الحمد لله رب العالمين ، الحمد لله العزيز الحكيم ، العليم الحليم ، البر الرحيم ، لك الحمد يا ربنا حمدا يليق بجلال وجه الله العظيم ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، أرسل رسله ليرشدوا الناس إلى الطريق الأرشد ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وصفيه من خلقه وخليله ، تجسدت خصائص الرسالة في سيرته فكان حقا علينا أن نعود إليها بين الحين والأخر نقبس من نورها في ظلمات المدلهمات التي تمر بنا ونعايشها ، فصل يارب وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا ، أوصيكم عباد الله ونفسي المذنبة بتقوى الله العظيم وأحثكم على طاعته وأحذركم وبال عصيانه ومخالفة أمره ، وأستفتح بالذي هو خير :
قال تعالى : ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ) ، أما بعد : أيها الإخوة الأحبة ، إن الإسلام بكل جوانبه ، وتشريعاته ، يظهر لناظرين إليه ، والمتتبعين لتعاليمه ، يظهر لهم خصائص تجعلهم يذعنون بصدقه ، ويسلمون ويستسلمون لأوامره ، من تلك الخصائص التي امتاز بها ، وظهرت جليا على أحكامه ، هو الانسجام مع الفطرة البشرية ، وسعيه الدائم لتهذيب النفس وتقويمها ، وإبعادها عن كل مظاهر الشذوذ والتطرف والغلو ، والآيات والأحاديث في ذلك أكثر من أن تجمع ليس في خطبة بل أكثر من أن تجمع في كتاب ، فمن ذلك قول الله سبحانه " وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ" بل وأمر سبحانه بالالتزام بالمأمور من الأحكام دون زيادة عليها مخاطبا في ذلك النبي صلى الله عليه وسلم والأمة من بعده "فاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ" ومن الآيات التي حرمت الغلو والتطرف يقول الله سبحانه " قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ" ومن السنة النبوية ما جاء عن عائشة رضي الله عنها, أن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, سألوا أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبادته في السر . ((جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا, فَقَالُوا: فأَيْنَ نَحْنُ مِنْ رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وقَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا, وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ, وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ ولَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا, فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ, فَقَالَ: أَنْتُمْ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا, أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ, لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ, وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ, وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ, فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنّي)) أخرجه البخاري ومسلم في الصحيح, والنسائي في سننه ، ولقد كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- أُسْوةً لِلْعَالَمِ فِي أَخْلاَقِهِ وَسُلُوكِهِ وَاعتِدَالِهِ، وَكَانَ أَهمُّ مَا يُمَيِّزُ سُلُوكَهُ فِي كُلِّ أَمْرِهِ الرِّفْقَ وَاليُسْرَ، بَلْ كَانَ شَدِيدَ الإِنْكَارِ عَلَى المُتَشَدِّدِينَ فِي الدِّينِ الذِينَ يَخْرُجُونَ بِتَدَيُّنِهِمْ عَنِ الاعتِدَالِ، لِذَلِكَ أَوصَانَا -عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ- فَقَالَ: ((إنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ، فَأَوغِلْ فِيهِ بِرِفْقٍ، وَلاَ تُبَغِّضْ إِلَى نَفْسِكَ عِبَادَةَ اللهِ، فَإِنَّ المُنْبَتَّ لاَ أَرْضًا قَطَعَ، وَلاَ ظَهْرًا أَبقَى))، وَالمُنْبَتُّ هُوَ الذِي يَركَبُ الدَّابَّةَ وَهُوَ عَلَى عَجَلٍ فَيَضْرِبُهَا حتَّى تُسْرِعَ، وَيَقتَلُهَا مِنْ شِدَّةِ الضَّرْبِ، فَلاَ هَوُ وَصَلَ سَرِيعًا وَلاَ أَبقَى عَلَى دَابَّتِهِ، وَهَكَذَا الغَالِي فِي دِينِهِ يَظَلُّ بِغُلُوِّهِ حتَّى يَخْرُجَ مِنَ الهَدْيِ الصَّالِحِ، ويُضَيِّعَ الدِّينَ بِغُلُوِّهِ فِيهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ حَرِيصًا عَلَيْهِ. وإن الالتزام بالشريعة كما جاءت دون إفراط ولا تفريط هو الوسطية التي قال عنها الله سبحانه مادحا بها أمة محمد صلى الله عليه وسلم فقال جل شأنه ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا ) والوسط من كل شيء أقومه وأعدله ، ويقول العلماء إن الفضيلة هي الوسط بين رذيلتين فمثلا الصبر وسط بين رذيلة الخنوع وبين رذيلة الضجر والتذمر ، والعدل فضيلة بين السكوت عن طلب الحق وبين الامتناع عن أداء الحقوق ، وهكذا .
أيها الإخوة الأحبة : إن التشدد والتنطع والغلو يظهر الإسلام للناس بمظهر التشريع الذي يريد أن يشق على الناس ، يضيق عليهم الخناق فيمتنع الناس عن التطلع لتطبيقه ـ أما السماحة واليسر الذي أظهره النبي وصحبه في تطبيقهم للإسلام جعل الناس يتطلعون إلى اعتناقه والتزمه فها هم أهل أكبر دولة إسلامية أندونيسيا دخلها الإسلام فقط عن طريق التجار المسلمين فلا قتال ولا سيف، فلنري للعالم أجمع خصائص هذا الدين فنحن أمة لا نسكت على حق ، ولا نعتدي على حق . اللهم اجعلنا ممن يحل حلالك ويحرم حرامك ، اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه .