مقدمة:
بالأمس القريب استقبل المسلمون شهر رمضان المبارك بفارغ الشّوق والحنين، وها هم اليوم يودّعونه بدموع الأسى والحُزن، حيث لم يبقَ منه إلّا القليل، وإنّ في ذلك لعبرةً {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} [النّور: 44].
وهكذا سينتهي عُمر الإنسان مثلما يبدأ كلّ شهرٍ وينقضي، حيث يولد الهلال صغيرًا ثمّ يكبر، ثمّ ما يلبث أن يغيب، بل إنّ الدّنيا كلّها لها بدايةٌ، ولها نهايةٌ، علمها عند الله وحده {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} [الأعراف: 187].
وبما أنّنا نعيش الأيّام الأخيرة مِن شهر رمضان، يجدر بنا أن نتعرّف على هدي المصطفى مع ربّه فيها، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ".
فقد كان يضاعف مِن جهوده، ويكثر مِن عبادة ربّه في شهر رمضان -عامّةً- وفي العشر الأخير منه -خاصّةً- حيث كان يعتكفها في المسجد، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللهُ، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ.
ومِن شدّة مواظبته على هذه العبادة، فقد كان يقضيها إذا فاتته عامًا، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ، فَسَافَرَ عَامًا، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ اعْتَكَفَ عِشْرِينَ يَوْمًا.
وإنّ مِن ميّزات العشر الأخير وفضائله أنّ الله خبّأ فيها ليلة القدر المباركة، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُجَاوِرُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَيَقُولُ: (تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ).
كما شُرع للمسلم أن يتوّج تلك العبادات بإخراج زكاة الفطر المطهّرة مِن اللّغو والرّفث، والّتي تكون سببًا في جبر خواطر المسلمين، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: "فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ، مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ، وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنَ الصَّدَقَاتِ".
فمَن عرف قيمة هذه اللّيالي ثمّ فرّط فيها كان مِن المحرومين حقًّا.
1- عشرٌ فاضلاتٌ، وأجورٌ مضاعَفاتٌ
لقد فضّل الله سبحانه شهر رمضان على بقيّة الشّهور، ثمّ ميّز العشر الأخير منه بخصائص لم يجعلها في سائر أيّام الشّهر كلّها، وإنّ هذا لمِن أجلّ نِعم الله على عباده، حيث جعل لهم مواسم عظيمةً للطّاعات، تتضاعف فيها الحسنات، و تُغفر فيها السّيّئات، وتُرفع فيها الدّرجات، فجعل فيها عبادة زكاة الفطر في حقّ كلّ مَن وجد ما يفضل عن قوته وقوت مَن تلزمه نفقتهم ليلة العيد ويومه، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: "فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الْفِطْرِ، صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، عَلَى الْعَبْدِ وَالْحُرِّ، وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، مِنَ الْمُسْلِمِينَ".
وإنّ من فضل هذه اللّيالي أن جُعلت لحظاتها تفضل ألف شهرٍ، يعمرها المسلم بأعمال الخير والبرّ، قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 1-3].
وإنّ مِن تيسير الله على عباده أن جعلها محصورةً في عشر ليالٍ فقط، قال سبحانه: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185].
فمَن تقرّب في هذه اللّيلة بالصّلاة والقيام، والدّعاء وقراءة القرآن وسائر الطّاعات، نال مِن الأجر والثّواب ما لا يناله المسلم بعبادة ألف شهرٍ، ولقد جعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم ليالي الوتر آكد مِن غيرها في أن تكون ليلة القدر فيها، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (أَمَّا لَيْلَةُ الْقَدْرِ، فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ وِتْرًا).
ومِن أجل هذا فقد كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم حريصًا على الخلوة مع ربّه في المسجد، في هذه العشر الأخير، ولكم يحتاج المسلم لمثل هذه الخلوة مع ربّه، لينقطع عن الدّنيا بأسرها، فيصفو قلبه بذِكر خالقه، وتزكو نفسه، وينشرح صدره، ويأنس بربّه، ويتدرّب على عبادته، فيعيش هنا بجسده، ويحلّق مع السّفرة الكرام البررة بروحه، فلا يقع منه خطأٌ، ولا يصدر منه ذنبٌ، وهذا شأن الملائكة المقرّبين، قال جل جلاله: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التّحريم: 6].
قال ابن عبد البرّ: "إنّ المعتكف لا يشتغل بغير ملازمة المسجد للصّلوات، وتلاوة القرآن، وذكر الله، أو السّكوت ففيه سلامة، ومن جهة النّظر، فإنّ المعتكف ناذرٌ، جاعلٌ على نفسه المُقام في المسجد لطاعة الله، فواجبٌ عليه الوفاء بذلك، وأن لا يشتغل بما يلهيه عن الذّكر والصّلاة، ولا يخرج إلّا لضرورةٍ كالمرض البيّن".
ألا ليتنا عرفنا قيمة هذه اللّيالي المباركة، واغتنمنا لحظاتها، ولم نضيّع منها لحظةً واحدةً، لننال السّعادة في الدّنيا، والفوز في الآخرة!
2- ختام الشَّهر، استغفارٌ وشُكرٌ
لمّا شرع الله لنا الطّاعات، وأمرنا بالقيام بها، أرشدنا إلى الاستغفار عقب أدائها، جبرًا للخلل الّذي يقع أثناء القيام بها، حيث كان مِن هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم: أن يستغفر ربّه عقب كلّ صلاةٍ، عَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا انْصَرَفَ مِنْ صَلَاتِهِ اسْتَغْفَرَ ثَلَاثًا".
وأمر الله عباده بالاستغفار بعد أداء مناسك الحجّ؛ فقال تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 199].
كما أثنى على أهل قيام اللّيل، الّذين خلوا بالرّحمن، فكساهم نورًا مِن نوره، وجعل مِن أخصّ صفاتهم الاستغفار بالأسحار {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذّاريات: 18].
وعلّمنا رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم دعاء كفّارة المجلس، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (كَفَّارَةُ الْمَجْلِسِ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ: سُبْحَانَكَ اللهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ).
ولمّا كان صيام رمضان عبادةً مِن جملة العبادات، كان مِن الواجب ختمها بالاستغفار، فلقد كتب عمر بن عبد العزيز: إلى الأمصار يأمرهم بختم شهر رمضان بالاستغفار وصدقة الفطر؛ فقال: "إنّ صدقة الفطر طهرةٌ للصّائم مِن اللّغو والرّفث، والاستغفار يرقّع ما تخرّق مِن الصّيام باللّغو والرّفث، فالاستغفار للصّائم كسجدة السّهو للصّلاة، ثمّ قال: قولوا كما قال أبوكم آدم: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}، وقولوا كما قال نوح: {وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}، وقولوا كما قال إبراهيم: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ}، وقولوا كما قال موسى: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي}".
وفي نهاية الشّهر يندب عباده إلى شكره على تمام نعمة شهر رمضان، قال سبحانه: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185].
وإنّ استغفار العبد بعد كلّ طاعةٍ ليذكّر المسلم أنّ كلّ ما قام به محض فضلٍ مِن الله ليس إلّا، قال عز وجل: {فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحجرات: 8].
وبهذا يحصّل المسلم الثّمرة المرجوّة مِن العبادات، فيحظى برضى ربّ البريّات، في الحياة وبعد الممات.
خاتمةٌ:
ما أجمل أن نحاسب أنفسنا قبل أن تُحاسب، وننظر ماذا سجّلنا في صحائفنا قبل فوات الأوان، فإن كنّا قد أحسنّا فلنزدد مِن الإحسان، ولنسأل ربّنا الثّبات، فإنّنا لا ندري بم يُختم لنا، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: (يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ، ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ) قَالَ: فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللهِ، آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ، فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟ قَالَ: فَقَالَ: (نَعَمْ، إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللهِ عز وجل يُقَلِّبُهَا).
ولقد كان السّلف الصّالح يهتمّون لقبول العمل، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، زَوْجَ النَّبِيِّ قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} قَالَتْ عَائِشَةُ: أَهُمُ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الخَمْرَ وَيَسْرِقُونَ؟ قَالَ: (لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُمُ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ، وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لَا تُقْبَلَ مِنْهُمْ).
و إنّ كل إنسان عرضةٌ للخطأ والزّلل، فمَن أخطأ في أيّام صومه، فليبادر إلى التّوبة قبل أن يُغلَق الباب؛ فلا ينفع وقتها النّدم، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَقَالَ: (آمِينَ آمِينَ آمِينَ)، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّكَ حِينَ صَعِدْتَ الْمِنْبَرَ، قُلْتَ: آمِينَ آمِينَ آمِينَ، قَالَ: (إِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي، فَقَالَ: مَنْ أَدْرَكَ شَهْرَ رَمَضَانَ وَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ فَدَخَلَ النَّارَ فَأَبْعَدَهُ اللهُ، قُلْ: آمِينَ، فَقُلْتُ: آمِينَ..).
محرومٌ -واللهِ- مَن خسر المغفرة في أيّام الرّحمة والعتق مِن النّيران، عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه، أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (الصَّلَواتُ الخَّمسُ، والجُمُعَةُ إَلَى الجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ، إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ).
فلنحرص كلّ الحرص على قيام ما بقي مِن هذه اللّيالي المباركة بالطّاعة والدّعاء، والذّكر والقرآن، علّنا ندرك ليلة القدر فنفوز فوزًا عظيمًا.
http://shamkhotaba.org