الحاجة إلى التفاؤل
الكاتب : عبد الرحمن محمود الضحيك
الجمعة 19 سبتمبر 2014 م
عدد الزيارات : 7270

 قال تعالى: (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ، إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ). (النحل-127)
عباد الله :
إن الحياة الدنيا تتقلّب صفحاتها بين ضيق وشدّة، وهم وحزن، وتموج بأهلها من حال إلى حال؛ بسطٌ وقبض، سراء وضراء، قال تعالى:
(وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ).(آل عمران-140)
وفي بلادنا اليوم مصائبُ ومحنٌ وابتلاءات، حالة مُرعبة من قلب المآسي، تصدُّعُ وحدتها، وتفرُّق كلمتها، اشتدادُ البأس وألوان البلاء: من قتلٍ وتشريد مع فشوّ الجهل، مع ما أصابها من نكبة الذلّ والهوان وتكالب الأعداء، إلى جانب انتشار التحلل والفساد في أبناء الأمة.
أحداث الحياة، وشدائدُ الأحداث، وأحوال الأمة قد تكسب الإنسانَ لونًا من اليأس والقنوط، الذي هو مثبِّط للعزائم، وقاتلٌ للرجال، ومزلزل للشعور، ومحطّم للآمال.
وفي أوقات الأزمات تعظم الحاجة لاستحضار التفاؤل، والمتأمّل في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم يجد تأكيده الأكيد، وحرصه الشديد، على التبشير في موضع الخوف، وبسط الأمل في موضع اليأس والقنوط؛ حتى لا تُصاب النفوس بالإحباط.
في قصة إسلام عدي بن حاتم رضي الله عنه، قال عدي: بَيْنَا أَنَا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذ أَتَاهُ رَجُلٌ فَشَكَى إِلَيْهِ الْفَاقَةَ، وَأَتَاهُ آخَرُ فَشَكَى إِلَيْهِ قَطْعَ السَّبِيلِ. فقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: (إِيهِ يَا عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ، أَمَا إِنِّي أَعْلَمُ الَّذِي يَمْنَعُكَ مِنَ الإِسْلامِ; تَقُولُ: إِنَّمَا اتَّبَعَهُ ضَعَفَةُ النَّاسِ وَمَنْ لا قُوَّةَ لَهُ، ومَا تَرَى مِنْ كَثْرَةِ عَدُوِّهِمْ وَقِلَّةِ عَدَدِهِمْ، وَقَدْ رَمَتْهُمُ الْعَرَبُ. أَتَعْرِفُ الْحِيرَةَ؟) قُلْتُ: لَمْ أَرَهَا وَقَدْ سَمِعْتُ بِهَا. قَالَ: (فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُتِمَّنَّ اللهُ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى تَخْرُجَ الظَّعِينَةُ مِنَ الْحِيرَةِ حَتَّى تَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ لا تَخَافُ أَحَدًا إِلا اللهَ عَزَّ وَجَلَّ وَالذئبَ عَلَى غَنَمِهَا. ولَعَلَّكَ يَا عَدِيُّ إِنَّمَا يَمْنَعُكَ مِنْ دُخُولٍ فِي هَذَا الدِّينِ مَا تَرَى مِنْ حَاجَتِهِمْ، فَوَاللهِ لَيُوشِكَنَّ الْمَالُ أَنْ يَفِيضَ فِيهِمْ حَتَّى لا يُوجَدَ مَنْ يَأْخُذهُ، وَلَئِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتَرَيَنَّ الرَّجُلَ يَخْرُجُ بِمِلْءِ كَفِّهِ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، يَطْلُبُ مَنْ يَقْبَلُهُ مِنْهُ فَلا يَجِدُ أَحَدًا يَقْبَلُهُ مِنْهُ. وَلَعَلَّكَ إِنَّمَا يَمْنَعُكَ مِنْ دُخُولٍ فِيهِ أَنَّكَ تَرَى أَنَّ الْمُلْكَ وَالسُّلْطَانَ فِي غَيْرِهِمْ، وَايْمُ اللَّهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ تَسْمَعَ بِالْقُصُورِ الْبِيضِ مِنْ أَرْضِ بَابِلَ قَدْ فتِحَتْ عَلَيْهِمْ، وَلَيَفتَحَنَّ كُنُوزَ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ). قَالَ: قُلْتُ: كِسْرَى بْنَ هُرْمُزَ؟! قَالَ: (نَعَمْ كِسْرَى بْنَ هُرْمُزَ). فَأَسْلَمْتُ، فَرَأَيْتُ وَجْهَهُ اسْتَبْشَرَ.
هكذا يكون الرجال، بالإيمان يحوّلون الألم إلى أمل، والتشاؤم إلى تفاؤل، والضيقَ إلى سعة، والمحنة إلى منحة.
المسلم المتفائل لا يسمح لمسالك اليأس أن تتسلّل إلى نفسه، أو تعشّش في زوايا قلبه، قال تعالى: (إِنَّهُ لا يَيْأسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ).(يوسف-87)
لقد ملأ التفاؤل حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ورسّخه مبدأً ساميًا، وربّى عليه الأوائل الأفذاذ: رأى راعيًا لإبل فقال: (لمن هذه؟) فقال: لرجل من أسلم، فالتفت إلى أبي بكر رضي الله عنه فقال: (سلمتَ إن شاء الله) ، وبدّل اسم امرأة تدعى: عاصية إلى جميلة، واسمَ رجل يدعى: أصرم إلى زرعة. وفي الحديبية جاء سهيل يفاوض النبي صلى الله عليه وسلم عن قريش، فتفاءل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (سَهَّلَ اللهُ أمْرَكُمْ).
هذه هي القيادة الفذة التي تلتمس الأسباب؛ لتنشر وتبذر في النفوس التفاؤل. "تفاءلوا بالخير تجدوه"، ما أروعها من كلمة، وما أعظمها من عبارة. المتفائل بالخير سيحصد الخير في نهاية الطريق؛ كما قال ربنا تبارك وتعالى: (إِنْ يَعْلَم اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا)(الأنفال70)، فاجعل في قلبك خيرًا وأبشر. أعلى التفاؤل: أن تتوقّعَ الشفاءِ عند المرض، والنجاحَ عند الفشل، والنصرَ عند الهزيمة، وأن تتوقّع تفريج الكروب، ودفع المصائب والنوازل عند وقوعها، فالتفاؤل في هذه المواقف يولّد مشاعر الرضا والتحمّل والثقة، ويبعد مشاعر اليأس والانهزامية والعجز. أساس التفاؤل: أن تثق بالله وترضى بقضائه، وأن تعلم أنه لن يصيبك إلا ما كتب الله لك؛ فلا تستبطئ الرزق، ولا تستعجل النجاة، ولا تقلق على حال الأمة. التفاؤل حتى لو نزلت بك مصيبة، فأحرق بيتك أو دمر، أو دهمك مرض أو فقر، أو فقدت ولدًا أو زوجة، أو أخا أو صاحبا. العمل على دفع ما تقدر من بلاء، أو تخفيف ما نزل بأمتك من ضرّ، ثمّ اطمع في ثواب الصبر وتحمّل المشاقّ. تفاءل لأنّ في كلّ محنة منحةً، ولا تخلو مصيبة من غنيمة، تقول أمّ السائب: الحمّى لا بارك الله فيها، فينهاها صلى الله عليه وسلم: (لا تسبّي الحمّى)؛ فلها فوائد: تهذب النفس وتكفر الذنوب، تذهب خطايا بني آدم كما يذهب الكير خبث الحديد، قال صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم يُشاك شوكة فما فوقها إلا كُتبت له بها درجة، ومحيت عنه بها خطيئة). ففي معترك المصائب أوقِد جذوةَ التفاؤل، وعِش في أمل وعمل، ودعاءٍ وصبر، ترتجي بعض الخير وتحذر الشرّ. التفاؤل الذي نتحدّث عنه هو الذي يولّد الهمّة، ويبعث العزيمةَ، ويجدّد النشاط.
المسلم المتفائل متوكّلٌ على الله، وهو أكثرُ الناس نشاطًا، وأقواهم أثرًا، كلُّ عسير عليه يسير، وكلُّ شدّة فرجُها آتٍ وقريب.
المتفائل دائمًا يتوقّع الخير، يحسن الظنَّ بالله، ويرجو رحمة الله، ويتعلّق بحبل الله المتين وتلك ثمرة الإيمان، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنّ حُسن الظنّ بالله من حسن عبادة الله). رواه الحاكم وصححه.
والله عز وجلّ بيده مقادير الأمور، وهو سبحانه سيكشف الضرَّ الذي نزل بالأمّة، وسيجعل بعد العسر يسرًا، وبعد الضيق فرجًا.
إذا اشتملت على اليأسِ القلوبُ == و ضاق لما بهِ الصدرُ الرحيبُ
و لـم تــر لانكشافِ الضـــرِ وجهـــا == و لا أغـنـى بحيلتــه الأريــبُ
أتـــاك علــى قنــوطٍ منــك غــوثٌ == يمنُّ بـه اللطيفُ المستجيبُ
و كـــل الحـادثــاتِ و إن تنـاهـــت == فموصــولٌ بهـا الفرجِ القريــب

وفي مقابل الحديث عن التفاؤل: فإن الحديث بالتشاؤم عن حال المسلمين يفتُّ في عضد المسلمين، ويصيب بالحزن والقنوط. إن الذي يردّد كلمات الخوَر والاستسلام يظنّ أنّه بذلك قد وجد لنفسه عذرًا يتخلّص به من محاولة القيام بالواجب، ومن كان هذا حاله لن يبني خيرًا، ولنستمع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يهذب النفوس ويربيها على نبذ التشاؤم فيقول: (إذا قال الرجل: هلك الناس فهو أهلكُهم).
إن كثرةَ الكلام عن قوّة الأعداء قد تورث القلوبَ وهنًا، فتتوهّم الضعف وقوّة الحيلة، فيجرّها ذلك إلى اليأس وترك العمل، ويفضي ذلك إلى إطلاقِ الأحكام على الناس واعتزالِهم وتكفيرهم. فيُثبِّطُ العزائم، ويحطِّم المعنويّات، وينفِّر من النصر، وهذا حال المتشائِم، لا عملَ لديه، ولا همّة في نفسه، ولا غاية تحدوه، ولا هدف يدفعه، خمول وأوهامٌ وأحلام، وعملُه تعداد السلبيات، وسوء ظنّ بالآخرين. هذا عبءٌ على مجتمعه وأمته، يعيش على هامش الحياة صغيرَ الشأن خاملَ الذكر، ودواء ذلك أن تمتلئ النفوس بالثقة بالله والتصديقِ بوعده، ثم تبذل الأسباب لتحقيق ذلك بالعمل والبناء، قال تعالى: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ). (غافر-51) 
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين، أقول هذا وأستغفر الله.


http://shamkhotaba.org