مقدمة:
إنّ مِن نِعَم الله العظمى ومِنَنِه الكبرى على عباده -الّتي يختصّ بها مِن يشاء- أن يجعل لهم أثرًا حسنًا، وذِكرًا في النّاس باقيًا، وإنّ هذا لدليلٌ على قبول هذا العبد الّذي اصطفاه ربّه وأحبّه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِذَا أَحَبَّ اللهُ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، فَيُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي أَهْلِ الْأَرْضِ).
ولقد ذكر الله أنبياءه في كتابه، وأخبر أنّه أبقى لهم ثناءً عاليًا، يُدخل المحبّة إلى القلوب، وجعل هذا الأثر دائمًا إلى يوم الدّين، فقال عن موسى وهارون عليه السلام: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ} [الصّافات: 119-120].
وقال عن إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليه السلام: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا * وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} [مريم: 49-50].
وجعل رسوله محمّدًا صلى الله عليه وسلم أرفع النّاس قدرًا، وأبقاهم ذِكرًا في الدّنيا والآخرة، فقال عز وجل: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشّرح: 4].
وإنّ في هذه الآية لبشرى لكلّ مَن كان على نهجه وسنّته، حيث سيكرمه الله بأن يجعل له نصيبًا مِن إحياء ذِكره بعد موته، جزاء ما أحيا مِن سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمّا مَن حاد عن نهجه، وترك وصاياه وتعاليمه، فسيُطفأ ذكره بموته، ويصيبه نصيبٌ مِن هذه الآية -الّتي نزلت في حقّ مبغض رسوله- {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} [الكوثر: 3].
وما أجمله مِن عطاءٍ! وما أجزله مِن ثوابٍ عاجلٍ قبل ثواب الآجل! أن يطلق الله ألسنة النّاس بالثّناء على أهل الخير بالخير والدّعاء، وما أشدّ قبح مَن يذكرهم النّاس بأشنع صفاتهم، فتلحقهم اللّعنات والدّعوات، بالطّرد مِن رحمة ربّ الأرض والسّماوات، فقد قال ربّنا جل جلاله عن فرعون وقومه بعدما أهلكهم: {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} [القصص: 42].
دقّات قلب المرء قائلةٌ له إنّ الحياة دقائقٌ وثواني
فارفع لنفسك بعد موتك ذِكرها فالذّكر للإنسان عمرٌ ثاني
1- نِعَم الله على العباد
قد يوسّع الله على بعض خلقه بالنِّعم، ويغدق عليهم مِن خيراته، وقد يضيّق على آخرين في عيشهم، وكلّ ذلك بمقتضى حكمته وتقديره، ولكنّ هذه النّعم المادّيّة التّي تأتيهم سرعان ما تزول، ويزول صاحبها، ولكن إذا ما تأمّلنا في نِعم الله الظّاهرة والباطنة، وجدنا أنّ هناك نوعًا آخر مِن النّعم يختصّ بها ربّنا مَن يشاء ويختار مِن عباده، وإنّ مِن أعظم هذه النّعم أن يكرم بعض خلقه بالذِّكر الجميل، والسّمعة الحسنة، وبقاء الثّناء الطّيّب للمرء بعد موته، وإنّه لاصطفاءٌ مِن الله لمَن صنعوا المعروف، وجبروا الخواطر، وقضوا لإخوانهم الحوائج، ونفعوا عباد الله، واتّصفوا بالأخلاق العالية، والصّفات الحميدة، فكم مِن أناسٍ فضلاء رحلوا عن دار الفناء، ولا زالت محاسنهم وآثارهم في كلّ مكانٍ، تحمل النّاس على عمل البرّ والخير، وصنع المعروف والإحسان، وكلّها أعمالٌ يتعدّى نفعها للآخرين، ويستمرّ أثرها وأجرها، ويُكتب ذلك في صحائف هؤلاء عند ربّهم {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس: 12].
وإنّ هذا مِن البشرى الّتي يعجّلها الله للمؤمنين في الدّنيا، عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ مِنَ الْخَيْرِ وَيَحْمَدُهُ النَّاسُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: (تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ).
وقد أرشدنا كتاب الله إلى تحقيق مقام الإحسان الّذي ينال به العبد استمرار الثّناء الحسن بعد الموت؛ فقال: {وتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصّافّات: 78-80].
فينبغي على المؤمن أن يُحسن لنفسه أوّلًا، فيهذّبها ويزكّيها ويقيمها على صراط الله، ومِن ثَمّ عليه أن يجعل إحسانه يمتدّ ليصل إلى الخلق أجمعين، فيكون مِن خيرة عباد الله وأحبّهم إليه، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟ وَأَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: (أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللهِ تَعَالَى أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ).
وينطبق فيهم:
قد ماتَ قومٌ وما ماتَت مكارِمُهم وعاشَ قومٌ وهُم في النَّاسِ أمواتُ
ولكن في مقابل هؤلاء أناسٌ عاشوا وماتوا، وما انتفع منهم أحدٌ، ولا حَزن لفقدهم مخلوقٌ، ولا بكى لرحيلهم شيءٌ، حيث لم تكن لهم آثارٌ طيّبةٌ، ولا أعمالٌ صالحةٌ، وفي مثل هؤلاء يقول الحقّ: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} [الدّخان: 29].
فكأنّهم قطّ ما كانوا وما وُجدوا.
2- أصناف النَّاس بعد الموت
لقد خلق الله الإنس والجنّ لمهمّةٍ عظيمةٍ، وغايةٍ نبيلةٍ، وهي عبادة الله وحده {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذّاريات: 56].
وجعل الدّنيا دار اختبارٍ وامتحانٍ، حيث ابتلاهم بالخير والشّرّ، وأمرهم ونهاهم، ليمتحنهم أيّهم أحسن عملًا {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2].
فكان النّاس في ذلك أصنافًا وأنواعًا، فصنفٌ عمل الطّاعات والخيرات، ولكنّ عمله اقتصر على نفسه، فانقطع ثواب أعماله بموته، وصنفٌ آخر عرف أنّ هذه الدّنيا قصيرةٌ، وأنّها أيّامٌ معدوداتٌ سرعان ما يرحل الإنسان عنها، فبادر إلى أعمالٍ صالحةٍ طيّبةٍ ينفع بها نفسه والنّاس أجمعين، فاجتهد في أعمالٍ يسري نفعها للغير، ويستمرّ خيرها وثوابها إلى يوم الدّين، فسارع إلى الأعمال الباقية، والصّدقات الجارية، الّتي يجري للعبد ثوابها، ويدوم أجرها، ويبقى أثرها، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ عِلْمًا عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ، وَوَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ، وَمُصْحَفًا وَرَّثَهُ، أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ، أَوْ بَيْتًا لِابْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ، أَوْ نَهْرًا أَجْرَاهُ، أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ، يَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ).
وما أشدّ حاجة الميّت إلى دعاءٍ صالحٍ يصله مِن ولدٍ أو قريبٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللهَ عز وجل لَيَرْفَعُ الدَّرَجَةَ لِلْعَبْدِ الصَّالِحِ فِي الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، أَنَّى لِي هَذِهِ؟ فَيَقُولُ: بِاسْتِغْفَارِ وَلَدِكَ لَكَ).
ولا تقتصر الأعمال الّتي يبقى ثوابها للعبد بعد موته على ما سبق ذِكره، فقد بيّن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أعمالًا أخرى يستمرّ أجرها، كموت المجاهد وهو مرابطٌ على الثّغور، عَنْ سَلْمَانَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ، وَإِنْ مَاتَ جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ، وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ وَأَمِنَ الْفَتَّانَ).
ويا لها مِن مكرمةٍ عظيمةٍ للمؤمن أن يوفقه -في دنياه- لأعمالٍ صالحةٍ نافعةٍ باقيةٍ، بينما أهل القبور في قبورهم مرتهنون، وعن الأعمال منقطعون، وعلى ما قدّموا في دنياهم محاسبون، وكم الفرق كبيرٌ بين مَن تتوقّف حسناته بموته، وبين مَن تستمرّ حسناته إلى يوم لقاء ربّه يوم المعاد، ولمثل هذا فليعمل العاملون، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
خاتمةٌ:
عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: مُرَّ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِجِنَازَةٍ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا، فَقَالَ: (وَجَبَتْ)، ثُمَّ مُرَّ بِأُخْرَى فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا، أَوْ قَالَ: غَيْرَ ذَلِكَ، فَقَالَ: (وَجَبَتْ)، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، قُلْتَ لِهَذَا وَجَبَتْ وَلِهَذَا وَجَبَتْ؟ قَالَ: (شَهَادَةُ الْقَوْمِ، الْمُؤْمِنُونَ شُهَدَاءُ اللهِ فِي الْأَرْضِ).
فالنّاس شهداء الله في الأرض، ولنعلم أنّ الإنسان بعد موته إمّا مستريحٌ وإمّا مستراحٌ منه؛ كما أخبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ الْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةٍ، فَقَالَ: (مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ)، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا الْمُسْتَرِيحُ وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ؟ قَالَ: (الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا إِلَى رَحْمَةِ اللهِ، وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلَادُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ).
ولنعلم أنّه في الوقت الّذي حثّ فيه الإسلام على تحصيل الثّناء الحسن، واستمرار الذِّكر الطّيّب، فقد أمر بتحقيق الإخلاص لله وحده، ومراقبة الله في الأقوال والأفعال والأحوال، حتّى يكون الدّافع إلى الأعمال والقربات ابتغاء ما عند الله ورجاء ثوابه {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} [المزمّل: 20].
وإنّ مِن أعظم الخسارة أن يكون حظّ الإنسان مِن عمله ثناء النّاس ومدحهم، فيردّ عليه عمله، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: (أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ).
فلا يقبل الله مِن العمل إلّا ما كان خالصًا وابتُغي به وجهه {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].
وإنّ الخسارة الفادحة أن يموت الإنسان -وقد أعطي عمرًا مديدًا ومالًا كثيرًا- ولا يكن له في الأرض شاكرٌ، ولا في السّماء ذاكرٌ، فأيّ حرمانٍ أعظم مِن هذا؟!
http://shamkhotaba.org