مقدمة:
لقد ودّع المسلمون شهر رمضان بالأمس القريب، وودّعهم راحلًا إلى ربّه سبحانه، وانقسم النّاس الّذين استقبلوه ثمّ ودّعوه إلى فريقين اثنين: فريقٍ علم أنّ ساعاته معدودةٌ فصلّى وصام، وتلى كتاب الله عز وجل وباللّيل قام، واغتنم أيّامه المعدودة خير اغتنامٍ، وهناك فريقٌ آخر لم يرعَ لهذا الشّهر حرمته، بل ظلّ مستغرقًا في غفلته، مقبلًا على لهوه وغيّه، ولقد مرّت الأيّام سريعًا على هذا وذاك، وذهبت معها مشقّة الصّيام والقيام، كما انتهت لذّة مَن أفطر وسها ونام، ولكن شتّان بين محسنٍ يجني في الآخرة ثمرة إحسانه، وبين مسيءٍ يلقى عاقبة إساءته، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (يُؤْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنَ الْكُفَّارِ، فَيُقَالُ: اغْمِسُوهُ فِي النَّارِ غَمْسَةً، فَيُغْمَسُ فِيهَا، ثُمَّ يُخْرَجُ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: أَيْ فُلَانُ هَلْ أَصَابَكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا، مَا أَصَابَنِي نَعِيمٌ قَطُّ، وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ الْمُؤْمِنِينَ ضُرًّا، وَبَلَاءً، فَيُقَالُ: اغْمِسُوهُ غَمْسَةً فِي الْجَنَّةِ، فَيُغْمَسُ فِيهَا غَمْسَةً، فَيُقَالُ لَهُ: أَيْ فُلَانُ هَلْ أَصَابَكَ ضُرٌّ قَطُّ، أَوْ بَلَاءٌ، فَيَقُولُ: مَا أَصَابَنِي قَطُّ ضُرٌّ، وَلَا بَلَاءٌ).
وإنّ في هذا لعبرةً وذكرى لمَن كان له قلبٌ، فمَن فهم العبرة ظلّ متمسّكًا بحبل ربّه، ليجد مكافأته على عمله الصّالح الّذي وفّقه الله إليه، قال تعالى: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 43].
وإنّ المؤمن الحقّ ليدخل مدرسة رمضان، فيتعلّم فيها مكارم الأخلاق، ويتدبّر فيها كلام ربّه الخلّاق، ويصلح ما بينه وبين النّاس مِن قطيعةٍ وشقاقٍ، ثمّ يشكر على النّعماء، ويصبر على البلاء، ثمّ يخرج مِن رمضان بتلك الحصيلة مِن الخيرات، وعمل البرّ والطّاعات، فيشعر بالأنس إذ اتّصل بربّ البريّات، وعاهد ربّه على الثّبات عليها حتّى الممات، لأنّه وجد طمأنينة القلب، وراحة الفؤاد، وانشراح الصّدر، وسكون الرّوح، فغدا لربّه ذاكرًا خاشعًا، ولنعمه راضيًا شاكرًا، ولآياته تاليًا متدبّرًا، وبحبل ربّه متمسّكًا، وإليه راغبًا، وعن غيره مجانبًا، فكان بحقٍّ مِن المؤمنين الصّادقين الّذين أثنى عليهم في كتابه إذ قال سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال: 2-4].
وهكذا يتبيّن بوضوحٍ لكلّ ذي لبٍّ أنّ الإيمان لا ينهض بالإنسان بمجرّد كلمةٍ يقولها، أو شهادةٍ يتشهّدها، دون أن يأتي ببرهانٍ يصدّقها، أو مظهرٍ من مظاهر العمل الصّالح يحقّقها، مِن الصّبر والشّكر، وكمال اليقين وحُسن العمل.
1- المؤمن الصَّادق، لا ينقطع عن الخالق
لقد أنعم الله عز وجل على المؤمنين بأعظم نعمةٍ وأكرمها، وفضّلهم على مَن سواهم أيمّا تفضيلٍّ! إذ هداهم لهذا الدِّين الحنيف، قال جل جلاله: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ، بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات: 17].
فهو العقيدة الرّاسخة الّتي تملأ جوانح النّفس، وتغمر حنايا القلب، ويتبعها آثارها مِن العمل الصّالح، فتزكو نفوسهم، وتطهر قلوبهم، وتعلو هممهم، وتقوى عزائمهم، فتطلب معالي الأمور، فإنّ المؤمن إذا ما ذاق طعم الإيمان، وانشرح صدره لكلام الرّحمن، وانتشر النّور في قلبه تمسّك به، واستسهل كلّ العقبات في طريق الحفاظ عليه، وبذل الغالي والنّفيس في سبيل ملازمته، ولقد ضرب لنا سحرة فرعون -بعد أن أكرمهم الله عز وجل بالإيمان- أروع الأمثلة في ذلك، ولم يكن قد مضى على إيمانهم إلّا قليلًا، قال تعالى: {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه: 72].
وهكذا يفعل الإيمان بصاحبه إذا خالطت بشاشته القلوب، فهو دِينٌ يأمر صاحبه بأن يبقى دائم الاتّصال بربّه، لا ينفصل عنه بمجرّد انتهاء عبادةٍ تَشرّف بالقيام بها، فإيمانه يظلّ ملازمًا له في كلّ الأمكنة والأزمنة، عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: (اتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ).
فإنّ ربّنا عز وجل يريد من المؤمن أن يعلو بإيمانه إلى الملأ الأعلى، يعيش بروحه وقلبه لحظات أداء عبادةٍ ما، متأسيًّا بالملائكة المقرّبين، فيشحن قلبه بأنوارها، ويشحذ همّته لما بعدها، ليبقى مع ربّه دائمًا، وهذا مع يحصل مع المؤمنين كلّ عامٍ عندما يؤدّون شعيرة الصّوم، حيث يعيش المسلمون في جوار رمضان أحسن جوار، يكرمون جواره، ويعمرون بطاعة الله أيّامه، فإذا ما انقضى رمضان ظلّوا ملازمين للطّاعة، لأنّهم أَنسوا مع ربهّم في مناجاته، واطّمأنّت قلوبهم بذكره، قال سبحانه: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرّعد: 28].
ومِن أجل هذا فقد أرشد الله عز وجل نبيّه صلى الله عليه وسلم بالتّوجّه إليه دائمًا، والانتقال مِن عبادةٍ إلى عبادةٍ دون انقطاعٍ، قال تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشّرح: 7-8].
والمؤمن الحقّ مَن جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوته، فسار على نهجه، ولزم سنّته، فكان مِن السّعداء في الدّنيا، ومِن المفلحين في الآخرة.
2- إلهٌ يستحقُّ الشُّكر
إذا كان على المؤمن أن يكون دائم الاتصال بربّه سبحانه، يعبده حتّى يأتيه اليقين، فإنّ عليه ألّا يغفل عن شكر ربّه عز وجل، وإنّ المعاني الّتي يستحقّ ربّنا جل جلاله عليها الشّكر كثيرةٌ، أعظم مِن أن تُحصر، فهو الّذي أباح لنا الطّعام والشّراب، وهو الّذي خلقه، إذ له الخلق والأمر {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54].
فبما له سبحانه مِن الخلق خلق لنا ما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [عبس: 24-32].
وبما له عز وجل مِن الأمر أباح {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} [المائدة: 87-88].
ولم يقتصر الأمر على الإباحة؛ بل تعداه إلى النّهي عن تحريم ما أحلّ الله جل جلاله، إذ له الأمر دُون غيره {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 31-32].
وندبنا عز وجل أن نمشي في مناكب الأرض ولا ننسى يوم النّشور {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15].
ومِن المعاني الّتي يخلّفها شهر الصّيام في أذهاننا -ونحن قريبو عهدٍ به- أنّنا لا نستحقّ الأكل والشّرب استحقاقًا، بل هو محض نعمة مِن الله سبحانه، ودليل ذلك أنّ الله منعنا منه طيلة نهارات الشّهر المبارك، فمجرّد إباحته لنا بعد رمضان نعمةٌ تستحقّ أن يتأمّلها العبد مليًّا، كما تستدعي منه بعد رمضان أن يقتصر في مطعمه ومشربه على المباح، فلا يتجاوز ذلك إلى ما حرّم الحقّ عز وجل على الخلق، وعلى المسلم إذا أُقيمت موائد العيد أن يتذكّر أنّه مِن دواعي رضا الله أن نشكره، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللهَ لَيَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا).
فالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا، وَسَقَانَا وَجَعَلَنَا مُسْلِمِينَ.
خاتمةٌ:
طوبى لعبدٍ ذاق حلاوة العبادة، وطَعِمَ طعْم الإيمان، وتمتّع بطاعة الرّحمن، فتمسّك بحبل ربّه المتين، وظلّ سائرًا على صراطه المستقيم، ولم يترك ملازمة الصّالحين، الّذين كانوا عونًا له في طاعة ربّ العالمين، حتّى نال الدّرجات العلى عند الرّحمن الرّحيم، حيث إنّ نور الطّاعة عندما يملأ زاويا القلب، يعكس ضياءً على الوجه، ومحبّةً تصل العبد بربّه، وتربط بينه وبين عباد الله، فمَن أحسن في رمضان فليحمد الله على توفيقه وفضله، فكلّ ما كان مِن خيرٍ فمِن الله وحده، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنه قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَنْقُلُ مَعَنَا التُّرَابَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ، وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ وَارَى التُّرَابُ بَيَاضَ بَطْنِهِ، يَقُولُ: لَوْلَا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا نَحْنُ، وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنَا".
ومَن كان قد فرّط وأساء، وفاته الخير والإحسان، فليبادر بالتّوبة الصّادقة، وليستغفر ربّه مِن ذنوبه وتقصيره، وانقطاعه عن ربّه، وإنّ الله يحبّ مَن تقرّب إليه، ويقبل على مَن سعى لساحته، مع أنّه لا تنفعه طاعاتنا، ولا تضرّه معاصينا، قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النّحل: 97].
وقال أيضاً: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} [النّساء: 123].
فلقد أمر الله نبيّه والمؤمنين الّذين معه بالاستقامة على هذا الدِّين، وعدم الانحراف عن الهدى، قال تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود: 112].
وإنّ سائر النّصوص القرآنيّة لتدعو المؤمنين إلى التزام طريق الهداية، ودوام الطّاعة، وبقاء الصّلة بالخالق العظيم، وهذا مِن شكر الله على نعمه الّتي لا تُعدّ ولا تحصى، قال عز وجل: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7].
وبذلك تدوم النّعم وتزيد، وتُدفع النّقم وتحيد، قال تعالى: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا} [النّساء: 147].
http://shamkhotaba.org