مقدمة:
لقد شرع الإسلام طُرُقًا للكسب، وبيّن سُبُله المباحة، وعلّمنا أنّ المال وسيلةٌ لا غايةٌ، وأنّه ليس خيرًا لذاته، بل خيره في الاستغناء به عن النّاس، وإنفاقه على العيال، ومساعدة البائس المحتاج، وسائر أبواب الخير، وأنّه ليس شرًّا لذاته، بل شرّه في الشّحّ به والبخل، وبالطّغيان به والغرور، وتحصيله مِن طُرُق الحرام والباطل والزّور، وأنّ المال قد يفتح لصاحبه أبواب النّعيم، وقد يفتح له أبواب الجحيم، قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 5-10].
ولقد نادى الإسلام بأنّ الدّرهم الحلال: هو ما أخذه المسلم أجرًا لعملٍ مباحٍ، أو رَبحه في تجارةٍ بحقٍّ، أو ورثه بطريقٍ مشروعٍ، ونحو ذلك، قال سبحانه: {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا} [المائدة: 88].
وأنّ الدّرهم الحرام: هو ما أخذه المسلم بغير حقٍّ، وحصل عليه مِن عملٍ قبيحٍ، أو فعلٍ محرّمٍ، أو مهنةٍ محظورةٍ، أو ما اغتصبه مِن صاحبه، أو وصله بدون استحقاقٍ: مِن ربًا وميسرٍ، ورشوةٍ واحتكارٍ، أو غشِّ وخديعةٍ، إلى آخر أوجه الحرام ووسائل الكسب الخبيث والمشبوه، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنه قَالَ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ، أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ).
ولذا كان طلب الحلال فريضةً على كلّ مسلمٍ ومسلمةٍ، فهو الّذي يرضي ربّنا ويبارك فيه، واجتناب الحرام أمرٌ لازمٌ ومحتّمٌ، فلا خير فيه، ولا نفع منه، بل هو منزوع البركة، عديم الفائدة، ضرره على الفرد والمجتمع، الكثير منه لا يغني، والقليل منه لا يُذكر، طعامه مسمومٌ، وشرابه مذمومٌ، وتجارته خاسرةٌ، وبضاعته بائرةٌ، والحساب عليه عسيرٌ، والسّؤال عنه غير يسيرٍ، وقد يكون سبب الشّقاء في الدّنيا، والعذاب في الآخرة، والعاقل مَن اجتنب الحرام، لينال رضى المَلِك العلّام.
1- خطر الكَسب الخبيث
لقد أمر الله عباده بالحلال الطّيّب، ونهاهم عن الحرام الخبيث، وحذّرهم مِن الشّيطان، الّذي يسعى جهده لِجَرّهم إلى المكاسب الخبيثة، ويزيّن لهم المتشابه ليجاوز بهم إلى الحرام، فينقلهم إليه خطوةً خطوةً، حتّى إذا أغرقهم في الحرام، لم يستطيعوا النّجاة منه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة: 168].
إنّها خطواتٌ ينقل بها الشّيطان مَن اتّبعه مِن البشر إلى الحرام الخالص، بعد أن يقذف في قلوبهم أنواعًا مِن الوساوس، كحالهم لو افتقروا، وأحوال أهلهم وأولادهم مِن بعدهم، فإذا أغرقهم الشّيطان لن تنجيهم أموالهم الخبيثة مِن عذاب الله شيئًا، بل ستكون شؤمًا عليهم في الدّنيا والآخرة {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقّة: 28-29].
فمَن تخوّض في الحرام، فقد عرّض نفسه وأهله وولده للنّار، عن خولة الأنصاريّة رضي الله عنها قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: (إِنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللهِ بِغَيرِ حَقٍّ، فَلَهُمُ النَّارُ يَومَ القِيَامَةِ).
فمن غُذّي جسمه بالحرام، كان وقودًا لنارٍ تلظّى، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (يَا كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ، إِنَّهُ لَا يَرْبُو لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ إِلَّا كَانَتِ النَّارُ أَوْلَى بِهِ).
ومِن شؤم المال الحرام: أنّه يمنع إجابة الدّعاء حتّى في سفر الطّاعات الطّويل، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ سبحانه: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51]، وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ، أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ).
بل إن تصدّق منه لن يُقبل منه، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (وَلَا يَكْسِبُ عَبْدٌ مَالًا مِنْ حَرَامٍ، فَيُنْفِقَ مِنْهُ فَيُبَارَكَ لَهُ فِيهِ، وَلَا يَتَصَدَّقُ بِهِ فَيُقْبَلَ مِنْهُ، وَلَا يَتْرُكُ خَلْفَ ظَهْرِهِ إِلَّا كَانَ زَادَهُ إِلَى النَّارِ، إِنَّ اللهَ لَا يَمْحُو السَّيِّئَ بِالسَّيِّئِ، وَلَكِنْ يَمْحُو السَّيِّئَ بِالْحَسَنِ، إِنَّ الْخَبِيثَ لَا يَمْحُو الْخَبِيثَ).
وإنّ خطره يكون على صاحبه وعلى الأمّة معًا، فبسببه تفشو مساوئ الأخلاق، مِن سرقةٍ وغصبٍ، ورشوةٍ وربًا، وغشٍّ واحتكارٍ، وشيوع الفواحش ما ظهر منها وما بطن، فأيّ ضررٍ أعظم مِن هذا؟!
2- الولاية أمانةٌ
كلّما اقترب النّاس مِن يوم القيامة، فسدت الأخلاق، وضُيّعت الأمانات، ولا يأتي على النّاس زمانٌ، إلا والّذي بعده شرٌّ منه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِذَا ضُيِّعَتِ الْأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ).
والشّريعة الرّبانيّة قد سدّت كلّ الطّرق المفضية إلى الخيانة، كما حرّمت الهديّة لذوي الولايات والوظائف، إذا بُذلت لهم لأجل وظائفهم ومناصبهم، وكانت رِشوةً، والرّشوة ملعونٌ دافعها وآخذها، والسّاعي بينهما، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لَعَنَ رَسُولُ اللهِ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِي).
فما أبعد ما بين الهديّة المأمور بها والرّشوة الممنوع منها! والهديّة تُسمّى رشوةً في المواضع الّتي تكون سببًا لفساد الذّمم، وضياع الأمانة، وإهدار الحقوق، وإنّ أصحاب الولايات -كالأمراء والوزراء، والمحافظين والقضاة، والموظّفين جميعًا- إنّما نُصّبوا لخدمة النّاس، وإدارة شؤونهم، وإقامة العدل، فلا بدّ أن يراقبوا الله في وظائفهم، فإذا ما غيّروا وبدلّوا، جرّوا المجتمع إلى فسادٍ عريضٍ، وإنّ مِن الكبائر الّتي تَهاون فيها كثيرٌ مِن الموظّفين اليوم: غلول العمّال، وهو أن يأخذ الإنسان مِن الأموال العامّة ما ليس له، فمَن غلّ شيئًا لا حقّ له فيه، جاء يحمله على ظهره يوم القيامة، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ، فَذَكَرَ الْغُلُولَ فَعَظَّمَهُ وَعَظَّمَ أَمْرَهُ، ثُمَّ قَالَ: (لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ، يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ).
ومع عِظَم قدر الجهاد في الشّريعة، وأنّه أفضل الأعمال، إلّا أنّ مَن غلّ شيئًا مِن المغانم، فهو مُتَوَعّدٌ بالعذاب في قبره، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنه، وَكَانَ عَلَى رَحْلِ -وَقَالَ: مَرَّةً عَلَى ثَقَلِ- النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: كِرْكِرَةُ، فَمَاتَ، فَقَالَ: (هُوَ فِي النَّارِ)، فَنَظَرُوا فَإِذَا عَلَيْهِ عَبَاءَةٌ قَدْ غَلَّهَا.
وإنّ القضيّة ليست في شملةٍ ونحوها، ممّا يُحتَقر في العادة، ولكنّها قضية دِينٍ، يدين النّاس به لربّهم، وأمانةٍ يؤدّونها، فمَن فُتن بقليل المال، ففتنته بكثيره أولى، ولقد امتنع النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن الصّلاة على صاحب الغلول، عَنْ زَيْدٍ بْنَ خَالِدٍ الْجُهَنِيَّ رضي الله عنه، أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ تُوُفِّيَ بِخَيْبَرَ، وَأَنَّهُ ذُكِرَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: (صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ) قَالَ: فَتَغَيَّرَتْ وُجُوهُ الْقَوْمِ لِذَلِكَ، فَلَمَّا رَأَى الَّذِي بِهِمْ، قَالَ: (إِنَّ صَاحِبَكُمْ غَلَّ فِي سَبِيلِ اللهِ)، فَفَتَّشْنَا مَتَاعَهُ، فَوَجَدْنَا فِيهِ خَرَزًا مِنْ خَرَزِ الْيَهُودِ مَا يُسَاوِي دِرْهَمَيْنِ.
وإنّ مِن الغُبن العظيم أن يجمع المرء مالًا عظيمًا مِن طُرقٍ محرّمة، ثمّ يُخلّفها لوارثه، وحسابها على ظهره، فخسارةٌ لِمَن باع آخرته بدنياه، وخسارةٌ أكبر لِمَن باع آخرته بدنيا غيره، وما أكثر هؤلاء في النّاس -اليوم- وهم لا يشعرون!
خاتمةٌ:
إذا استهوى المالُ الحرامُ الإنسانَ، وغرّته زهرتُه، وأُعجب بنضرته، كما ورد عَنْ حَكِيمِ بْنَ حِزَامٍ، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ: (يَا حَكِيمُ، إِنَّ هَذَا الْمَالَ حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَكَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى).
وكانت مجالاته تحت يده، بولايةٍ، أو شراكةٍ، أو وصايةٍ وغيرها، فليعلمْ أنّه كسبٌ خبيثٌ، وأنّ بركته ممحوقةٌ، وأنّ عاقبته إلى القلّة والزّوال، وأنّ السّلامة لنفسه ولأهله وولده، دنيا وأخرى، إنّما هي في مجانبته والابتعاد عنه، فعليه أن يراقب الله جل جلاله قبل أن يراقب الجهات الرّقابيّة، فإنّ ذلك مِن أقوى ما يردعه عن الكسب الحرام، فإن وفقه الله سبحانه إلى كبح جماح نفسه عن الخطوة الأولى في الكسب الخبيث، نُجِّي بإذن الله ممّا بعدها، وإن خَطَاها أسرع إلى غيرها، وإن رأى غيره أصبحوا أثرياء بالغلول والرّشوة، والرّبا ووسائل الكسب المحرّمة، وهو لا يزال مستور الحال أو فقيرًا، فليعلمْ أنّ الغنى غنى النّفس، وأنّ الفقر فقر القلب، وليوقنْ أنّ الخير العظيم في تركه للخبيث ابتغاء مرضاة الله جل جلاله، مهما كانت المغريات، وحريٌّ بأن يعوّضه الله عز وجل خيرًا ممّا تَرك لأجله، فلنطيّبْ مكاسبنا يرضَ ربّنا، وتُقبلْ صدقاتنا، وتُستجبْ دعواتنا، وتَسعدْ مجتمعاتنا، وتَستقم لنا أمور دنيانا وأخرانا.
http://shamkhotaba.org