مقدمة:
لقد جعل الله سبحانه خير بقاع الأرض مساجدها، وجعل أعظمها ثلاثة مساجدٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ أَوَّلُ؟ قَالَ: (الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ)، قَالَ قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: (الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى)، قُلْتُ: كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: (أَرْبَعُونَ سَنَةً).
وللأقصى فضائل لا تُحصى، فقد بارك الله جل جلاله حوله، قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: 1].
ففي مكّة البداية، وفي الأقصى النّهاية، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ، وَهُوَ دَابَّةٌ أَبْيَضُ طَوِيلٌ فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ، يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ، قَالَ: فَرَكِبْتُهُ حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ قَالَ: فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي يَرْبِطُ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ)، قَالَ: (ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَصَلَّيْتُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجْتُ..).
فهو أُولى القبلتين، حيث مكث النّبيّ صلى الله عليه وسلم مدّةً مِن الزّمن يصلّي إلى بيت المقدس، قبل أن تتحوّل القبلة إلى الكعبة المشرّفة، وإنّه المسجد الّذي أكرمته الرّسل وصلّت فيه، حيث إنّ دينهم واحدٌ، وشرائعهم متفرّقةٌ، ولكنّ الله سبحانه ابتلى المسلمين باستيطان اليهود في فلسطين المحتلّة، واعتدائهم على المسجد الأقصى، فلم تهنأ منطقة الشّرق الإسلاميّ بعيشٍ، ولم يَنعَم أهل فلسطين بأمنٍ، ولقد أخبرنا ربّنا عز وجل عن حقد اليهود وإجرامهم، وسعيهم بالفساد، وإشعال نار الحروب للاعتداء على الأرض المباركة، ولكنّ الله سبحانه لهم بالمرصاد، يُطفئ نار حروبهم، ويردّ كيدهم في نحورهم، قال تعالى: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} [المائدة: 64].
وهذه الآية وأمثالها تمنح المؤمنين -في أكناف بيت المقدس وخارجها- شدّةً وصلابةً في الحقّ، وتزيدهم ثباتًا عليه لا تُزعزعه المِحن، ولا تميد به الفتن، حيث علموا أنّ الخلق عبيدٌ لله، والأرض أرضه، يورثها مَن يشاء، قال تعالى: {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [الأعراف: 128].
وثمَّ المسجد الأقصى ينادي ويصرخ في جموع المسلمينا
ولكن لا ترى إلَّا نؤومًا تغافل عن نداء الصَّارخينا
1- فضائل لا تُحصى، للمسجد الأقصى
لقد خلق الله عز وجل الأرض، ثمّ فاضل بين تربتها لحِكمٍ باهرةٍ جليلةٍ، وجعل جزيرة العرب وأرض الشّام أفضل البقاع، حيث فضّل جزيرة العرب بمكّة والمدينة، وفضّل مكّة والمدينة بحرَميَها، وفضّل الشّام بفلسطين وغيرها، وفلسطين بالقدس، والقدس بمسجدها، مسرى نبيّنا محمّدٍ صلى الله عليه وسلم، عرج به إلى السّماء مِن أرضها، وصلّى بالنّبييّن في مسجدها، فهو أُولى القبلتين، وثاني المسجدين، وثالث الحرمين، وله مكانةٌ عظيمةٌ في قلوب المؤمنين سلفًا وخلفًا، ولمسجدها فضلٌ على سائر مساجد الأرض إلّا حرمي مكّة والمدينة، وهو مسجدٌ مباركٌ، وما حوله مباركٌ، وأعظم تلك البركات حلول النّبيّ صلى الله عليه وسلم فيه، ذلك الحلول الخارق للعادة، وصلاته فيه بالأنبياء كلّهم، ولقد وصف الله جل جلاله أرض الإسراء بالقدسيّة، فقال: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 21].
وجعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم مسجدها مِن المساجد الثّلاثة الّتي تشدّ الرّحال إليه للعبادة، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ؛ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ، وَمَسْجِدِ الْأَقْصَى).
وجعل الصّلاة فيه فاضلةً، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: (لَمَّا فَرَغَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ مِنْ بِنَاءِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، سَأَلَ اللَّهَ ثَلَاثًا: حُكْمًا يُصَادِفُ حُكْمَهُ، وَمُلْكًا لَا يَنْبَغِي لَأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ، وَأَلَّا يَأْتِيَ هَذَا الْمَسْجِدَ أَحَدٌ لَا يُرِيدُ إِلَّا الصَّلَاةَ فِيهِ، إِلَّا خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ)، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (أَمَّا اثْنَتَانِ فَقَدْ أُعْطِيَهُمَا، وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ قَدْ أُعْطِيَ الثَّالِثَةَ).
وأرضه أرض المحشر والمنشر، عَنْ مَيْمُونَةَ، مَوْلَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفْتِنَا فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَالَ: (أَرْضُ الْمَحْشَرِ وَالْمَنْشَرِ ائْتُوهُ فَصَلُّوا فِيهِ، فَإِنَّ صَلَاةً فِيهِ كَأَلْفِ صَلَاةٍ فِي غَيْرِهِ)، قُلْتُ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أَتَحَمَّلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: (فَتُهْدِي لَهُ زَيْتًا يُسْرَجُ فِيهِ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ كَمَنْ أَتَاهُ).
وجاء في فضله أنّ عيسى سيقتل الدّجال بباب لدٍّ، قرب المسجد الأقصى، ولقد عرف قادة المسلمين وأئمّتهم منزلة بيت المقدس في الإسلام، فصرفوا له مِن الهمّ والهمّة ما يستحقّه منذ عصر الصّحابة، بل منهم مَن وافته المنيّة بجوار الأقصى، ولقد رحل عمر رضي الله عنه مِن الشّام إلى فلسطين ليستلم مِن النّصارى مفاتيح القدس بيده، ولم يجعل هذه المهمّة لغيره، وأشهد على هذا الصّلح كبار القادة مِن الصّحابة، وقد تناقلته كتب المؤرّخين مِن العام الخامس عشر مِن الهجرة.
2- بذل الأموال والأنفس، في نُصرة بيت المقدس
لا يجمع أمّة العرب إلّا الإسلام، ولا يفرّقهم إلّا الابتعاد عنه، ولا تحلّ مشكلاتها إلّا شريعته، وإنّ قضيّة المسجد الأقصى هي القضيّة الفاضحة، الّتي فضحت عجز المسلمين في هذا العصر عن حلّها، وأبانت عن ذلّهم وهوانهم على أعدائهم، إذ ظلّوا أكثر مِن نصف قرنٍ ألعوبةً بين الدّول الكبرى، يتقاذفون قضيّتهم كما يتقاذف الصّبيان كُرَتهم، والعالم الإسلاميّ يضجّ مِن اعتداء اليهود على المسجد الأقصى منذ الاحتلال حتّى يومنا هذا، وإنّ هذا المسجد له تاريخٌ طويلٌ مِن النّزاع، حيث تقاتلت حوله جيوشٌ، وتنازعت عليه أمّة الحقّ وأمم الباطل منذ فتحه، والملاحم الكبرى في آخر الزّمان ستكون في أكناف بيت المقدس، فأتباع الأنبياء أحقُّ بالأرض المباركة مِن اليهود والنّصارى، ذلك أنّ كلّ الأنبياء أقرّوا لنبيّنا بالرّسالة {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} [آل عمران: 81].
فهل يستحقّ أهل الكفر أن يبقوا في البلاد الّتي باركها جل جلاله؟! ولأجل ذلك سعى المسلمون في السّنوات الأولى مِن الخلافة لتطهير بيت المقدس مِن رجس الصّليبيّن، وسُيّرت الجيوش للشّام حتّى تمّ فتحها، ولمّا انتزع الصّليبيّون بيت المقدس في القرن الخامس، ما هنئ المسلمون بعيشٍ، حتّى أعادوها على يد صلاح الدّين الأيّوبيّ، بعد ما يقارب تسعين سنةً مِن احتلالها، وفي القرن الماضي بلغ ضَعف المسلمين وتفرّقهم مداه، في الوقت الّذي تآزرت فيه اليهود في سبيل تحقيق هدفهم الخبيث، واستطاعوا انتزاع الأرض المقدّسة مِن أيدي المسلمين، ووقف جينرال مِن المستعمرين على قبر صلاح الدّين، وضرب الضّريح بسيفه قائلًا: "أنا مِن أحفاد الصّليبيّن، فأين أحفادك يا صلاح الدّين؟".
ثمّ أُشعلت الحروب تِلوَ الحروب على أقصانا المبارك، حتّى كانت النّكسة الّتي هُزمت فيها جيوش العرب، فدخل المسجد الأقصى تحت حكم الصّهاينة، وهتف اليهود بثارات خيبر، يرتجزون قائلين: "محمّدٌ مات، وخلّف بناتٍ".
فعلينا أن نعلم أنّ مخطّطات نسف المسجد الأقصى أكثر مِن أن تُحصر، وإن وقع ذلك -لا قدّر الله- فإنّه عارٌ فظيعٌ على المسلمين، لأنّهم عجزوا عن الدّفاع عن مقدّساتهم، فإن أراد المسلمون حِفظ دينهم ودنياهم، وصيانة مقدّساتهم وبلادهم، فعليهم أن يسعوا بكلّ الطّرق والوسائل لإفشال مخطّطات أهل الكتاب فيما يتعلّق بالأرض المباركة، فهي للمسلمين أجمعين، وليست لأهل فلسطين وحدهم، وليعلم المسلمون أنّهم إن تخلّوا عن إخوانهم اليوم، فستقف غدًا جحافل المستعمرين على أطراف بلدانهم، ولن ينفعهم عندئذٍ النّدم.
خاتمةٌ:
إنّ مِن أوجب الواجبات علينا جميعًا: تحرير الأقصى الأسير، وكلّ شبرٍ محتلٍّ مِن أرض المسلمين، وإعادته إلى مجده الإسلاميّ، لإعلاء كلمة الله فيها، ويتحمّل كلّ مسلمٍ مِن التّبعة والمسؤوليّة بحسب قدرته وموقعه، فهو جزءٌ مِن عقيدتنا، و تاريخ الأنبياء وإرثهم، وإنّه ليمثّل سلسلة تاريخ التّوحيد الّذي كان الإسلام آخر حلقاته، ولنعلم أنّ رجوع بيت المقدس إلى المسلمين أمرٌ حتميٌّ رغم كلّ الصّعوبات الّتي نراها، حيث وعدنا ربّنا بذلك، فقال تعالى: {وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا} [الإسراء: 7].
وأخبر به النّبيّ صلى الله عليه وسلم، عن عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَهُوَ فِي قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ، فَقَالَ: (اعْدُدْ سِتًّا بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ: مَوْتِي ثُمَّ فَتْحُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ...)
وهذا يوجب على المسلمين أن يكونوا يدًا واحدةً على مَن ناوأهم، مجتمعين على نصرة دِينهم ومقدّساتهم، كيف لا؟ وقد جمع الله عز وجل قلوبهم على توحيده، ووحّد صفّهم على اتّباع رسوله صلى الله عليه وسلم، ممّا يوجب على كلّ فردٍ منهم أن يكون له دورٌ في نصر الإسلام والمسلمين، وأن تكون له بصمةٌ في استعادة المسجد الأقصى، وذلك بإخلاص التّوبة، ونصرة الدّين، قال تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحجّ:40].
وهذا وعدٌ قطعه الله على ذاته العليّة، كرمًا منه وفضلًا، قال سبحانه: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51].
ويجب على المسلمين مدّ يد العون للمرابطين في الأقصى قدر المستطاع، فمَن استطاع أن يصل إليهم فليفعل، ومَن لم يستطع فبلسانه وقلبه، وذلك أضعف الإيمان، كما يجب على الآباء والأمهات، والمعلّمين والدّعاة، كلٌّ في موقعه أن يعرّفوا أبناءنا بقيمة المسجد الأقصى ومكانته، وأن يغرسوا محبّته في قلوبهم، كما يجب علينا محاربة إعلام التّزوير والتّزييف، الّذي يروّج للخطط الاستعماريّة الّتي تحسّن مِن صورة اليهود وأذنابهم، وتشوّه صورة شريعتنا الغرّاء، وتقدح في المسلمين.
http://shamkhotaba.org