مقدمة:
في عقيدتنا: الله الحيّ سبحانه، واهب الحياة، والحياة عندنا تنقسم إلى الدّار الأولى وهي الدّنيا، والدّار الآخرة، وبينهما برزخٌ لا يبغيان، والبرزخ مرحلة القبر وتبدأ بالموت حتّى البعث، ودار الدّنيا هي دار الابتلاء والاختبار {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك: 1-2].
وقد سبق حياتنا الدّنيا موتٌ ويليها الموت {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا * إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان: 1-3].
فالإنسان مخلوقٌ مِن نطفةٍ أمشاجٍ ليُبتلى، والبلاءات متعدّدةٌ متنوّعةٌ، فمنها الابتلاء بالخوف، ومنها الابتلاء بالجوع، ومنها الابتلاء بنقص الأنفس وكذلك نقص الثمرات {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 155-157].
بل ربّما ابتُلي المرء في ولده، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (مَا يَزَالُ البَلاَءُ بِالمُؤْمِنِ وَالمُؤْمِنَةِ فِي نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَمَالِهِ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ).
فإذا كان الابتلاء بالخوف أحد أنواع ابتلاءات هذه الدّنيا فإنّ ذلك يفسِّر ما نمرّ به مِن خوف القصف والقذائف، وحركة النّزوح المترتّبة على ذلك، وهي مرحلةٌ تمرّ بنا لتذكّرنا نعمة الأمن الّتي مرّت بنا سابقًا {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: 1-4].
وهذا حال الدّنيا تتقّلب، ولا يدوم على حالٍ لها شأنٌ.
1- خوفٌ مثمرٌ
نبّهتنا الأحاديث النّبويّة إلى أهمّيّة نعمة الأمن، كي نشكرها، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ أَصْبَحَ مُعَافًى فِي بَدَنِهِ، آمِنًا فِي سِرْبِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا).
وإنّ وجود نعمة الأمن مدّةً مِن الزّمن لا يقتضي بقاءها سائر الأزمان، فالدّنيا أحوالها تتقلّب وتتغيّر، قال أبو البقاء الرّنديّ في نونيّته المشهورة:
هي الأمور كما شاهدتها دولٌ مَن سرَّه زمنٌ ساءته أزمان
وقال النّمر بن تولب:
فلا وأبي النَّاسُ لو يعلمون للخير خيرٌ وللشَّرِّ شرُّ
فيومٌ علينا ويومٌ لنا ويومٌ نُساء ويومٌ نسرُّ
وتقلّب أحوال الدّنيا يجعل المسلم يتقلّب أيضًا بين حالي الصّبر والشّكر، فإذا أمن شكر، وإذا خاف صبر، عَنْ صُهَيْبٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ).
وقد يتغيّر الحال مِن أمنٍ إلى خوفٍ عقوبةً للعصاة لعلّهم يرتدعون، فيؤوبون ويتوبون، {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النّحل: 112].
يقول الطّبريّ: في تفسيره هذه الآية: "مثّل الله سبحانه مثلًا لمكّة الّتي سكنها أهل الشّرك بالله هي القرية الّتي كانت آمنةً مطمئنّةً، وكان أمنها أنّ العرب كانت تتعادى، ويقتل بعضها بعضًا، ويَسْبي بعضها بعضًا، وأهل مكّة لا يُغار عليهم، ولا يُحارَبون في بلدهم، فذلك كان أمنها، وأمّا الخوف الّذي نزل بهم فإنّ ذلك كان خوفهم مِن سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم الّتي كانت تطيف بهم".
يأتي الخوف ليذكّرنا أنّنا في دار الأكدار والهموم، فالأمن إذا استمرّ واستقرّ ينقلب النّاس إلى دنياهم يعمرونها ويصلحونها وهي آيلة إلى خرابٍ لا محالة، ومِن العجز أن يبالغ المرء في عمران ما تحقّق أنّه منهدمٌ، بل الحكيم هو الّذي يعبر هذه الدّار بأقلّ الخسائر، ويسعى أن يعمر دار الاستقرار {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر: 18-19].
2- خوفٌ في حياة الكليم
يعتبر البعض الخوف الّذي نزل بالشام وأهلها مِن عقاب الله عز وجل لهم، ويسوقون الآية السّابقة الّتي نزلت في أهل مكّة، حيث كانوا آمنين مطمئنّين فأُبدلوا بعد أمنهم خوفًا، لكنّ هذا التّعميم خاطئٌ، فالأنبياء أيضًا كان في سيرتهم الخوف، ممّا يدلّ على أنّ الله يبتلي أيضًا أحبابه أحيانًا بالخوف.
كليم الله، آتاه الله جل جلاله قوةً وعزمًا، فكان مِن أولي العزم مِن الرّسل، دخل المدينة على حين غفلةٍ مِن أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان، رجلًا مِن بني إسرائيل، ورجلًا مِن الفراعنة الظلمة، فاستعانه الّذي مِن شيعته على الّذي مِن عدوّه، فوكز موسى العدوّ الظالم وكزةً فقتله، ثمّ كانت تبعات قتل الفرعونيّ الظّالم، فهو مِن الحكّام الّذين يتمتّعون بالحصانة فلا يُقتلون، ومَن قتلهم عرّض نفسه للخطر والخوف {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} [القصص: 18].
فإذا انتصرت للمستضعفين ثمّ أصبحت في بلدتك خائفًا مِن القصف تترقّب القذائف فلا تستمع لمن سيقول لك: "هذه عقوبةٌ مِن الله"، بل السّياق يقتضي أنّ هذا سبيل النّبيّين، ينتصرون للمستضعفين وإن أدّى ذلك إلى خوفهم.
لم يقتصر خوف كليم الله على ما سبق، لقد علم الحكّام الظّلمة أنّ موسى هو الّذي قتل المصريّ فأرسلوا في طلبه {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ * فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص: 20-21].
لقد اشتدّ الخوف بكليم الله حتّى أخرجه مِن بلده، فإذا اشتدّ خوفنا اليوم مِن قذائف ظالمةٍ تتخطّفنا حتّى أخرجتنا مِن ديارنا فلنتذكّر أن مَن هو خيرٌ منّا خاف حتّى خرج خائفًا، فلنحتسب ذلك عند الله سبحانه، ولنتذكّر أنّ هذا مِن ابتلاء الله عز وجل لعباده في هذه الدّنيا الفانية، فلنقابل البلاء بالصّبر؛ ننل صلوات الله جل جلاله ورحمته ونكن مِن المهتدين.
توجّه كليم الله إلى مدين فارًا مِن ظلم الفراعنة، حتّى زال خوفه هناك، وبنى أسرته {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص: 25].
ثمّ خاف كليم الله يوم ألقى العصى فاستحالت ثعبانًا {وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} [النّمل: 10].
وقد طمأن الله سبحانه أمّ الكليم قبلًا وأزال خوفها إذ اعتراها {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 7].
خاتمةٌ:
لم يقتصر ذكر الخوف على سيرة الكليم، فمِن قبله خليل الرّحمن ذُكر في قصّته الخوف {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} [هود: 70].
{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ * فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ * فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} [الذّاريات: 24-28].
وفي سيرة ابن أخيه نبيّ الله لوطٍ ذُكر الخوف كذلك {وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} [العنكبوت: 33].
وفي سيرة داوود الملك النّبيّ كان الفزع، حيث لا يتصوّر المرء فزعًا في حياة ملكٍ نبيٍّ {إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ} [ص: 22].
وفي السّيرة العطرة لخاتم النّبييّن صلى الله عليه وسلم بيانٌ للخوف الّذي اعترى حبيب الله في مرحلةٍ مِن مراحل سيرته صلى الله عليه وسلم، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (لَقَدْ أُوذِيتُ فِي اللَّهِ وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ، وَلَقَدْ أُخِفْتُ فِي اللَّهِ وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ، وَلَقَدْ أَتَتْ عَلَيَّ ثَالِثَةٌ وَمَا لِي وَلِبِلَالٍ طَعَامٌ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ، إِلَّا مَا وَارَى إِبْطُ بِلَالٍ).
نتعزّى اليوم إذ نرى الخوف والهجرة النّاتجة عن هذا الخوف بخوف الأنبياء مِن قبلنا، لقد خرجوا في طريق الحقّ وخافوا، وأُخرجوا مِن ديارهم {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90].
ونتعزّى بأنه لا يجمع الله على عبدٍ خوفين، فخوف الدّنيا يقي الخوف يوم الفزع الأكبر.
http://shamkhotaba.org