مقدمة:
إنّنا اليوم مهما جدّ فينا المؤمن واجتهد، فلا بُدّ أن يلمّ بذنبٍ صغيرٍ أو كبيرٍ، فالمعاصي تحيط بنا، والمغريات تتجاذبنا، وعوامل الشّرّ ودواعيه عنّا يمنةً ويسرةً، إن سلمت منها الأعين وقعت الآذان، وإن نجت الأذن أو العين وقعت اليد أو وقع اللّسان، ولا ملاذ لنا نلوذ به، ولا حصن نلتجأ إليه، ونعتمد عليه في تطهيرنا ممّا قد نقع فيه مِن الذّنوب والآثام إلّا التّوبة النّصوح، والاستغفار الصّادق، والإنابة الخالصة بين يدي علّام الغيوب وغفّار الذّنوب؛ القائل في كتابه: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82].
فها هو يعرض جوده وكرمه على عباده التّائبين، و يخبرهم بأنّه يغفر الذّنوب جميعًا لِمَن استغفر منها وتاب، ورجع إلى ربّه وأناب، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه: "أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ، كَانُوا قَدْ قَتَلُوا وَأَكْثَرُوا، وَزَنَوْا وَأَكْثَرُوا، فَأَتَوْا مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: إِنَّ الَّذِي تَقُولُ وَتَدْعُو إِلَيْهِ لَحَسَنٌ، لَوْ تُخْبِرُنَا أَنَّ لِمَا عَمِلْنَا كَفَّارَةً، فَنَزَلَ: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} وَنَزَلَ: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ}".
وفي أيّامنا العصيبة الّتي نعيشها كثرت الهموم والغموم، وتفشّت الأمراض النّفسيّة والعصبيّة، بسبب شدّة الكرب والبلاء، وضيق الحال وتسلّط الأعداء، وانتشار الوباء والغلاء، وإنّ في ملازمة الاستغفار تفريجًا للهموم، ومخارج مِن الضّوائق، واستجلابًا للأرزاق، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ لَزِمَ الِاسْتِغْفَارَ جَعَلَ اللهُ لَهُ مِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا، وَمِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا، وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ).
وإنّ الاستغفار سنّة المرسلين، ودأب الصّالحين، وديدن المقاتلين الصّابرين، في استجلاب النّصر على الأعداء، قال تعالى: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 147].
1- رفع العذاب بالإنابة للوهَّاب
جعل الله النّاس معرّضين للوقوع في الخطـأ، وجعل خيرهم مَن يكثر مِن التّوبة والاستغفار، آناء اللّيل وأطراف النّهار، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ).
فعندما تعظم الأزمات، وتستحكم المشكلات، وتشتدّ المحن، وتتتابع الكروب، وتتراكم الأحزان والهموم، فإنّ النّاس يخوضون في أسبابها وعلاجها، ويودّون حسمها ونهايتها، والمسلمون في هذا العصر قد نزلت بهم أزماتٌ شديدةٌ، وابتُلوا بمصائب كبيرةٍ، ومشكلاتٍ معقّدةٍ، أذهبت هيبتهم، وفرّقت جمعهم، وأشغلتهم في أنفسهم، وقد ضُيِّقت عليهم أرزاقهم في كثيرٍ مِن الدّيار، وربّما مُنعوا القطر مِن السّماء، وإنّ معرفة أدوائهم، وعلاج مشكلاتهم لن يجدوه إلّا في كتاب ربّهم عز وجل، الّذي جعله تبيانًا لكلّ شيءٍ، قال قتادة: "إنّ القرآن يدلّكم على دائكم ودوانكم، أمّا داؤكم فذنوبكم، وأمّا دواؤكم فالاستغفار".
فقد تبيّن لنا أنّ ذنوب العباد هي سبب المشكلات والأزمات، وأنّ استغفارهم وتوبتهم مؤذنٌ برفع العذاب، وحصول الأرزاق، قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33].
وقال سبحانه: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} ]هود: 52[
ولقد روي أنّ رجلًا شكا للحسن البصريّ: الجدب، فقال: استغفر الله، وشكا إليه آخر الفقر، فقال: استغفر الله، وشكا إليه آخر جفاف بستانه، فقال: استغفر الله، وشكا إليه آخر عدم الولد، فقال استغفر الله.
وهذا كلّه مُستوحىً مِن قوله تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح: 10-12].
وإنّ الأمّة اليوم بأمسّ الحاجة إلى بسط الأرزاق، وإلى القوّة الّتي تردّ بها بأس أعدائها، ولا سبيل إلى ذلك إلّا بالتّوبة والاستغفار، قال سبحانه: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [هود: 3].
ولقد كان الحسن البصريّ: يقول: "أكثروا مِن الاستغفار في بيوتكم، وعلى موائدكم، وفي طرقاتكم، وفي أسواقكم، وفي مجالسكم، وأينما كنتم، فإنّكم لا تدرون متى تنزل المغفرة".
2- الاستغفار دأب الأنبياء والأبرار
إنّ مِن رحمة الله جل جلاله بعباده، وجوده على خلقه، أن فتح أبواب التّوبة للمذنبين، وشرع الاستغفار للمؤمنين، فإذا عصى العبد ربّه عز وجل ثمّ تاب؛ تاب الله عليه، وإذا استغفر لذنوبه؛ غفر الله له، عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا رَوَى عَنِ اللهِ تبارك وتعالى أَنَّهُ قَالَ: (يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ).
ولقد كان الاستغفار دأب الأنبياء والصّالحين، وهو سلاح المذنبين ضدّ الشّياطين، وكما أنّ إبليس أهلكه علوّه واستكباره، فإنّ آدم أنجاه توبته واستغفاره، ولقد كان الاستغفار أوّل طاعةٍ عملها إنسانٌ بعد أوّل خطأٍ، وبقيت تلك الطّاعة مِنّةً مِن الله عز وجل لبني آدم إلى يوم القيامة، قال تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 37].
وإنّها لَكلمات الاعتراف بالخطأ، وطلب المغفرة والرّحمة مِن الله، قال سبحانه: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23].
ولقد كانت الرّسل والأنبياء مقتفين أثر أبيهم آدم عليه السلام في ملازمة الاستغفار، فهذا نوحٌ عليه السلام يسأل ربّه المغفرة والرّحمة فيقول: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نوح: 28].
وفعلها بعده إبراهيم عليه السلام قائلًا: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشّعراء: 82].
وهذا موسى عليه السلام يعترف بظلمه نفسه، ويطلب مغفره ربّه جل جلاله: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [القصص: 16].
وابتلى الله داود عليه السلام بخصمين ليحكم بينهما، فلمّا علم داود أنّه قد فُتِن بذلك بادر بالاستغفار، قال تعالى: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص: 24].
ويأمر الله سبحانه نبيّه محمّدًا صلى الله عليه وسلم بالاستغفار، فيمتثل أمر ربّه عز وجل، ويلازم ما أمره به ربّه، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: مَا صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَلَاةً بَعْدَ أَنْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ} إِلَّا يَقُولُ فِيهَا: (سُبْحَانَكَ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي).
وإنّ السّعيد حقًّا مَن اقتفى أثر الأنبياء، وسار على خُطى الأبرار الأصفياء، في ملازمة التّوبة والاستغفار، والإنابة لربّ الأرض والسّماء، لتندحر الأعداء، وتشرق في القلب أنوار الاستغفار، بلزوم المراقبة للواحد القهّار، فتزول الأخطار، وتتنزّل بسببها الأمطار.
خاتمةٌ:
قال ابن عبّاس رضي الله عنه: "إنّ الله سبحانه جعل في هذه الأمّة أمانَين، لا يزالون معصومين مُجَارين مِن طوارق العذاب، ما داما بين أظهرهم، فأمانٌ قبضه الله جل جلاله إليه، وأمانٌ بقي فيكم".
وإنّها لنعمةٌ، وأيّ نعمةٍ؟! أن يلزم العبد الاستغفار لمحو ذنوبه، وتكفير سيّئاته، وتأمين نفسه مِن العذاب، وإذا استزلّه الشّيطان فضَعُف عن الطّاعة، أو وقع في المعصية، بادر بالتّوبة، وأكثر مِن الاستغفار، حتّى يمحو أثر الذّنوب، ويحصل له رضى المحبوب، وهذا ما يغيظ الشّيطان ويدحره، وما ظفر إبليس بشيءٍ أشدّ مِن ظَفَره بعبدٍ أذنب ذنبًا فأيس مِن رحمة الله سبحانه ومغفرته، فترك الطّاعات، وركب المحرّمات، حتّى وقع في الكفر، وأعظم سلاحٍ يتسلّح به المسلم للنّجاة مِن ذلك، وصيانة نفسه، ودحر عدوّه الشّيطان الرّجيم، هو ملازمته الاستغفار، وتكراره التّوبة، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (إِنَّ إِبْلِيسَ قَالَ لِرَبِّهِ: بِعِزَّتِكَ وَجَلَالِكَ لَا أَبْرَحُ أُغْوِي بَنِي آدَمَ مَا دَامَتِ الْأَرْوَاحُ فِيهِمْ، فَقَالَ لَهُ اللهُ: فَبِعِزَّتِي وَجَلَالِي لَا أَبْرَحُ أَغْفِرُ لَهُمْ مَا اسْتَغْفَرُونِي).
فلنقبل على ربّنا إذ ينادينا، عَنْ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ، وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً).
فإذا أردنا السّعة في الرّزق، والتّخلّص مِن الخطايا والأوزار، والنّصر على الأعداء والفجّار، فلنلازم الاستغفار، لا سيّما في الأسحار، وإذا أثقلتنا المعاصي والذّنوب، وأحاطت بنا الكروب، فلنضرع إلى علّام الغيوب، ولنسأله بخشوعٍ وخضوعٍ، {رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} [آل عمران: 193].
http://shamkhotaba.org