مقدمة:
إنّ مِن رحمة الله عز وجل بعباده أنّه لا يتركهم إن أعرضوا عنه، أو غرقوا في لهوهم وغفلتهم، بسبب أموالٍ جمعوها فأنستهم ذكر الله، أو مِن أجل شهواتٍ عاجلةٍ حرصوا عليها فقست قلوبهم بسببها، فلم يصبروا على القيام بالطّاعات، بل ربّما وقعوا في المحرّمات والمنكرات، وكلّ ذلك بسبب تعلّق قلوبهم بغير الله، والقلوب هي محطّ نظر الله، وهي سرّ صلاح الجسد وفساده، عَنِ النُّعْمَانِ بْنَ بَشِيرٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ).
ولكم كانت رحمة الله سبحانه بالعباد عظيمةً، وفضله عليهم كبيرًا، عندما جعل لهم مواسم للخير فاضلةً، تذكّرهم إذا نسوا، وتنبّههم إذا غفلوا، وتدعوهم للعودة إلى صراط الله المستقيم إذا شردوا، وإنّ المسلم الصّادق لَيحرص عليها أشدّ مِن حرص التّجار على مواسم البيع والشّراء، وأكثر مِن حرص الطّلاب على مواسم الجدّ والاجتهاد، ذلك لأنّ المسلم يعلم أنّها تجارةٌ رابحةٌ مع الله عز وجل {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: 29-30].
وإنّنا على أبواب أحد هذه المواسم العظيمة، وهي أيّام عشر ذي الحجّة، الّتي جاء القسَم بها في كتاب الله الكريم، وذلك لبيان فضلها ومكانتها {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ}، ثمّ جاءت السّنّة النّبويّة مؤكّدةً على عِظَم الأجر فيها، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِنَّ الْعَشْرَ عَشْرُ الْأَضْحَى، وَالْوَتْرَ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَالشَّفْعَ يَوْمُ النَّحْرِ).
ولمّا كانت هذه الأيّام العشرة ظرفًا لأداء مناسك الحجّ -وقد جعل الله سبحانه الحنين في قلوب المسلمين إلى تلك الأماكن المباركة، ولم يكن بوسْعِ كلّ المسلمين أن يحجّوا- فقد شرع الله لعباده أعمالًا صالحةً، إن قام بها المسلمون نالوا ما ناله الحجّاج من الأجر والثّواب، فمَن كان ذا عقلٍ ولبٍّ، حرص على الاتّجار للآخرة، ولن يضيّع مواسم الخير، والمحروم حقًّا مَن مرّت به تلك اللّيالي، وهو لا يزال يغطّ في سباتٍ عميقٍ.
1- تجارةٌ رابحةٌ، ومواسم فاضلةٌ
لقد أمر الله عز وجل عباده المؤمنين بالمسارعة في الطّاعات، والمنافسة في القربات، فقال: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148].
ولقد شرع لعباده الأعمال الصّالحة الّتي تقوّي الصّلة بين الخالق والمخلوق، فيتنوّر بها قلبه، وينشرح بها صدره، ويتهذّب بها سلوكه، ولهذا نجد المؤمنين الغارقين في الطّاعات، والمكثرين مِن الخيرات، آمنين مطمئنّين، مؤتنسين بربّهم، سعداء في أنفسهم {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [يونس: 62-64].
ولقد كان مِن رحمة الله بعباده، أن قسّم لهم الطّاعات على أوقاتٍ، ونوّعها إلى نوافل وواجباتٍ، وجعلها موصولةً بعضها ببعضٍ، ليدوم اتّصال العبد بربّه، وليحيا قلبه بنور الإيمان وشعبه، وليكون دائمًا محروسًا بعناية الله، مشمولًا برعايته، فيترقّى العبد في مدارج سلوكه، فيبدو له معنى قول الله سبحانه في الحديث القدسيّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لأعطينَّه، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لأعيذنَّه).
وإنّ مِن النّوافل الّتي تقرّب العبد إلى الله زلفى: التّزوّد بالطّاعة والعبادة في هذه الأيّام المباركة، أيّام العشر الأولى مِن شهر ذي الحجّة، الّتي خصّها الله بالفضل العظيم، والأجر الجزيل، وجعلها متاعًا روحيًّا للأتقياء، وتجارةً رابحةً للأصفياء، وجاءت السّنّة النّبويّة تؤكّد فضلها، وتدعو إلى كثرة العمل الصّالح فيها، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنْ أَيَّامٍ العَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ العَشْرِ)، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: (وَلَا الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ).
ولقد شهد لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنّها خير أيّام الدّنيا، عن جابرٍ رضي الله عنه، أَنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قَالَ: (أَفْضَلُ أَيَّامِ الدُّنيا أيَّامُ العَشْرِ)، يعني عَشْرَ ذِي الحجَّةِ، قِيلَ: ولَا مِثلُهُنَّ في سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: (وَلَا مِثلُهُنَّ).
حيث اجتمعت فيها أمّهات العبادات، كالصّلاة، والّصيام، والصّدقة، والحجّ، ولا تجتمع في غيرها، فلنستقبلها بتوبةٍ صادقةٍ، وهمّةٍ عاليةٍ، ولنغتنم لحظاتها خير اغتنامٍ.
2- أدركْ بها أجرَ الحجِّ والعمرة
لقد فرض الله عز وجل الحجّ على المسلمين في العمر مرّةً واحدةً، وجعل ثواب الحجّ عظيمًا، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: (وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الجَنَّةَ).
وإنّ مِن المسلمين مَن لا يستطيع الحجّ أبدًا، وقد جعل الله في قلوب المسلمين حنينًا إلى بيت الله الحرام على الدّوام، وشوقًا إلى الطّواف والدّعاء بين الرّكن والمقام، ولذا كان مِن فضل الله على عباده أن جعل موسم عشر ذي الحجّة مشتركًا بين السّائرين والقاعدين، حيث شرع للمسلم فيها التّحميد والتّكبير والتّهليل، قال البخاريّ: "وكان ابنُ عمر وأبو هريرة يَخرجان إلى السّوق في أيّام العشر يُكَبِّران ويُكَبِّر النّاسُ بتكبيرهما".
فمَن عجز عن الحجّ نواه بقلبه، فيكتب الله له الثّواب كاملًا بنيّته، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ فِي غَزَاةٍ فَقَالَ: (إِنَّ أَقْوَامًا بِالْمَدِينَةِ خَلْفَنَا مَا سَلَكْنَا شِعْبًا وَلَا وَادِيًا إِلَّا وَهُمْ مَعَنَا فِيهِ حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ).
وإنّ مَن حضر مجالس العِلم في بيت الله كان كالحاجّ المعتمر، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ لَا يُرِيدُ إِلَّا أَنْ يَتَعَلَّمَ خَيْرًا أَوْ يَعْلَمَهُ، كَانَ لَهُ كَأَجْرِ حَاجٍّ تَامًّا حِجَّتُهُ).
كما أنّ صلاة الجماعة -لا سيّما الفجر- ينال بها المسلم ثواب الحجّ أيضًا، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: (مَنْ مَشَى إِلَى صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ فِي الْجَمَاعَةِ، فَهِي كَحَجَّةٍ، وَمَنْ مَشَى إِلَى صَلَاةِ تَطَوُّعٍ فَهِي كَعُمْرَةٍ تَامَّةٍ).
عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ صَلَّى الغَدَاةَ فِي جَمَاعَةٍ ثُمَّ قَعَدَ يَذْكُرُ اللَّهَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَانَتْ لَهُ كَأَجْرِ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (تَامَّةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ).
إلى جانب كثيرٍ من أبواب الخير الّتي ينال المسلم بها أجر الحاجّ والمعتمر، كبرّ الوالدين، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: أَتَى رَجُلٌ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنِّي أَشْتَهِي الْجِهَادَ، وَإِنِّي لَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: (هَلْ بَقِيَ أَحَدٌ مِنْ وَالِدَيْكَ؟) قَالَ: أُمِّي قَالَ: (فَأَبْلِ اللَّهَ عُذْرًا فِي بِرَّهَا، فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ فَأَنْتَ حَاجٌّ وَمُعْتَمِرٌ وَمُجَاهِدٌ، إِذَا رَضِيَتْ عَنْكَ أُمُّكَ، فَاتَّقِ اللَّهَ وَبِرَّهَا).
كما يُندب لمَن لم يَتَسَنّ له الحجّ أن يكثر مِن قضاء حوائج المسلمين، عن عليّ بن حسينٍ قال: خرج الحسن يطوف بالكعبة، فقام إليه رجلٌ فقال: يا أبا محمّد، اذهب معي في حاجةٍ إلى فلانٍ، فذهب معه، ثمّ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (مَنْ ذَهَبَ فِي حَاجَةٍ لِأَخِيهِ المُسْلِمِ فَقُضِيَتْ حَاجَتُهُ كُتِبَتْ لَهُ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ، وَإِنْ لَمْ يُقْضَ كُتِبَتْ لَهُ عُمْرَةٌ).
فلله الحمد والمنّة على عظيم رحمته بعباده، وواسع فضله.
خاتمةٌ:
طوبى لعبدٍ تذكّر واعتبر، وأيقظ مشاعره، فاغتنم فرصة حياته، واستغلّ زهرة شبابه، ولم يترك مثل هذه الأيّام وغيرها تذهب مِن عمره سدىً، فقدّم بين يديه أعمالًا صالحةً، وطاعاتٍ لله خالصةً، تُقعده مقاعد الشّرف والكرامة في الدّنيا والآخرة، وإنّ هذه الأيّام المباركة لَتذكّرنا بمثلها مِن السّنة العاشرة للهجرة النّبويّة، حيث تَوجّه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكّة المكرّمة، لأداء فريضة الحجّ، فأحرم ولبّى، ثمّ طاف بالبيت وسعى، وفي اليوم التّاسع مِن ذي الحجّة توجّه إلى عرفاتٍ، وخطب النّاس وودّعهم، وبيّن لهم أمور دينهم ودنياهم، وفي الحجّ ذكر الله جل جلاله لنا طرفًا مِن قصّة إبراهيم، لتختصر لنا ذلك الطّريق الطّويل، وتبصّرنا بحقيقة وجودنا في هذه الدّنيا، وكأنّها تنزل الآيات اليوم في ترتيبٍ ونسقٍ عجيبٍ {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: 124].
ابتلى إبراهيم ربّه بكلماتٍ مِن الأوامر والتّكاليف فأتمّهنّ، واجتازهنّ بنجاحٍ، وكأنّ هذا الدّرس يتكرّر اليوم حيث طُرح إبراهيم في النّار، وزعم قومه الطّغاة أنّهم سينصرون أصنامهم بحرقه، وكم حُرّق اليوم مِن المسلمين على أيدي الطّغاة المجرمين، ثمّ طُرد إبراهيم وغيره مِن الأنبياء مِن ديارهم في سبيل دينهم {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [إبراهيم: 13].
واليوم يُطرد ملايينٌ مِن النّاس مِن بيوتهم ليقاسوا الضّنك والشّقاء، والذّل والهوان، ثمّ يقدّم إبراهيم ابنه إسماعيل للذّبح في سبيل رضى الله، واليوم -أيضًا- قدّم الآباء والأمّهات الآلاف مِن أبنائهم حرقًا وذبحًا وغرقا في سبيل نصرة هذا الدّين، ثمّ يأتي الفرج بعد الابتلاء والتّمحيص {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124].
وهذه سنّة الله في خلقه، ابتلاءٌ وتمحيصٌ، ثمّ إمامةٌ وتمكينٌ، فمَن طلب الحقّ فليتحلَّ بالصّبر واليقين، وليثبتْ ليتجاوز العقبات والصّعوبات، فمِن صبر ظفر.
http://shamkhotaba.org