مقدمة:
خرج السّوريّون لمجابهة الظّلم والطّغيان في سوريا، وتحدّوا بخروجهم هذا قوًى عظمى دوليّةً، وقوًى إقليميّةً، ومليشياتٍ محلّيّةً، وبذلوا في خروجهم تضحياتٍ جسيمةً، فمنهم مَن جاد بنفسه {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23].
ومنهم مَن قدّم ولده، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (مَا يَزَالُ البَلاَءُ بِالمُؤْمِنِ وَالمُؤْمِنَةِ فِي نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَمَالِهِ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ).
ومنهم مَن ابتلي في ماله، ومنهم مَن أصابه الخوف مِن قذائف النّظام المجرم وطائرات حلفائه، وهذا كلّه له أجره عند الله عز وجل {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 155].
وقد ابتُلوا فأظهروا صبرًا وجهادًا {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمّد: 31].
ومِن تلك الابتلاءات الكبيرة هناك ابتلاءٌ يمكن أن يعدّ الأشدّ، إذ يفضّل الكثيرون الموت عليه، فهو أقسى مِن الموت، هو أن يتمنّى المرء الموت فلا يجده، وذلك أن يقع المرء أسيرًا في يد تلك الطّغمة المجرمة، فيرى أهوالًا وألوانًا مِن العذاب، يتألّم الإنسان مِن مجرّد تصوّرها والحديث عنها، فما بالك بأن يعاينها ويعيشها! عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ).
يا ابن الكرام ألا تدنو فتبصرَ ما قد حدّثوك فما راءٍ كمَن سمعا
1- درب الجهاد والتَّضحية
جاهد أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وأصابهم ما أصاب المتأخّرين، وقد وقع بعضهم أسرى في يد الكفّار، وصبروا حتّى لقوا ربّهم، وهذا خبيبٌ رضي الله عنه قد وقع أسيرًا؛ فصلّى ركعتين أتمّهما مِن غير أن يطوّل فيهما -وكان أوّل مَن سنّ الرّكعتين عند القتل- ثمّ قال: اللَّهمّ أحصهم عددًا، واقتلهم بددًا، ولا تغادر منهم أحدًا، ثمّ أوثقوه رباطًا وقالوا: ارجع عن الإسلام ونخلّي سبيلك، فقال: لا إله إلا اللَّه! واللَّه ما أحبّ أنّي رجعت عن الإسلام وأنّ لي ما في الأرض جميعًا! قالوا: أفتحبّ أنّ محمّدًا في مكانك وأنت جالسٌ في بيتك؟ فقال: واللَّه ما أحبّ أن يشاك محمّدٌ شوكةً وأنا جالسٌ في بيتي، فجعلوا يقولون: يا خبيب ارجع! قال: لا أرجع أبدًا، قالوا: أما واللات والعزّى لئن لم تفعل لنقتلنّك! قال: إنّ قتلي في اللَّه لقليلٌ، فجعلوا وجهه مِن حيث جاء، فقال: ما صرفكم وجهي عن القبلة؟ ثم قال: اللَّهمّ ليس هاهنا أحد يبلّغ رسولك عنّي السّلام فبلّغه أنت عنّي السّلام، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو جالسٌ مع أصحابه: (وعليه السّلام ورحمة اللَّه)، ثمّ قال: (هذا جبريل يقرئني مِن خبيبٍ السّلام)، ثمّ أحضروا أبناء مَن قُتل ببدرٍ -وهم أربعون غلامًا- فأعطوا كلّ غلامٍ رمحًا فطعنوه برماحهم، فاضطرب على الخشبة، وقد رفعوه إليها، وانفلت فصار وجهه إلى الكعبة، فقال: الحمد للَّه، فطعنه أبو سروعة -واسمه عقبة بن الحارث- حتّى أخرجها مِن ظهره، فمكث ساعةً يوحّد ويشهد أنّ محمّدًا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ثمّ مات رضي الله عنه.
فإذا حلّ اليوم بأسرانا ما حلّ فذلك في سبيل الله عز وجل.
وقد وقع أسرى آخرون في يد الكفّار زمن النّبيّ صلى الله عليه وسلم فدعا لهم، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو فِي القُنُوتِ (اللَّهُمَّ أَنْجِ سَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ، اللَّهُمَّ أَنْجِ الوَلِيدَ بْنَ الوَلِيدِ، اللَّهُمَّ أَنْجِ عَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، اللَّهُمَّ أَنْجِ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ، اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، اللَّهُمَّ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ).
فنتعلّم مِن هذا أنّ الدّعاء للأسرى مطلوبٌ شرعًا، وأنّه صورةٌ مِن صور الانتصار لهم، وفيه تذكيرٌ لنا بقضيّتهم؛ فلا تأكلها الأيّام، ولا تُنسى مع مرور الأعوام، بل إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم -بنفسه- كان عرضةً للأسر يومًا؛ إذ إِنَّ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَمَكْرَهُمْ عَلَى أَنْ يَأْخُذُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: فَإِمَّا أَنْ يَقْتُلُوهُ، وَإِمَّا أَنْ يَحْبِسُوهُ، وَإِمَّا أَنْ يُخْرِجُوهُ، وَإِمَّا أَنْ يُوثِقُوهُ، فَأَخْبَرَهُ اللهُ سبحانه بِمَكْرِهِمْ، {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}.
2- الواجب المنسيُّ
أوجب الله جل جلاله علينا ألا نُسلم إخواننا لمَن يظلمهم، عَنْ عبد الله بن عمر رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: (الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ، مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً، فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).
وَلَا يُسْلِمُهُ أَيْ: لَا يَتْرُكُهُ مَعَ مَنْ يُؤْذِيهِ وَلَا فِيمَا يُؤْذِيهِ، بَلْ يَنْصُرُهُ وَيَدْفَعُ عَنْهُ.
وحثّنا الله عز وجل على اقتحام العقبة {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَة} [البلد: 11-13].
أي خَلَاصُهَا مِنَ الْأَسْر.
كما حثّنا على إطعام الأسرى {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الإنسان: 8-9].
يعني أسراء الكفار، فإنه صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بالأسير فيدفعه إلى بعض المسلمين، فيقول: (أحسن إليه)، أو الأسير المؤمن.
وأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بفكّ الأسرى، عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (فُكُّوا العَانِيَ، وَأَجِيبُوا الدَّاعِيَ، وَعُودُوا المَرِيضَ).
وعَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قُلْتُ لِعَلِيٍّ رضي الله عنه: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ مِنَ الوَحْيِ إِلَّا مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ قَالَ: "لاَ وَالَّذِي فَلَقَ الحَبَّةَ، وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، مَا أَعْلَمُهُ إِلَّا فَهْمًا يُعْطِيهِ اللَّهُ رَجُلًا فِي القُرْآنِ، وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ"، قُلْتُ: وَمَا فِي الصَّحِيفَةِ؟ قَالَ: "العَقْلُ، وَفَكَاكُ الأَسِيرِ، وَأَنْ لاَ يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ".
وعنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: "لَأَنْ أَسْتَنْقِذَ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَيْدِي الْكُفَّارِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ".
والسّعي في فكاك الأسرى أمر الله عز وجل للسّابقين واللاحقين {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 85].
قال السّديّ: "أخذ الله عليهم أربعة عهودٍ: ترك القتل، وترك الإخراج، وترك المظاهرة، وفداء الأسير، فأعرضوا عن كلّ ما أُمروا به".
خاتمةٌ:
نصّ العديد مِن علماء المسلمين على وجوب السّعي في فكاك الأسرى ما أمكن، قال ابن حجرٍ: "وَلَوْ كَانَ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ أُسَارَى وَعِنْدَ الْمُشْرِكِينَ أُسَارَى وَاتَّفَقُوا على المفاداة تعيّنت".
وقال ابن العربيّ: "إلَّا أَنْ يَكُونُوا أُسَرَاءَ مُسْتَضْعَفِينَ؛ فَإِنَّ الْوِلَايَةَ مَعَهُمْ قَائِمَةٌ، وَالنُّصْرَةَ لَهُمْ وَاجِبَةٌ بِالْبَدَنِ بِأَلَّا يَبْقَى مِنَّا عَيْنٌ تَطْرِفُ حَتَّى نَخْرُجَ إلَى اسْتِنْقَاذِهِمْ إنْ كَانَ عَدَدُنَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ، أَوْ نَبْذُلَ جَمِيعَ أَمْوَالِنَا فِي اسْتِخْرَاجِهِمْ، حَتَّى لَا يَبْقَى لِأَحَدٍ دِرْهَمٌ كَذَلِكَ".
وقال النّوويّ: "لَوْ أَسَرُوا مُسْلِمًا، أَوْ مُسْلِمَيْنِ، فَهَلْ هُوَ كَدُخُولِ دَارِ الْإِسْلَامِ؟ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: لَا؛ لِأَنَّ إِزْعَاجَ الْجُنُودِ لِوَاحِدٍ بَعِيدٌ، وَأَصَحُّهُمَا: نَعَمْ؛ لِأَنَّ حُرْمَتَهُ أَعْظَمُ مِنْ حُرْمَةِ الدَّارِ".
فالواجب -والحال هذه- أن نبذل ما في وسعنا لنستنقذ أسرانا وأسيراتنا مِن يد النّظام المجرم، فإن كان في يدنا مِن أسراهم فلنسعَ في المبادلة، ومِن الواجب علينا ألّا نقصّر في الدّعاء لهم، وأن نصبّر ذويهم، ونتفقّد أحوالهم؛ فننفق على معسرهم، كما على الفصائل ألّا تفوّت أيّ سانحةٍ يمكن بها أسر ضبّاط النّظام المجرم لتتمّ المبادلة لاحقًا، فهذه الفصائل الفلسطينيّة أسرت مِن اليهود ما يمكّنها مِن المبادلة، وعلى عامّة النّاس أن يستعدّوا لما يترتّب على تلك العمليّات مِن قصفٍ وعدم استقرارٍ ومحاولات اقتحامٍ، فكلّ ذلك يهون في سبيل استنقاذ أسرانا.
http://shamkhotaba.org