مقدمة:
الحكمة منحةٌ مِن الله سبحانه {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [البقرة: 268-269].
أوحاها الله جل جلاله لسيّد البشر صلى الله عليه وسلم {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء: 39].
فكانت ممّا امتنّ به عز وجل على عباده {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الإسراء: 39].
وآتاها الله سبحانه داوود {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ * وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [ص: 17-20].
وآتاها جل جلاله جالوت {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 251].
وآتاها عز وجل عيسى بن مريم عليه السلام {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} [آل عمران: 48].
وكذلك آتاها آل إبراهيم {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا} [النّساء: 54].
فإذا كانت الحكمة بهذه المنزلة فلنبحث عن الحكمة.
1- مع الله سبحانه
الحكمة تلك العطيّة القيّمة الّتي امتنّ الله بها على خيرة عباده، وجعلها خيرًا عظيمًا، حريٌّ بنا أن نتلمّسها عند مَن آتاهم الله إيّاها، ومظانّها في السّنّة النّبويّة، فهي الحكمة الّتي آتاها الله سبحانه رسوله خير البشر {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النّساء: 113].
وهي الحكمة الّتي أمر الله عز وجل نساء المؤمنين أن يذكرنها {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} [الأحزاب: 34].
فمَن أراد الحكمة فليتتبّع كلام النّبيّ الحكيم صلى الله عليه وسلم، وقد نصّ القرآن على رجلٍ حكيم آتاه الله الحكمة {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [لقمان: 12].
وبما أنّنا عرفنا أنّه مظنّة للحكمة فلنتأمّل أقواله علّنا ننتفع منها {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].
فمن حكمته أن يعظ ابنه فلا يتركه هملًا، فالآباء رعاةٌ ومسؤولون عن أبنائهم، وقد ورد أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ).
ونحن في زمنٍ انشغل أفراد الأسرة فيه بهواتفهم المحمولة، كلٌّ له اهتماماته الّتي يتابعها عبر تلك الشّاشة الصّغيرة، والحكيم مَن استطاع الوصول إلى أبنائه ليصلهم بالله صلةً سماويّة، ويخرجهم -ولو قليلًا- مِن جوّ وسائل التّواصل الأرضيّة {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: 17].
كذلك تظهر حكمته في موضوع الموعظة، فهو يريد أن يكون ابنه مع الله وخالصًا لله سبحانه، لا يشركه معه غيره، ويصف الإله لابنه، فيقول: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 16].
مَن مِن الآباء اليوم يخصّص مِن وقته ليصف ربّه لابنه؟ لقد عزّ هذا في زمننا كثيرًا! مع إنّه عين الحكمة، فإن عجز الأب عن ذلك فلا يعجزنّ أن يجلس مع ابنه ليتابعا معًا عبر هواتفهم مقاطع مرئيّةً عن توحيد الله ولطفه، فهو اللّطيف الخبير.
2- مع النَّاس
لم تقتصر وصايا لقمان الحكيم على ضبط علاقة ابنه بالله سبحانه، بل تعدّتها إلى ضبط علاقته مع النّاس، وقد ورد خلال الوصايا وصيّة الربّ الحكيم عزو جل بالأبوين {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [لقمان: 14، 15].
فالأبوان أقرب النّاس إلى المرء، وحريّ به أن يعتني بهما عنايته بنفسه، حتّى وإن بلغ الأمر بهما أن كانا مشركين، يبرّهما، ولا يطيعهما في شركهما، وقد علّلت الآية الوصيّة بالوالدين أنّهما يبذلان الجهد الكبير في التّنشئة، وهذا الجهد يستدعي الشّكر، ثم جعل شكرهما وشكر الله سبحانه في سياقٍ واحدٍ، ممّا يرفع مِن شأن الأمر ويعظّمه، ولعلّ التّوصية بالوالدين لم تجئ على لسان لقمان، بل جاءت منسوبةً إلى الله سبحانه مباشرةً، لعظيم شأن هذه الوصيّة، وربّما فيها إشارةٌ أنّ لقمان الحكيم كان مِن حكمته أن لم يطلب مِن ابنه أن يبرّه، لئلّا يكون في موقفٍ يطلب فيه لنفسه مِن ابنه، فيتوسّط الله سبحانه بين الأب وابنه، ويجعل الوصيّة تصدر منه فيصون الأب أن يحتاج ابنه، وهذا فيه تعليمٌ للأبناء أن يبادروا إلى حاجات آبائهم؛ فيقضونها قبل أن يجعلوا الآباء في موقف الطّلب، وقبل أن يحوِجوا الآباء أن يصرّحوا بحاجاتهم لأبنائهم، فربّ حاجةٍ ثقل على الأب طلبها مِن ابنه فظلّت حبيسةً في نفسه لا تجد سبيلًا إلى التّحققّ، ويوصي لقمان الحكيم ابنه في تعامله مع النّاس ألّا يتكبّر {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُور} [لقمان: 18].
فالنّاس تبغض المتكبّرين، والله عز وجل لا يحبّهم، بل إنّ الله توعّدهم بالحرمان مِن الجنّة، فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ) قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً، قَالَ: (إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ).
ثمّ يوصي ابنه بالآداب العامّة إذ يخرج إلى النّاس {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: 19].
والمعنى: تواضع في مشيك إذا مشيت، ولا تستكبر، ولا تستعجل، ولكن اتّئد، واخفض مِن صوتك، فاجعله قصدًا إذا تكلمت.
خاتمةٌ:
يضع الشّيطان عرشة على الماء، ويرسل جنده ليعيثوا فسادًا في الأرض، فأيّهم جاءه وقد هدم الأسرة يقرّبه منه، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ، فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً، يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: مَا صَنَعْتَ شَيْئًا، قَالَ ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، قَالَ: فَيُدْنِيهِ مِنْهُ وَيَقُولُ: نِعْمَ أَنْتَ) قَالَ الْأَعْمَشُ: أُرَاهُ قَالَ: (فَيَلْتَزِمُهُ).
أي يضمّه إلى نفسه ويعانقه، وفي بني البشر مَن يسعى في مُراد إبليس وجنده وليستمتع بما يمدّه به شياطين الجنّ {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 128].
فالحكمة كلّ الحكمة أن نسعى فيما يقرّبنا مِن الله سبحانه، لا فيما يقرّبنا مِن جند إبليس، وإنّ الحكمة الّتي نقلَتها لنا الآيات القرآنية عن لقمان تتضمّن بوضوحٍ إشاراتٍ إلى الحفاظ على الأسرة المسلمة؛ مِن خلال عناية الأب بربط ابنه بالإيمان بالله وتوحيده، كما في الآيات الحفاظ على الأسرة مِن خلال برّ الوالدين، وفيها أبعد مِن ذلك؛ فيها تلك الأخلاق الّتي يحسن أن تنتشر في المجتمع، كالتّواضع وخفض الصوت، فمَن أراد الحكمة فها هي دونه {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}. [البقرة: 268-269].
http://shamkhotaba.org