التَّضحية في زَمن الغُربة
الكاتب : رابطة خطباء الشام
الأربعاء 28 فبراير 2024 م
عدد الزيارات : 720
مقدمة:
ما تزال أمّة النّبيّ صلى الله عليه وسلم بخيرٍ، وما يزال فيها الخير، وهذا المعنى فيه نصوصٌ مِن الوحي، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: (إِذَا قَالَ الرَّجُلُ: هَلَكَ النَّاسُ فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ). صحيح مسلمٍ: 2623
فلا نقول هلكت الأمّة، بل نقول فيها الخير، وعن مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَلَا تَزَالُ عِصَابَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ عَلَى مَنْ نَاوَأَهُمْ، إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ). صحيح مسلمٍ: 1037
فالأمّة وإن كان فيها الخير لكنّه قد يكون قليلًا في عصابةٍ مِن غرباء الأمّة، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ). صحيح مسلمٍ: 145
"غريبًا"، أي: لقلّة أهله، وأصل الغريب: البعيد عن الوطن، "كما بدأ"، أي: غريبًا بقِلّةِ من يقوم به، ويُعين عليه، وإن كان أهله كثيرًا، "للغرباء": القائمين بأمره، و "طُوبى" فعلٌ مِن الطّيب، ويمكن تفسيره بالجنّة وبشجرةٍ عظيمةٍ فيها، وفي الحديث تنبيهٌ على أنّ نُصرةَ الإسلام، والقيام بأمره؛ تجعل المرء محتاجًا إلى الخروج عن الأوطانِ، والصّبرِ على مَشَاقّ الغُربة، كما كان في أوّل الأمر، وفي رواياتٍ أخرى تفسيرٌ للغرباء، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَنِ الْغُرَبَاءُ؟ قَالَ صلى الله عليه وسلم: (الَّذِينَ يُصْلِحُونَ إِذَا فَسَدَ النَّاسُ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيَنْحَازَنَّ الْإِيمَانُ إِلَى الْمَدِينَةِ كَمَا يَحُوزُ السَّيْلُ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيَأْرِزَنَّ الْإِسْلَامُ إِلَى مَا بَيْنَ الْمَسْجِدَيْنِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إِلَى جُحْرِهَا). مسند أحمد: 16690
وقِيلَ: مَنِ الْغُرَبَاءُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ صلى الله عليه وسلم: (نَاسٌ صَالِحُونَ فِي نَاسِ سَوْءٍ كَثِيرٍ، مَنْ يَعْصِيهِمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ يُطِيعُهُمْ). مسند أحمد: 7072
1- التَّضحيات المطلوبة
تنبّأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأيّامٍ صعبةٍ تمرّ على الأمّة، ودعانا فيها إلى الصّبر، عن أَبي أُمَيَّةَ الشَّعْبَانِيّ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيَّ رضي الله عنه، فَقُلْتُ: يَا أَبَا ثَعْلَبَةَ، كَيْفَ تَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ}؟ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْهَا خَبِيرًا، سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: (بَلِ ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنَاهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا، وَهَوًى مُتَّبَعًا، وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً، وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ، فَعَلَيْكَ -يَعْنِي- بِنَفْسِكَ، وَدَعْ عَنْكَ الْعَوَامَّ، فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ، الصَّبْرُ فِيهِ مِثْلُ قَبْضٍ عَلَى الْجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِمْ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِهِ). سنن أبي داود: 4341
وقد طلب الله مِن عباده أنفسهم، والمرء ضنينٌ بنفسه، لكن الثّمن غالٍ، إنّه الجنّة {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التّوبة: 111].
وطلب مِن العباد المال، والمرء ضنينٌ بماله، لكن طلبه على سبيل القرض {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 245].
وشنّع على أولئك الّذين لا يضحّون {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التّوبة: 38-39].
كما كشف سريرة مَن لا يحبّ البذل إذا كان الغُرم كبيرٌ {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التّوبة: 41-42].
وامتنّ على عباده أن نصرَهم زمن الاستضعاف وأدّبهم إذ استغنوا زمن الكثرة {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ * لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التّوبة: 24-25].
فمعيّة الله زمن الاستضعاف أقرب، فلنكن مِن جند ذلك الزّمان.
2- نماذج مشرقةٌ للتَّضحية
بدأ الإسلام غريبًا، وسجّلت السّيرة في الغُربة الأولى تلك تضحياتٍ يجدر أن يُقتدى بها، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو ب، عَنْ أَشَدِّ مَا صَنَعَ المُشْرِكُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: رَأَيْتُ عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ، جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُصَلِّي، فَوَضَعَ رِدَاءَهُ فِي عُنُقِهِ فَخَنَقَهُ بِهِ خَنْقًا شَدِيدًا، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَفَعَهُ عَنْهُ، فَقَالَ: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ، وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} [غافر: 28]. صحيح البخاريّ: 3678
وعن عَائِشَةَ رضي الله عنها، زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، حَدَّثَتْهُ أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ، قَالَ: (لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ، وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ العَقَبَةِ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلاَلٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ). صحيح البخاريّ: 3231
ومِن تضحيات مَن لم يتقدّم به العمر آنذاك ما ورد عَنْ صَالِحِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ رضي الله عنه، قَالَ: بَيْنَا أَنَا وَاقِفٌ فِي الصَّفِّ يَوْمَ بَدْرٍ، فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي، فَإِذَا أَنَا بِغُلاَمَيْنِ مِنَ الأَنْصَارِ -حَدِيثَةٍ أَسْنَانُهُمَا، تَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ بَيْنَ أَضْلَعَ مِنْهُمَا- فَغَمَزَنِي أَحَدُهُمَا فَقَالَ: يَا عَمِّ هَلْ تَعْرِفُ أَبَا جَهْلٍ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، مَا حَاجَتُكَ إِلَيْهِ يَا ابْنَ أَخِي؟ قَالَ: أُخْبِرْتُ أَنَّهُ يَسُبُّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَئِنْ رَأَيْتُهُ لاَ يُفَارِقُ سَوَادِي سَوَادَهُ حَتَّى يَمُوتَ الأَعْجَلُ مِنَّا، فَتَعَجَّبْتُ لِذَلِكَ، فَغَمَزَنِي الآخَرُ، فَقَالَ لِي مِثْلَهَا، فَلَمْ أَنْشَبْ أَنْ نَظَرْتُ إِلَى أَبِي جَهْلٍ يَجُولُ فِي النَّاسِ، قُلْتُ: أَلاَ إِنَّ هَذَا صَاحِبُكُمَا الَّذِي سَأَلْتُمَانِي، فَابْتَدَرَاهُ بِسَيْفَيْهِمَا، فَضَرَبَاهُ حَتَّى قَتَلاَهُ، ثُمَّ انْصَرَفَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرَاهُ فَقَالَ: (أَيُّكُمَا قَتَلَهُ؟)، قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: أَنَا قَتَلْتُهُ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: (هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا؟)، قَالاَ: لاَ، فَنَظَرَ فِي السَّيْفَيْنِ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: (كِلاَكُمَا قَتَلَهُ، سَلَبُهُ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الجَمُوحِ). صحيح البخاريّ: 3141
ومِن تضحيات الرّجال ما ورد عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه، قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أُحُدٍ لِطَلَبِ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ، وَقَالَ لِي: (إِنْ رَأَيْتَهُ فَأَقْرِئْهُ مِنِّي السَّلَامَ، وَقُلْ لَهُ: يَقُولُ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ: كَيْفَ تَجِدُكَ؟) قَالَ: فَجَعَلْتُ أَطُوفُ بَيْنَ الْقَتْلَى فَأَصَبْتُهُ وَهُوَ فِي آخِرِ رَمَقٍ وَبِهِ سَبْعُونَ ضَرْبَةً مَا بَيْنَ طَعْنَةٍ بِرُمْحٍ وَضَرْبَةٍ بِسَيْفٍ وَرَمْيَةٍ بِسَهْمٍ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا سَعْدُ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ، وَيَقُولُ لَكَ: (خَبِّرْنِي كَيْفَ تَجِدُكَ؟) قَالَ: عَلَى رَسُولِ اللَّهِ السَّلَامُ، وَعَلَيْكَ السَّلَامُ قُلْ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَجِدُنِي أَجِدُ رِيحَ الْجَنَّةِ، وَقُلْ لِقَوْمِي الْأَنْصَارِ: لَا عُذْرَ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَنْ يَخْلُصَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَفِيكُمْ شُفْرٌ يَطْرِفُ، قَالَ: وَفَاضَتْ نَفْسُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ. المستدرك على الصّحيحين للحاكم: 4906
وهذا غيض مِن فيض، فكتب السّيرة حافلةٌ بذلك لمَن أراد استزادةً.
خاتمةٌ:
يقول ابن القيّم: "أَيْن أَنْت وَالطَّرِيق؟ طَرِيق تَعب فِيهِ آدم، وناح لأَجله نوح، وَرُمي فِي النَّار الْخَلِيل، وأُضجع للذّبح إِسْمَاعِيل، وَبيع يُوسُف بِثمنٍ بخسٍ، ولبث فِي السجْن بضع سِنِين، وَنشر بِالْمِنْشَارِ زَكَرِيَّا، وَذبح السَّيِّد الحصور يحيى، وقاسى الضّر أَيُّوب، وَزَاد على الْمِقْدَار بكاء دَاوُد، وَسَار مَعَ الْوَحْش عِيسَى، وعالج الْفقر وأنواع الْأَذَى مُحَمَّد". الفوائد لابن القيّم: ص42
لا يلزم أن تكون في زمان عزّ دولة الإسلام وغلبتها حتّى تكون مِن رجاله؛ فلكلّ زمانٍ رجاله، فمن اختاره الله أن يكون مِن عدول الخلف الّذين يحملون هذا الدّين؛ فهو السّعيد الموفّق، ولقد شهد أقوامٌ عزّ هذا الدّين، ثمّ كُبّوا على وجوههم في النّار، وبلغ أقوامٌ الدّرجات عند ربّهم في زمان ضعفٍ، وإذا عظمت المحنة كان ذلك للمُؤمن الصّالح سببًا لعلوّ الدّرجة وعظيم الاجر كما قال ابن تيميّة، وما بلغَنا هذا الدّين إلا برجالٍ استعملهم الله في زمان الضّعف، كما استعمل رجالًا في زمان الغلبة؛ علمًا وجهادًا وبذلًا وتبتّلًا لله جل جلاله وعملًا، لا يُغني بعضهم عن بعضٍ، ومَن كانت وجهته رضا الله؛ رضي بقدر الله له، وبالزّمان والمكان، والسّعة والضّيق، ولا يشغل العبد الصّادق إلّا أن يكون عنده الله مِن المقبولين، أمّا الإسلام؛ فعزيزٌ مكينٌ منيعٌ بنفسه، وإنّ هذا الأمر له ربٌّ ينصره، عن أَبي عِنَبَةَ الْخَوْلَانِيّ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (لَا يَزَالُ اللَّهُ يَغْرِسُ فِي هَذَا الدِّينِ غَرْسًا يَسْتَعْمِلُهُمْ فِي طَاعَتِهِ). سنن ابن ماجه: 8
وعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (مَثَلُ أُمَّتِي مَثَلُ الْمَطَرِ لاَ يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَمْ آخِرُهُ). سنن التّرمذيّ: 2869
 
 

http://shamkhotaba.org