بعد استبانة الأمر أنّ قضاءه كان خيرًا للمؤمنين، كما استبان ذلك للصّحابة في بدرٍ، بعد أن كره بعضهم مقاتلة المشركين، ولذا كان مِن الواجب علينا أن نجدّد هذا الإيمان بالله وحده، واليقين بأنّ الأمر كلّه بيده، ولا نحزن لكثرة المصائب، وتنوّع الابتلاءات، وتسلّط الكافرين علينا؛ بالإفساد في بلادنا، وسفك دمائنا، وتدمير بيوتنا، وتدنيس مقدّساتنا، فإنّ هذه الأحداث العصيبة فيها الخير الكثير، فقد بيّنت الخبيث مِن الطّيب، وكشفت لنا اللّثام عن أناسّ تخلّوا عن عقائدهم، وانحازوا بعقولهم إلى طوائف الطّغاة المجرمين، وكان ما فعلوه بالمسلمين أشدّ ممّا فعله الأعداء، فلندعُ ربّنا بالثّبات على الحقّ والوقوف مع أهله، حتى نلقاه على الإيمان، ونلقى الصّحب الكرام في أعلى الجِنان.
 

http://shamkhotaba.org