بسم الله الرحمن الرحيم
الإيمان وأثره في تكوين الضمير
الخطبة الثانية ضمن سلسة ( الإيمان والحياة)
مقدمة:
الإنسان يساق من باطنه لا من ظاهره، وليست قوانين الجماعات ولا سلطان الحكومات بكافيين وحدهما لأن يقوم الإنسان بواجباته وتُؤدى حقوقُهُ، فإن الذي يؤدي واجبه رهبةً من السوط أو السجن أو العقوبة المالية. لا يلبث أن يهمله متى اطمأن إلى أنه سيفلت من طائلة القانون.
القانون أمر لابد منه لتنظيم شؤون الجماعة وتحديد علاقاتها، ولكنه لا يصلح وحده ضابطاً لسلوك البشر، لأن سلطانه على الظاهر لا على الباطن، ودائرته في العلاقات العامة لا في الشئون الخاصة.
ومهمته أن يعاقب المسيء دون أن يستطيع مكافأة المحسن، على أن التحايل على القوانين ميسور، وتطويع نصوصها للأهواء مستطاع، والهرب من عقوبتها ليس بالشيء العسير، وإذا كان القانون عاجزاً عن أن يكون زاجراً عن الشر ورادعاً عن الجريمة والفساد، فإنه لأعجز وأعجز عن أن يكون دافعاً إلى خير أو باعثاً على حق أو حافزاً على عمل صالح.
هذا القانون يفرض عقوبات مادية رادعة على من يرتكبون الجرائم، ولكن المخالفين للقانون يحاولون الفرار من قبضته، والتفلت من دائرة سلطانه، وفي غفلة من القانون والرقباء عليه، يقْدِمون على أعمالهم، مستخفين عن الأعين، أو ظاهرين وقد ألبسوا عملهم الآثم ثوب القانون أو مستندين إلى ذي سلطان يشفع لهم، أو يحمي ظهرهم، إلى آخر ما نعرف عن صور التفلت من يد القانون.
أما إذا نظرنا إلى ما يفرضه قانون الإيمان على صاحبه وجدنا صورة أخرى، ومنطقاً آخر، وجدنا المؤمن إذا زلت قدمه فاقترف جرماً -وهو بطبيعته بشر يخطئ ويصيب- سرعان ما يستيقظ ضميره، ويدفعه دفعاً حتى يذهب إلى يد العدالة من غير قرار من سلطان ولا إعلان من محكمة ولا حراسة من شرطي، فيعترف بالجريمة ويطلب العقوبة لنفسه تطهيراً من الذنب، ورجاء في أن تكون كفارة له عن ذنبه، وشفيعاً له إلى ربه، لا يمنعه من الاعتراف أن فيه جلد ظهره أو قطع يده أو إزهاق روحه.
والمجتمع -أي مجتمع- لا يرقى وينتظم ويسعد بسن القوانين، وإصدار القرارات وتنظيم اللوائح، ويقظة رجال السلطة. وإن كان لا يستغني عن ذلك كله - وإنما يرقى وينتظم ويسعد، بوجود القلوب الحية، وتوافر الضمائر اليقظة بين أبنائه. ومن الحكم المشهورة:
"العدل ليس في نص القانون، وإنما هو في ضمير القاضي".
هذه أهمية الضمير بالنسبة لمن يقضي ويحكم، أما المحكومون بالقانون فقد قال قائلهم:
لن يصلح القانون فينا رادعاً حتى نكون ذوى ضمائر تردع
إن الغلو في حب الدنيا هو رأس كل خطيئة، والتنافس عليها أساس كل بلية. من أجل متاع الدنيا يبيع الأخ أخاه، ويقتل الابن أباه، ومن أجلها يخون الناس الأمانات وينكثون العهود، ومن أجلها يجحد الناس الحقوق، وينسون الواجبات، ومن أجلها يبغي الناس بعضهم على بعض ويعيشون كسباع الغابة، يفترس القويُّ الضعيف، ويلتهمُ الكبيرُ الصغيرَ، من أجل شهوات الدنيا ومفاتنها يغش التجار ويطففون، ويتجبر الرؤساء ويستكبرون، ويجور القضاة ويرتشون، ويطغى الأغنياء ويترفون، وينافق ضعفاء النفوس ويتزلفون.
من أجل الدنيا يكتم العالم ما يعلم أنه الحق، ويفتى بما يعتقد أنه الباطل.
من أجل الدنيا يروِّج الصحفي الكذب والزور، ويخفي الحقائق وهي أوضح من فلق الصبح.
إذاً فما المخرج في مثل الواقع الأليم؟
أهو القانون وقوته؟
أم الحكومة وسطوتها؟
إنا نقولها وللأسف: أن القانون وحكوماته – إذا غاب ضمير الإيمان - هم من يحرسون من ينفذ هذه الجرائم
الإيمان وحده هو الذي يعطي صاحبه القدرة على مقاومة إغراء الدنيا وفتنتها. إنه قد يملك الدنيا ولكنها لا تملكه، وقد تمتلئ بها يداه، ولكن لا يمتلئ بها قلبُه، ذلك أنه يعيش في الدنيا بروح المرتحل: كأنه غريب أو عابر سبيل، ومن عاش في الدنيا بهذه الروح فلا خوف عليه من امتلاك القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، إنه يحيا في الدنيا بقلب أهل الآخرة، ويمشي وقدمه في الأرض، وقلبه موصول بالسماء.
المؤمن وحده هو الذي امتلأ يقيناً بأن الدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضه، وأنها قنطرة عبور إلى الحياة الباقية، وأن ركعتين خاشعتين لله عند الله خير من الدنيا وما فيها، وأن غدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها، وأن موضع قدم الإنسان في الجنة خير من الدنيا وما فيها.
في هذه الخطبة نسلط الضوء على شيء من هذا وكيف أنه بالإيمان وبالإيمان وحده يُصنَعُ الضمير الحيُّ اليقظ الذي يسوق صاحبه إلى الخير سوقاً، ويدفعه للاعتراف بخطأه إذا وقع في الخطأ
عناصر الخطبة:
1- عقيدة المؤمن في الله تجعل ضميره حياً.
2- عقيدة المؤمن في الملائكة تجعل ضميره حياً.
3- عقيدة المؤمن في اليوم الآخر تجعل ضميره حياً.
4- صور من أثر الإيمان في الضمير:
- في أداء الحقوق المالية.
- في الانتصار على الأنانية.
- في الانتصار على الغريزة.
- في الاعتراف بالذنب وبالجريمة.
- في السياسة والحكم.
- في رعاية القوانين والأمانات.
1- عقيدة المؤمن في الله تجعل ضميره حياً:
عقيدة المؤمن بعظمة الله، بسمعه، ببصره، بقدرته، بتدبيره، برحمته،
وبعبارة أخرى: أن يعلم المؤمن من هو الله، من خلال أسماءه وصفاته، من خلال نعمه وآلائه... الخ
ولا يستطيع المؤمن أن يعرف ربه إلا إذا اطلع على أسمائه وصفاته ودرسها وتمعن فيها ليخرج إنساناً آخر على هذه الأرض.
إنه يعتقد أن الله معه حيث كان، في السفر أو في الحضر، في الجلوة أو في الخلوة، لا يخفى عليه خافية، ولا يغيب عنه سر ولا علانية:
( أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَمَا فِى ٱلْأَرْضِ ۖ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلَـٰثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَآ أَدْنَىٰ مِن ذَ ٰلِكَ وَلَآ أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا۟ ۖ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا۟ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ ) (المجادلة: 7)
قال تعالى :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ) (المائدة 94)
قال الوالبي، عن ابن عباس قوله: {لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} قال: هو الضعيف من الصيد وصغيره، يبتلي الله به عباده في إحرامهم، حتى لو شاؤوا يتناولونه بأيديهم. فنهاهم الله أن يقربوه.
وقال مجاهد : {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ} يعني: صغار الصيد وفراخه {وَرِمَاحُكُمْ} يعني: كباره.
وقال مقاتل بن حيان: أنزلت هذه الآية في عمرة الحديبية، فكانت الوحش والطير والصيد تغشاهم في رحالهم، لم يروا مثله قط فيما خلا فنهاهم الله عن قتله وهم محرمون.
( لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ )يعني: أنه تعالى يبتليهم بالصيد يغشاهم في رحالهم، يتمكنون من أخذه بالأيدي والرماح سرا وجهرا ليظهر طاعة من يطيع منهم في سره وجهره، كما قال تعالى: ( إِنَّ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِٱلْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌۭ وَأَجْرٌۭ كَبِيرٌۭ ) [الملك:12] .
إن المؤمن حين تتهيئ له خلوة بنفسه مع توفر لكل أسباب المعصية من مال وشهوة وجريمة، حين يختلي بنفسه في غرفته مع جواله والفتن معروضة بين يديه، حين يبتليه الله بكل ذلك وييسر له أسباب المعصية فلا يغتر بستر الله عليه ولا بعدم رؤية الناس له ، وإنما يعلم أن الله يريد أن يظهر طاعة من يطيع في سره وجهره،( لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ) (المائدة 94)
(وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍۢ وَمَا تَتْلُوا۟ مِنْهُ مِن قُرْءَانٍۢ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ۚ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍۢ فِى ٱلْأَرْضِ وَلَا فِى ٱلسَّمَآءِ وَلَآ أَصْغَرَ مِن ذَ ٰلِكَ وَلَآ أَكْبَرَ إِلَّا فِى كِتَـٰبٍۢ مُّبِينٍ ) (يونس: 61).
(وَأَسِرُّوا۟ قَوْلَكُمْ أَوِ ٱجْهَرُوا۟ بِهِۦٓ ۖ إِنَّهُۥ عَلِيمٌۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ * أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ ) (الملك: 13، 14).
(وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (الأنعام 59)
{إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46]
(أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى) ( العلق 14)
{اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) }الرعد
(قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) (النور30)
( وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41) ) (النجم)
(قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) (طه46)
(وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ )(الأنعام 60)
(سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ )(الرعد 10)
( وما كان ربك نسياً) (مريم 64)
(لا يضل ربي ولا ينسى)(طه52)
عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ، فَكُنَّا إِذَا عَلَوْنَا كَبَّرْنَا، فَقَالَ: «ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فَإِنَّكُمْ لاَ تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلاَ غَائِبًا، تَدْعُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا قَرِيبًا» البخاري /7386
• جاءت خولة بنت ثعلبة تشتكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تشتكي زوجها الذي ظاهر منها ( قال لها: أنت علي كظهر أمي)، تقول: يا رسول الله، أكل شبابي، ونثرت له بطني حتى إذا كبرت سني، وانقطع ولدي، ظاهر مني، اللهم إني أشكو إليك،
وعائشة رضي الله عنها في نفس الحجرة تسمع بعض كلام خولة ويخفى عليها بعضه،فما بَرِحَتْ خولةُ حتى نزل جبريل بهذه الآيات (قد سمع الله. . .) [المجادلة: 1]
روى النسائي وصححه الألباني عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ الْأَصْوَاتَ، لَقَدْ جَاءَتْ خَوْلَةُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَشْكُو زَوْجَهَا، فَكَانَ يَخْفَى عَلَيَّ كَلَامُهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا غن الله سميع بصير} [المجادلة: 1] " الْآيَةَ ورواه البخاري ج9/ ص 117
• لما انتهت معركة بدر وقتل من المشركين من قتل، جلس صفوان بن أمية وعمير بن وهب تحت جدار الكعبة، فقال صفوان بن أمية: قبَّح الله العيش بعد قتلى بدر، قال عمير: أجل والله ما في العيش خير بعدهم ولولا دَيْنٌ علي لا أجد له قضاء وعيالا لا أدع لهم شيئا لرحلت إلى محمد فقتلته،
ففرح صفوان بقول عمير وقال له: أما دينك فعلي قضاؤه وأما أولادك فأولادي فاذهب،
فذهب عمير حتى إذا صار على باب المدينة لقيه عمر بن الخطاب فأمسك به وقيده بحِمالَةِ سيفه وقال: عدو الله عمير؟! ما جاء إلا لشر
ثم ذهب به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال له يا رسول الله هذا عمير بن وهب ما جاء إلا لشر، فقال له رسول الله فك قيده يا عمر، ففك عمر قيده وأقبل رسول الله على عمير وقال له: ما الذي جاء بك يا عمير؟ قال: جئت أفك أخاً لي في الأسر، قال له: ولماذا أنت متقلدٌ سيفك؟ قال: قبحها الله من سيوف وهل أغنت عنا شيئاً يوم بدر؟ قال: اصدقني القول يا عمير ما الذي جاء بك؟ قال: ما جئت إلا لذاك. قال: «فما الذي شرطت لصفوان بن أمية في الحِجْرِ» ففزع عمير وقال: ماذا شرطتُ له؟ قال: «تحملت له بقتلي على أن يعول بنيك ويقضي دينَك، والله حائل بينك وبين ذاك» ، قال عمير: أشهد أنك رسول الله وأشهد أن لا إله إلا الله، كنا يا رسول الله نكذبك بالوحي وبما يأتيك من السماء، وإن هذا الحديث كان بيني وبين صفوان بالحجر كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يطلع عليه أحد غيره وغيري، فأخبرك الله به فآمنت بالله ورسوله، والحمد لله الذي ساقني لهذا المساق ففرح به المسلمون حين هداه الله وقال عمر: والذي نفسي بيده، الخنزير كان أحب إلي من عمير حين طلع، ولهو أحب إلي الآن من بعض بَنِيَّ) ذكرته هنا مختصراً، والحديث بكامله في المعجم الكبير للطبراني ج 17/ رقم 119
• عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ، فَقَالَ: " إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَنَامُ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النُّورُ - وَفِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ: النَّارُ - لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ ".رواه مسلم /179
• ( الله لا إله إلا هو الحيُّ القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم..)البقرة 255
2- عقيدة المؤمن في الملائكة تجعل ضميره حياً:
حين يعتقد المؤمن بأن الله خلق ملائكة ووكلهم بعباده، فهم قريبون منهم، يحصون عليهم أعمالهم، يسمعونهم ويرونهم، يتعاقبون فيهم، يصعدون إلى الله ويخبرونه بأعمالهم، يحفظونهم من بين أيديهم ومن خلفهم،
حين يعتقد ذلك فإن ضميره يكون في حياةٍ دائماً وفي صحوٍ أبداً.
(وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ* يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ *) الإنفطار 10 -12
(إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ *) ق 17-18
(وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ )(يونس21)
(أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ * أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ*) (الزخرف79-80)
يكتبون الصغيرة والكبيرة في سجلات لا يمحوها مرور الزمن، ولا يؤثر فيها نسيان صاحبها لها، ويجد فيها صاحبها ما كان يحسبه هينا وهو عند الله عظيم،
(وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) (الكهف49)
(وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا *اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا *)الإسراء 13-14
(يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (المجادلة 6)
(لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) الرعد 11
(وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (الأنعام61)
3 - عقيدة المؤمن في اليوم الآخر تجعل ضميره حياً:
عقيدة المؤمن باليوم الآخر وما فيه من حشر ونشر وعرض على الله، ومن ميزان وصحف، ومن صراط سيمشي عليه، ومن جنة أعدها الله للمتقين، ومن نارٍ أعدها للكافرين والعاصين، كل هذا يجعله حيَّ الوجدان صاحي الضمير.
وهنا نضرب بعض الأمثلة التي ذكرها الله في كتابه، وهي أعمال ما كان أصحابها ليقوموا بها لولا إيمانهم بالله واليوم الآخر، منها:
• ما الذي حمل المعتدة على أن لا تكتم ما في رحمها إن كانت حاملاً – مع عدم علم أحد بها- إلا إيمانها بالله واليوم الآخر(وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) (البقرة 228)
• لا يجوز لولي المراة أن يمنعها من مراجعة زوجها بعد طلاقها إذا تراضيا (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) البقرة 232
وقد روى الحسن في سبب نزول هذه الآية أن معقل بن يسار زوج أخته من رجل من المسلمين، فكانت عنده ما كانت، فطلقها تطليقة ثم تركها ومضت العدّة، وكانت أحق بنفسها، فخطبها مع الخُطَّابِ، فرضيت أن ترجع إليه، فخطبها إلى معقل، فغضب معقل، وقال: أكرمتك بها، فطلقتها؟! لا والله! لا ترجع إليك آخر ما عليك. قال الحسن: فعلم الله، عزّ وجلّ، حاجة الرجل إلى امرأته، وحاجة المرأة إلى بعلها، فنزلت هذه الآية، فسمعها معقل، فقال: سمعاً لربي، وطاعة، فدعا زوجها، فقال: أزوجكَ، وأكرمكَ).زاد المسير /ص37
إنه ما كان لمعقلٍ أن يرجع أخته إلى زوجها لولا إيمانه بالله واليوم الآخر الذي أحيا ضميره.
• إيمانهم بالله واليوم الآخر جعلهم يسارعون في الخيرات،
( يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ) (آل عمران114)
• وهؤلاء يدفعهم الإيمان بالله واليوم الآخر للصدقة والإنفاق،
(وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (التوبة99)
• وعدم ظلم الرجل لزوجته إن أمسكها أو طلقها لا يكون لولا إيمانه بالله واليوم الآخر،
( فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ..) الطلاق2
• والمؤمن لا يدفعه إلى الجهاد والذود عن الحرمات وبذل روحه إلا إيمانه بالله واليوم الآخر،
( لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ* إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ*) ( (التوبة44-45)
• إذا علم العبد أن في ذلك اليوم توزن الأعمال من خير وشر، من حسنات وسيئات، بميزان إلهي دقيق عادل فإن ذلك يوقظ ضميره ويدفعه إلى عمل الخير والابتعاد عن الشر وهو حرٌ مختارٌ
(وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) (الأنبياء47)
(وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ*) (الأعراف 8-9)
( زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَ ٰتِ مِنَ ٱلنِّسَآءِ وَٱلْبَنِينَ وَٱلْقَنَـٰطِيرِ ٱلْمُقَنطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلْفِضَّةِ وَٱلْخَيْلِ ٱلْمُسَوَّمَةِ وَٱلْأَنْعَـٰمِ وَٱلْحَرْثِ ۗ ذَ ٰلِكَ مَتَـٰعُ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا ۖ وَٱللَّهُ عِندَهُۥ حُسْنُ ٱلْمَـَٔابِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍۢ مِّن ذَ ٰلِكُمْ ۚ لِلَّذِينَ ٱتَّقَوْا۟ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّـٰتٌۭ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلْأَنْهَـٰرُ خَـٰلِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَ ٰجٌۭ مُّطَهَّرَةٌۭ وَرِضْوَ ٰنٌۭ مِّنَ ٱللَّهِ ۗ وَٱللَّهُ بَصِيرٌۢ بِٱلْعِبَادِ *ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ إِنَّنَآ ءَامَنَّا فَٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ * ٱلصَّـٰبِرِينَ وَٱلصَّـٰدِقِينَ وَٱلْقَـٰنِتِينَ وَٱلْمُنفِقِينَ وَٱلْمُسْتَغْفِرِينَ بِٱلْأَسْحَارِ ) (آل عمران: 14 - 17).
(أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ *وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ * إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ *) (العاديات 9-11)
(يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ *فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ*) الطارق 9-10
• عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ، يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: الإِمَامُ العَادِلُ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي المَسَاجِدِ، وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ، أَخْفَى حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ " رواه البخاري /660 ومسلم/ 1031
• هذه هي الثمرات الأخلاقية للإيمان، وهذه هي صفات المؤمن التقي الذي آثر ما عند الله على شهوات الحياة:
خشيةٌ من الله وحرصٌ على رضاه ومغفرته، وصبر وصدق وقنوت وإنفاق، بلا ادعاء ولا غرور، بل شعور بالتقصير، يجعله يستغفر الله على كل حال.
4 - صور من أثر الإيمان في الضمير:
أ- في أداء الحقوق المالية:
تفرض القوانين التي وضعها البشر لأنفسهم، أو يضعها لهم جماعة منهم ضرائب على أهل المال منهم لقاء ما تقدم لهم الدولة من خدمات، وأداء لما يجب عليهم من مشاركة في أعباء الأمة وواجباتها، ولكنا نجدهم يتهربون من أدائها بكل وسيلة، ويتحايلون على التخلص من التزامها بكل سبيل!!
وازن هذا بالزكاة في الإسلام، تلك الضريبة التي فرضها الإيمان عبادة على المسلم، يتقرب بها إلى مولاه، ويقدمها طيب النفس، راضي القلب، داعياً ربه "اللهم اجعلها مغنماً ولا تجعلها مغرماً" محاولاً أن تكون من أطيب ما عنده وأفضله، يحاسب نفسه قبل حساب جباتها -العاملين عليها- وقد يبذل أكثر مما يطلب منه موقناً أن ما عنده ينفد وما عند الله باق.
• عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم مصدقاً -أي جابيا للزكاة- فمررت برجل، فلما جمع لي ماله -من الأنعام- لم أجد عليه فيه إلا ابنة مخاض. فقلت له: أد ابنة مخاض، فإنها صدقتك..
فقال: ذاك ما لا لبن فيه ولا ظهر (أي لا يقدر أن يركب ويحمل عليه) ولكن هذه ناقة فتية عظيمة سمينة فخذها.
فقلت له: ما أنا بآخذ ما لم أؤمر به، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم منك قريب، فإن أحببت أن تأتيه فتعرض عليه ما عرضت علي فافعل .. فإن قبله منك قبلته، وإن رده عليك رددته.
قال: فإني فاعل.
فخرج معي، وخرج بالناقة التي عرض على حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: يا نبي الله: أتاني رسول ليأخذ مني صدقة مالي وأيم الله ما قام في مالي رسول الله ولا رسوله قط قبله، فجمعت له مالي، فزعم أن ما علي فيه ابنة مخاض، وذاك ما لا لبن فيه ولا ظهر، وقد عرضت عليه ناقة فتية عظيمة ليأخذها فأبى علي. وها هي ذي .. قد جئتك بها يا رسول الله. خذها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذاك الذي عليك، فإن تطوعت بخير أجرك الله فيه وقبلناه منك.
قال: فها هي ذي يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد جئتك بها فخذها.
قال: فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبضها .. ودعا في ماله بالبركة. (رواه أبو داوود/ 1583 وحسنه الألباني).
ب- في الانتصار على الأنانية:
غريزة الأنانية أو حب الذات غريزة عاتية جبارة، لا يكاد يخلو بشر من سلطانها عليه، وقوة دفعها له، وتوجيهها لسلوكه. وأنك لترى الناس تدفعهم الأنانية إلى التنافس على الدنيا ومتاعها، ويدفعهم التنافس إلى التنازع والاختصام، ويدفعهم ذلك إلى ادعاء ما ليس لهم، وجحود ما عليهم من حق، وأكل أموال الناس بالباطل، وعندما يطل شيطان الخصومة برأسه لا يكون إلا حب الغلب بأي ثمن، وأية وسيلة.
ولكن عنصر الإيمان إذا دخل المعركة أطفأ لهب الخصومة، فصارت نارها برداً وسلاماً، وحطم طغيان الأنانية فاستحالت تسامحاً وإيثاراً، وحلق بالمؤمن من المتاع الأدنى إلى المثل الأعلى.
• وفي القصة التي روتها أم سلمة زوج الرسول مثل واضح على مبلغ أثر الإيمان: رجلان يختصمان في مواريث وليس لهما بينة إلا دعواها، كلاهما يقول: هذا حقي، وينكر على صاحبه أن يكون له حق .. ويحتكم الرجلان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي صدر كل منهما فرديته وأنانيته، فيصدع الرسول آذانهما وقلبيهما بهذه الكلمات الحية:"إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض. فأقضي له على نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فلا يأخذ منه شيئاً فإنما أقطع له قطعة من النار".(صحيح البخاري)
سمع الرجلان المختصمان هذه الكلمات الهادرة، فلمست أوتار الإيمان من صدريهما، وأيقظت فيهما خشية الله والدار الآخرة، فبكى الرجلان، وقال كل منهما لصاحبه: حقي لك!
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أما إذ فعلتما ما فعلتما فاقتسما وتوخيا الحق، ثم استهما. ثم تحالا" (أي ليحل كل منكما صاحبه وليسامحه فيما عسى أن يكون حقه). (أخرجه أبو داود وأحمد وغيرهما، وحسنه الألباني في إرواء الغليل برقم /1423، ، وقوله صلى الله عليه وسلم: إنما أنا بشر ... إلى قوله من النار، رواه البخاري ومسلم)
هنا كانت كلمة الإيمان، وكلمة الضمير الذي أيقظه الإيمان، هي القول الفصل، والقضاء العدل في قضية يعجز القانون المجرد، والقضاء الظاهر، عن معرفة الحق فيها مادام الطرفان متنازعين، ولا بينة لأحدهما.
جرة ذهب:
قص النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه قصة رجلين مؤمنين، ضربهما مثلاً لما يجب أن يكون عليه المؤمنون من العفاف والزهد والإيثار قال صلى الله عليه وسلم : "اشترى رجل من رجل عقاراً له، فوجد الرجل الذي اشتري العقار في عقاره جرة فيها ذهب، فقال للذي اشترى العقار منه: خذ ذهبك عني، إنما اشتريت منك الأرض ولم ابتع منك الذهب.
فقال الآخر: إنما بعتك الأرض وما فيها!
قال صلى الله عليه وسلم: فتحاكما إلى رجل .. فقال الذي تحاكما إليه ألكما ولد؟
فقال أحدهما: لي غلام.
وقال الآخر: لي جارية.
فقال الحكم : أنكحوا الغلام الجارية: وأنفقوا على أنفسكم منه وتصدقا" رواه البخاري / 3472 ، ومسلم / 1721
ج – في الانتصار على الغريزة:
في الشباب تتجلى هذه الغريزة على أشدها، فالشباب شعلة متوهجة لعظم طاقته الحيوية، وقوة دوافعه النفسية، وقلة علمه وتجاربه في الحياة، بجانب أحلامه وخيالاته الكثيرة، فماذا يمنع الشاب الناضر الفتوة، القوى الغريزة أن يقضي شهوة جنسية مع امرأة لا تحل له إذا تيسرت له أسبابها، وتهيأت وسائلها دون خشية من عقاب أو قانون أو أعين الناس؟
لا شيء يمنعه إلا الإيمان .. هذا ما حدث ليوسف عليه السلام: شاب في ريعان الشباب، مكتمل الرجولة، رائع الفتوة، تدعوه إلى نفسها امرأة ذات منصب وجمال، ليست من عامة الناس ولكنها امرأة العزيز الذي هو في بيتها وهو عبدها وخادمها، والأبواب مغلقة، والسبل ميسرة، كما حكى القرآن: (وَرَ ٰوَدَتْهُ ٱلَّتِى هُوَ فِى بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِۦ وَغَلَّقَتِ ٱلْأَبْوَ ٰبَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ۚ) (يوسف: 23).
فماذا كان موقفه أمام هذا الإغراء، وتلك الفتنة التي تخطف الأبصار!
ألانت قناته فاستسلم وخان عرضاً اؤتمن عليه؟ كلا .. إنما قال: (قَالَ مَعَاذَ ٱللَّهِ ۖ إِنَّهُۥ رَبِّىٓ أَحْسَنَ مَثْوَاىَ ۖ إِنَّهُۥ لَا يُفْلِحُ ٱلظَّـٰلِمُونَ ) (يوسف: 23).
ولقد حاولت المرأة بكيدها ومكرها وبكل ما لديها من ألوان الإغراء والتهديد أن تذيب من صلابته وتضعضع من شموخه، وأعلنت ذلك لنسوتها في ضيق وغيظ: (وَلَقَدْ رَ ٰوَدتُّهُۥ عَن نَّفْسِهِۦ فَٱسْتَعْصَمَ ۖ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَآ ءَامُرُهُۥ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًۭا مِّنَ ٱلصَّـٰغِرِينَ ) (يوسف: 32).
ولكن الشاب يوسف اتجه إلى الله يسأله المعونة والعصمة: (رَبِّ ٱلسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَىَّ مِمَّا يَدْعُونَنِىٓ إِلَيْهِ ۖ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّى كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ ٱلْجَـٰهِلِينَ ) (يوسف: 33).
كانت فتنة بين ضمير المؤمن، ومغريات الإثم، ففشلت المغريات وانتصر الإيمان.
والغريزة من شأنها أن تطلب متنفساً، فإن طال حبسها خيف عليها الانفجار ما لم يحجزها سد الإيمان.
وهذه امرأة يغيب عنها زوجها فترة طويلة من الزمن، فتخيم عليها كآبة الوحشة، وتهجم عليها هواجس الوحدة، ويثور في عرقها دم الأنوثة، وينطق فيها صوت الغريزة فلا يصده إلا حاجز الإيمان، وفي جذع الليل باتت تنشد:
لقد طال هذا الليل واسود جانبه وأرقني أن لا حبيب ألاعبه
فوا الله لولا الله تخشى عواقبـه لحرك من هذا السرير جوانبه
د- في الاعتراف بالذنب و بالجريمة:
• قال تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (الأنفال 27)
نزلت هذه الآية في أبي لُبَابَةَ حين بعثَهُ الرسولُ صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظةَ لينزلوا على حكمِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فاستشارَ اليهودُ أبا لبابةَ – وكان حليفاً لهم – فأشارَ عليهم بالنزولِ على حكمِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ولكنه أشار بيدِهِ إلى حَلْقِهِ، أي أنَّهُ الذَّبْحُ.
ثم شعرَ أنَّه خانَ اللهَ ورسولَهُ، فَرَبَطَ نفسَه في ساريةِ المسجدِ تسعةَ أيامٍ لا يذوقُ طعاماً حتى تابَ اللهُ عليه، فأطْلَقَهُ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
• عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ رَجُلًا أَصَابَ مِنَ امْرَأَةٍ قُبْلَةً، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (أَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ، إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) [هود: 114] فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلِي هَذَا؟ قَالَ: «لِجَمِيعِ أُمَّتِي كُلِّهِمْ» رواه البخاري/526 ومسلم/2763
• عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: جَاءَ مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، طَهِّرْنِي، فَقَالَ: «وَيْحَكَ، ارْجِعْ فَاسْتَغْفِرِ اللهَ وَتُبْ إِلَيْهِ»، قَالَ: فَرَجَعَ غَيْرَ بَعِيدٍ، ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، طَهِّرْنِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَيْحَكَ، ارْجِعْ فَاسْتَغْفِرِ اللهَ وَتُبْ إِلَيْهِ»، قَالَ: فَرَجَعَ غَيْرَ بَعِيدٍ، ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، طَهِّرْنِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مِثْلَ ذَلِكَ حَتَّى إِذَا كَانَتِ الرَّابِعَةُ، قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ: «فِيمَ أُطَهِّرُكَ؟» فَقَالَ: مِنَ الزِّنَى، فَسَأَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَبِهِ جُنُونٌ؟» فَأُخْبِرَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَجْنُونٍ، فَقَالَ: «أَشَرِبَ خَمْرًا؟» فَقَامَ رَجُلٌ فَاسْتَنْكَهَهُ، فَلَمْ يَجِدْ مِنْهُ رِيحَ خَمْرٍ، قَالَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَزَنَيْتَ؟» فَقَالَ: نَعَمْ، فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ، فَكَانَ النَّاسُ فِيهِ فِرْقَتَيْنِ، قَائِلٌ يَقُولُ: لَقَدْ هَلَكَ، لَقَدْ أَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ، وَقَائِلٌ يَقُولُ: مَا تَوْبَةٌ أَفْضَلَ مِنْ تَوْبَةِ مَاعِزٍ، أَنَّهُ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَضَعَ يَدَهُ فِي يَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: اقْتُلْنِي بِالْحِجَارَةِ، قَالَ: فَلَبِثُوا بِذَلِكَ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً، ثُمَّ جَاءَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ جُلُوسٌ، فَسَلَّمَ ثُمَّ جَلَسَ، فَقَالَ: «اسْتَغْفِرُوا لِمَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ»، قَالَ: فَقَالُوا: غَفَرَ اللهُ لِمَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ تَابَ تَوْبَةً لَوْ قُسِمَتْ بَيْنَ أُمَّةٍ لَوَسِعَتْهُمْ» رواه مسلم /1695
- المرأة الغامدية:
وهذه امرأة أعرابية تعرف بالغامدية، تزني ويضطرب في أحشائها جنين من الزنا، فيأتي عليها ضميرها المؤمن -وقد ارتكبت الفاحشة سراً- إلا أن تتطهر منها جهاراً.
وجاءت رسول الله تقول له: إني قد زنيت فطهرني؟ فيردها الرسول فتأتي في الغد فتقول: يا رسول الله .. لِمَ تردني؟ لعلك أن تردني كما رددت ماعزاً .. فو الله إني لحبلى!!
فيقول لها: أما لا .. فاذهبي حتى تلدي.
وتذهب المرأة تنتظر الوضع، وتمضي عليها الأيام والأشهر دون أن تخبو جذوة ضميرها. فما أن ولدت حتى أتت بالصبي في خرقة، وقالت للرسول: ها قد ولدته.
قال لها: فاذهبي فأرضعيه حتى تفطميه.
وتعود المرأة إلى دارها ترضع ولدها، وتمضي مدة الرضاع -وهي في العادة حولان كاملان- أربعة وعشرون شهراً لم يستطع اختلاف الليل والنهار فيها أن ينسي المرأة ما ارتكبت من خطيئة.
وبغير إعلان من محكمة، ولا تنبيه من حاكم، ولا حراسة من شرطي ترجع المرأة إلى رسول الله طائعة مختارة، لتلقى مصيرها الذي رضيته لنفسها فتقدم إليه الصبي وفي يده كسرة من الخبز، وتقول: هذا يا نبي الله قد فطمته، وقد أكل الطعام.
ولم يجد النبي بداً بعد هذا أن أمر بها، فحفر لها إلى صدرها، وأمر الناس فرجموها. فأقبل خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها فنضح الدم على وجه خالد، فسبها .. فسمع نبي الله سبه إياها .. فقال: "مهلا يا خالد، فو الذي نفسي بيده، لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدت توبة أفضل من أن جادت بنفسها لله تعالى!" (القصة رواها مسلم /1695).
هـ- في السياسة والحكم:
في مجال السياسة والحكم -وهو المجال الذي يغري بالحيف والغرور والطغيان- قص علينا التاريخ أمثلة شامخة لخلفائنا المهديين، في العدالة الكاملة التي لا تتحيز لقريب أو تتحيف على عدو، وفي المساواة القانونية التي لا تعرف الفوارق، وفي الزهد الذي يعرض عن الدنيا وفي يده البيضاء والصفراء، والقوة والسلطان. لقد كان "الضمير" المؤمن هو الذي يحكم ويسود، فسادت الفضيلة وسادت العدالة والمساواة، ذلك الضمير الذي جعل خليفة كعمر يدخل حائطاً لقضاء حاجة فيسمعه أنس يقول:(عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بَخٍ بَخٍ وَاللَّهِ بُنَيَّ الْخَطَّابِ وَاللَّهِ لَتَتَّقِيَنَّ اللَّهَ أَوْ لَيُعَذِّبَنَّكَ). ذم الهوى لابن الجوزي /41
• وَعَنْ الشَّعْبِيّ قَالَ: وَجَدَ عَليُّ بْنُ أَبي طَالِبٍ دِرْعَهُ عِنْدَ رَجُلٍ نَصْرَانِيّ فَأقْبَلَ بِهِ إلى شُرَيْحٍ يُخَاصِمُهُ قَالَ فَجَاءَ عَلِيُّ حَتَّى جَلَسَ إلى جَنْبِ شُرَيْحٍ قَالَ يَا شُرَيْحُ لَوْ كَانَ خَصْمِيْ مُسْلِمَاً مَا جَلَسْتُ إلا مَعَهُ وَلَكِنَّهُ نَصْرَانِيٌّ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا كُنْتُمْ وَإيَّاهُمْ في طَرِيْقٍ فَاضْطرُّوْهُمْ إلى مَضَايِقِهِ وصَغِّرُوْا بِهِمْ كمَا صَغَّرَ اللهُ بِهِم مِنْ غَيْرِ أنْ تَطْغَوْا ثمَّ قَالَ: هَذَا الدِّرْعُ دِرْعِىْ وَلَمْ أَبعْ وَلَمْ أهَبْ.فَقَالَ شُرَيْحٌ لِلنَّصْرَانِيّ مَا تَقُولُ فِيمَا يَقُولُ أَمِيرُ المُؤمِنينَ فَقَالَ النَّصْرَانِيّ مَا الدِّرْعُ إلاّ دِرْعِيْ، وَمَا أميْرُ المُؤمِنينَ عِنْدِيْ بِكاذِبٍ فَالْتَفَت شُرَيْحٌ إلى أميْرِ المُؤمنينَ عَلَىّ بْنِ أِبيْ طَالِبٍ فَقَالَ لَهُ هَلْ مِنْ بَيِّنَةٍ فَضَحِكَ عَلِيٌّ رَضَيَ اللهُ عَنْهُ، وَقَالَ أصَابَ شُرَيْحٌ مَالِي فَقضَى شُرَيْحٌ بِهَا لِلنَّصْرَانِيّ.
قَالَ فَأَخَذَهُ النَّصْرَانِيّ وَمَشىَ خُطاً ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ أمَّا أَنَا فَأَشْهَدُ أنَّ هَذِهِ أَحْكَامُ الأنْبِيَاءِ، أمِيْرُ المُؤمِنِيْنَ يُدْنْيِنْي إلى قَاضِيْهِ يَقْضِيْ عَلَيْهِ؟ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إلَهَ إلاَ اللهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُولُه، الدِّرْعُ وَاللهِ دِرْعُكَ يَا أَمِيْرَ المُؤمنْينَ، اتَّبَعْتُ الجَيْشَ وأنْتَ مُنْطَلِقٌ إلى صِفِينَ فَخَرَجَتْ مِنْ بَعْيِركَ الأَوْرَقِ فَقَالَ أمَّا إذَا أسلَمْتَ فهِيَ لَكَ، وَحَمَلَهُ عَلَى فَرَسٍ.
من كتاب موارد الظمآن لدروس الزمان /40
و- في رعاية القوانين والأمانات:
عن الفضيل بن عميرة قال: قدم على عمر بن الخطاب وفد من العراق فيهم الأحنف بن قيس في يوم صائف شديد الحر، وعمر مُعْتَجِرٌ (معمم بعباءة), يَهْنَأُ بعيرًا من إبل الصدقة (أي يطليه بالقطران) فقال: يا أحنف ضع ثيابك، وهلم، فأعن أمير المؤمنين على هذا البعير فإنه إبل الصدقة، فيه حق اليتيم، والأرملة، والمسكين، فقال رجل من القوم: يغفر الله لك يا أمير المؤمنين، فهلا تأمر عبدًا من عبيد الصدقة فيكفيك؟ فقال عمر: وأي عبد هو أعبد مني، ومن الأحنف؟ إنه من ولي أمر المسلمين يجب عليه لهم ما يجب على العبد لسيده في النصيحة، وأداء الأمانة.مسند الفاروق لابن كثير 1/250
• عمر بن عبد العزيز وهو يلي أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم في يوم من الأيام، ويفيء الله على المسلمين فيئاً وهذا الفيء تفاح، فأراد أن يقسمه على الرعية، وبينما هو يقسم هذا التفاح إذ امتدت يد صبي من صبيانه -طفل صغير- فأخذ تفاحة ووضعها في فمه، فما كان من عمر إلا أن أمسك بفيه وأوجع فكيه، واستخرج التفاحة من فمه وردها بين التفاح، والطفل يبكي -ابن عمر يبكي- ويخرج ويذهب إلى أمه يذكر لها الحادثة.
فترسل غلاماً من البيت ليشتري لهم تفاحاً و عمر بن عبد العزيز يقسم الفيء على المسلمين وينسى نفسه فلم يأخذ تفاحة واحدة، ويذهب إلى البيت فيشم رائحة التفاح في بيته، فيقول: [[ من أين لكم هذا و والله ما جئتكم بتفاحة واحدة؟ ]] فأخبرته الخبر، قالت: جاء ابنك يبكي، فأرسلت الغلام وجاء له بهذا التفاح، قال: [[ يا فاطمة ! والله لقد انتزعت التفاحة من فمه وكأنما أنتزعها من قلبي، لكني والله كرهت أن أضيع نفسي بتفاحة من فيْء المسلمين يأكلها قبل أن يقسم الفيء)
عمر يعسُّ المدينة:
• ذات ليلة خرج عمر بن الخطاب -رضى اللَّه عنه- مع خادمه أسلم ليتفقد أحوال المسلمين في جوف الليل، وفى أحد الطرق استراح من التجوال بجانب جدار ، فإذا به يسمع امرأة تقول:قومى إلى ذلك اللبن فامذقيه (اخلطيه) بالماء . فقالت الابنة: يا أُمَّتَاه، وما علمتِ ما كان من عَزْمَة ( أمر ) أمير المؤمنين اليوم ؟!قالت الأم: وما كان من عزمته ( أمره )؟ قالت: إنه أمر مناديًا فنادي: لا يُشَابُ (أي لا يُخلط ) اللبن بالماء. فقالت الأم: يا بنتاه، قومى إلى اللبن فامْذقيه بالماء فإنك في موضع لا يراك عمر، ولا منادى عمر. فقالت الصبيّة: واللَّه ما كنت لأطيعه في الملأ وأعصيه في الخلاء، إن كان عمر لا يرانا، فرب أمير المؤمنين يرانا.
عمر والراعي:
(قال عبد اللّه بن دينار: خرجت مع عمر بن الخطّاب- رضي اللّه عنه- إلى مكّة فعرّسنا في بعض الطّريق فانحدر عليه راع من الجبل، فقال له: يا راعي، بعني شاة من هذه الغنم؟ فقال: إنّي مملوك، فقال: قل لسيّدك: أكلها الذّئب؟ قال: فأين اللّه؟
قال: فبكى عمر- رضي اللّه عنه- ثمّ غدا إلى المملوك فاشتراه من مولاه، وأعتقه وقال: أعتقتك في الدّنيا هذه الكلمة وأرجو أن تعتقك في الآخرة)