قال تعالى: (لّيَشْهَدُوا مَنافعَ لَهُمْ وَيَذكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلومَاتٍ عَلى مَا رَزَقهُمْ مّن بَهِيمَةِ الأنعَامِ). (الحج22)
عبادَ الله، لقد أطلّ على أمّة الإسلام مواسمُ عظيمة، وحلّ بها أوقاتٌ فاضلة، هي للمؤمنين مغنَمٌ لاكتساب الخَيرات ورفعِ الدّرجات، وهي لهم فُرصةٌ لتحصيل الحسناتِ والحَطّ من السيِّئات.
إنّها أيّام العشرِ من ذي الحجّة، هي أعظمُ الأيّام عند الله فضلاً، وأكثرُها أجرًا، وقد أقسم الله عز وجل بهذه الليالي؛ لبيان فضلِها، ولتعظيم شأنها، فقال سبحانه: (وَالْفَجْرِ، وَلَيالٍ عَشْرٍ، وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ، والليلِ إذا يسرِ، هلْ في ذلكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْر)(الفجر)
وقد قال معظم المفسرين بأن المراد من هذه الليالي العشر هو الليالي العشر الأوائل من ذي الحجة، وأن الفجر هو فجر يوم النحر، أي: يوم عيد الأضحى.
أيام العشر أيّامٌ يفِد الحجاج فيها إلى بيتِ الله الحرام، وقد وعَدَهم الله بالخير العظيمِ والثّوابِ الجزيل، قال صلى الله عليه وسلم: (من حجَّ هذا البيتَ فلم يرفث ولم يفسُق رجع من ذنوبه كيوم ولدَته أمُّه)، وقال صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنْ مُلَبٍّ يُلَبِّي إِلا لَبَّى مَا عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ مِنْ حَجَرٍ أَوْ شَجَرٍ أَوْ مَدَرٍ حَتَّى تَنْقَطِعَ الأَرْضُ مِنْ هَاهُنَا وَهَاهُنَا)(ابن ماجة ).
وفضائل هذه الأيام عظيمة، ومنح الله فيها جسيمة، فمن فضائلها: أنها أفضل أيام الدنيا على الإطلاق، دقائِقها وساعاتها، وأيامُها وأسبوعُها، فهي أحبُّ الأيام إلى الله تعالى، والعمل الصالح فيها أحب إلى الله تعالى فيها من أي شيء، فهي موسمٌ للربح، وطريق للنجاة، وهي ميدانُ السبق إلى الخيرات، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفضل أيام الدنيا أيام العشر)(مجمع الزوائد)، هكذا بلغةٍ واضحةٍ وبيان فصيح، بل يزيدُ الأمرَ وضوحاً وتجلية فيقول صلى الله عليه وسلم: (ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام)، يعني: أيام العشر، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: (ولا الجِهادُ في سبيلِ اللهِ ، إلا رجلٌ خرجَ بنفسه ومالِهِ ، فلم يرجعْ من ذلكَ بشيء (سنن الترمذي).
وهذا يدل على أن العمل في أيام العشر أفضل من الجهاد بالنفس، وأفضل من الجهاد بالمال، وأفضل من الجهاد بهما والعودةِ بهما أو بأحدِهما، لأنه لا يفضل العمل فيها إلا من خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع لا بالنفس ولا بالمال. ثم إن التعميم والإطلاق في قوله صلى الله عليه وسلم: (العمل الصالح) يعني أن أي عمل صالح فهو مطلوب في هذه الأيام، وهذا من سعة رحمة الله وفضله، فلو كانت قربة هذه الأيام مخصوصة بتلاوة القرآن لحُرِم فضلها من لا يتقِن قراءة القرآن، ولو كانت فضيلتها مخصوصة بالصيام لحُرِم مَن لا يقدر على الصيام، ولو كانت فضيلتها مخصوصة بالجهاد والرباط لحرم منها العاجز عن ذلك، لكنها صالحة لكل قربة يتقرب بها العبد، ففضل الله واسع وثوابه مبذول لجميع خلقه، فاستبقوا الخيرات عباد الله، ولا تكونوا من العاجزين.
وسؤال الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم (ولا الجهاد في سبيل الله) فيه أعظم دلالة على فضيلة الجهاد، وهذا لأنه قد غرس في نفوسهم أنه لا شيء أفضل من الجهاد ولهذا سألوا هذا السؤال. ولذلك فإنه يستحب الإكثار من الأعمال الصالحة في هذه الأيام لا سيما الصيام، عدا يوم العيد فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد( نَهَى عن صيامِ هذَينِ اليومَينِ يومِ الفطرِ ويومِ الأضحَى) ( مسند أحمد)، ولو صام التسعة الأيام لكان ذلك مشروعاً، لأن الصيام من العمل الصالح، وقد (كانَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ يصومُ تسعَ ذي الحجَّةِ) (صحيح أبي داود -2437).
وفضائل العشر كثيرة لا ينبغي للمسلم أن يضيِّعها، بل ينبغي أن يغتنمها، ويسابق إلى الخيرات فيها، وأن يشغلها بالعمل الصالح. كذلك يُشرع الإكثار من الصدقة في العشر إذ الصدقة فيها أفضل من الصدقة في رمضان، وما أكثر حاجات الناس في العشر: من النفقةِ، والاستعدادِ للعيد، وطلبِ الأضحيةِ ونحوِها. ثم إن ما نعيشه في هذه الأيام من شدة وضيق، ومتاعب وأعباء، وفقر وأحداث جسام، ليزيد في أجر الصدقة. والإنسان لا غنى له عن أخيه؛ يشدّ عضدَه، ويقوِّي عزيمته، ويخفِّف شِدّته، ويفرِّج كربَه، طمعًا في الأجر وطلبًا للفضَل، قال تعالى: (إِنَّ الْمُصَّدّقِينَ وَالْمُصَّدّقَاتِ وَأَقْرَضُواْ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ).(الحديد18)
أيّ حافزٍ للصدقة أوقع وأعمقُ من شعورِ المعطي بأنّه يقرِض الغنيَّ الحميدَ؟ وأنّه يتعامل مع مالك الملك، وأنّ ما ينفِقه مخلَفٌ عليه مضاعَفًا، وله بعدَ ذلك كلِّه أجرٌ كريم؟! قال تعالى: (وَمَا أَنفَقْتُمْ مّن شَيْء فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)(سبأ39).
ومن خصائِص هذه العشر –أيها الإخوة-فضيلةُ الإكثار من التهليل والتكبيرِ والتحميد فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما مِن أيّام أعظمُ عند الله ولا أحبّ إلى الله العملُ فيهنّ من أيّام العشر، فأكثِروا فيهنّ من التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير)، والإنسان مطالب بأن يكون ذاكرا لله في كل حياته، لكنه في هذه الأيام يضاعف جهده ويكثر من ذكر الله، وعلى الخصوص التهليل والتكبير والتحميد. قال البخاريّ في صحيحه: "كان ابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهما يخرجان إلى السّوق في أيّام العشر يكبِّران، ويكبِّر الناس بتكبيرهما" والصيغة المفضلة أن يقول العبد: الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد. والتكبير أيام العشر من السنن المهجورة التي تحتاج إلى من يحييها.
ومن رحمة الله سبحانه وسعة فضله أنه بعد أن خصَّ هذه الأيام بهذه المزايا العظيمة، وهذه الفضائل الكريمة، عاد فخص من ضمن هذه الأيام يوما عظيما، فزاد في مضاعفة الأجر فيه، وزاده شرفا ومكانة وبركة، هذا اليوم هو يوم عرفة. وفضائل يوم عرفة كثيرة، فهو يوم عظيم، فيه كمل الدين، وفيه يعتق الله ما شاء من عباده من النار، وفيه يدنو الله جل جلاله يباهي بعباده الملائكة، وصيامه يكفر سنتين، سنة قبله وأخرى مثلها بعده، بذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده). فصوموا ذلك اليوم عباد الله، فإن صيام يوم تطوعاً، قد يكون سبباً لنجاة صاحبه من النار ولمغفرة العزيز الغفار قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من صام يوماً في سبيل الله باعد الله بذلك اليوم النار عن وجهه سبعين خريفاً). فاغتنِموا -رحمكم الله- هذه الأيامَ بالاجتهاد في العبادةِ بشتّى أنواعها، والأعمال الصالحة بمختلف صوَرِها، فنبيُّنا صلى الله عليه وسلم يروي عن ربِّه عزّ وجلّ قولَه: (يا عبادي، إنّما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفِّيكم إيّاها، فمن وجد خيرًا فليحمَد الله، ومن وجد غيرَ ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه).
وختاما يا عبادَ الله، فإن مِن أعظمِ القُرُبات التي يتقرَّب بها المسلمون إلى ربِّهم في خِتام هذه الأيام: الأضاحي، ومَن أراد أن يضحّيَ عن نفسه أو أهلِ بيته ودخل شهرُ ذي الحِجّة فإنّه يسن له أن لا يأخذَ مِن شعره وأظفاره شيئا حتّى يذبحَ أضحيتَه، لِما روته أمّ المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: (إذا رأيتُم هلالَ ذي الحجة وأرادَ أحدكم أن يضحّيَ فلا يأخذ من شعرِه وأظفاره شيئًا حتى يضحّي). أقول هذا القول وأستغفر الله