مقدمة:
أمر الله عز وجل عباده بالتّوبة والاستغفار، مِن جميع الذّنوب والأوزار، ليكونوا مِن عباده الأخيار الأبرار {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُم} [التّحريم: 8].
وقد أوضح رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كلّ إنسانٍ معرّضٌ للوقوع في الخطأ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ، فَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ).
ولعلّ الحكمة في ذلك أن يتعرّف النّاس على ضعفهم، ويشعروا باحتياجهم إلى ربّهم وخالقهم، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا، لَذَهَبَ اللهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللهَ، فَيَغْفِرُ لَهُمْ).
وإنّ الغفران مِن الله جل جلاله: أن يصون الرّبّ عز وجل عبده مِن أن يمسّه العذاب، والاستغفار مِن العبد: طلبه ذلك من الله سبحانه، ولقد أمر الله رسوله أن يخبر العباد عن عظيم رحمته، وسعة مغفرته، فقال: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الحجر: 49].
فهو خلقهم ويعلم ضعفهم، ولذا فتح لهم باب الرّجاء في عفوه ومغفرته، وأمرهم أن يلجؤوا إلى ساحات كرمه وجوده، طالبين تكفير السّيّئات، وغفران الخطيئات، واستمطار الرّحمات، وإنّ مِن رحمة الله بعباده، أنّ الكافر إذا آمن وتاب، ورجع وأناب، وأخلص الإيمان لله، قبله ربّه ومولاه {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38].
وفي بيان ثواب المستغفرين يقول تعالى: {أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} [آل عمران: 136].
فما أعظمه مِن جزاءٍ! وما أجزله مِن عطاءٍ! وإذا كثر الاستغفار مِن الأمة، وصدر عن قلوبٍ مخلصةٍ، دفع الله عز وجل عنها النِّقم والشّرور العامّة، وبدّل الله سبحانه القحط إلى خيرٍ عميمٍ، ورزقٍ وفير {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33].
فلنستعمل الدّواء للتّخلص مِن الدّاء.
1- بالاستغفار: تُجلَب الخيرات، وتُدفع المكروهات
إنّ المستغفرين محلّ رعاية الله سبحانه، وأهلٌ لأن يحفظهم ويرحمهم، وقد أثنى الله جل جلاله على عباده المتّقين المحافظين على الاستغفار وقت السّحر خاصّةً، ففيه يكون الاستغفار والدّعاء أرجى للقبول، لأنّها لحظاتٌ يتجلّى فيه الرّب الغفّار، على عباده الأبرار الأخيار، {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} [آل عمران: 16-17].
قاموا باللّيل والنّاس نائمون، فكساهم مِن نوره، وأكرمهم بمغفرته، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (يَنْزِلُ اللهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَأُعْطِيَهُ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ؟ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ).
وقد بلّغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر ربّه لأمّته {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [هود: 3].
وإنّ مِن ثمرات الاستغفار وبركاته: أن يكون سببًا في أن يمتّع الله عز وجل المستغفرين بالمنافع، مِن سعة الرّزق ورغد العيش، ولا يستأصلهم بالعذاب كما فعل بالأمم الّتي طغت وبغت، بل الاستغفار مع الإقلاع عن الذّنوب سببٌ للخصب والنّماء، ولكثرة النّسل، وزيادة العزّة والمنعة، فقد قال تعالى على لسان نوحٍ: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح: 11-12].
وبه تُستجلب الرّحمات والبركات، فها هو صالحٌ يطلب مِن قومه ذلك: {قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النّمل: 46].
وبه تكثر الأرزاق، وتُفرَّج الكربات، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ لَزِمَ الِاسْتِغْفَارَ، جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا، وَمِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا، وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ).
وبالاستغفار الصّادق يغفر لك الخالق، عَنْ أَسْمَاءَ بْنِ الْحَكَمِ الْفَزَارِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا رضي الله عنه يَقُولُ: وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ وَصَدَقَ أَبُو بَكْرٍ، أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (مَا مِنْ عَبْدٍ يُذْنِبُ ذَنْبًا، فَيُحْسِنُ الطُّهُورَ، ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، إِلَّا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ)، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ.
2- الاستغفار: دَيدن الرُّسل، والملائكة الأطهار
لقد كان مِن مِنّة الله عز وجل على آدم وحوّاء أن ألهمهم الاستغفار، بعد الخطأ الأوّل الّذي صدر منهم، ليغفر لهم، ولتتعلّم منهم البشريّة ذلك {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 37].
وماهي إلّا كلمات ندمٍ وطلبٍ للمغفرة {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23].
ولقد كان مِن دعوات إبراهيم له وللمؤمنين: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم: 41].
وخاتم الأنبياء محمّدٌ صلى الله عليه وسلم امتثل أمر ربّه ولزم الاستغفار، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ مُنْذُ نَزَلَ عَلَيْهِ {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ} يُصَلِّي صَلَاةً إِلَّا دَعَا -أَوْ قَالَ- فِيهَا: (سُبْحَانَكَ رَبِّي وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي).
وإنّ مِن محبّة الملائكة المقرّبين للمؤمنين، وولائهم لهم، استغفارهم لهم، ويا له مِن شرفٍ عظيمٍ حظي به المؤمنون {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر: 7].
قال مطرّف بن عبد الله: "وجدنا أنصح عباد الله لعباد الله هم الملائكة، ووجدنا أغشّ عباد الله لعباد الله هو الشّيطان، وتلا هذه الآية".
وقال خلف بن هشام: "كنت أقرأ على سُليم بن عيسى: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} فبكى، ثمّ قال: يا خلف: ما أكرم المؤمن على الله! نائمًا في فراشه، والملائكة يستغفرون له".
وهذا لِمَا اطّلعوا على ما يقع مِن العباد مِن نقصٍ وخروقٍ في الطّاعات، مع ما يفعلونه مِن المنكرات، ولمّا كان هذا الاستغفار معبّرًا عن محبّة الملائكة للمؤمنين وولائهم لهم، كان جديرًا بالمؤمنين أن يقتدوا بهم، ويتبادلوا الولاء والمحبّة فيما بينهم، ويدعو بعضهم لبعضٍ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (مَنِ اسْتَغْفَرَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ حَسَنَةً).
خاتمةٌ:
الحقّ الّذي لا مرية فيه: أنّ ما أصاب المسلمين مِن ذلٍّ وهوانٍ، ما هو إلّا بسبب الذّنوب والمعاصي، فهي الّتي أورثت التّنازع والاختلاف، وهي سببٌ لتسلّط الظّالمين والكافرين، وكلّ ما يُذكر مِن أسباب التّخلّف والضّعف، وقلّة البركة، وجفاف الأرض؛ فمردّه إلى المعصية، لأنّ أمر المسلمين لا يصلح إلّا بطاعة الله عز وجل، ولا يُهزَم المسلمون إلّا بمعصيته، وإذا كانت معصيةٌ واحدةٌ في غزوة أُحدٍ، أورثت ذلًّا بعد عزٍّ، وحولّت المعركة مِن نصرٍ إلى هزيمةٍ، فكيف بمعاصٍ لا تُعدّ ولا تحصى، تمتلئ بها أعمالنا وبيوتنا وأسواقنا! فكم في المسلمين مِن معاصٍ سياسيّةٍ واقتصاديّةٍ، واجتماعيّةٍ وأخلاقيّةٍ! كم فيهم مِن ظلمٍ وعدوانٍ، وبخسٍ للحقوق، وتضييعٍ للأمانات، وتركٍ للواجبات، وانتهاكٍ للمحرّمات، فإنّ الواحد لو أحصى ذنوبه في يومه وليلته، سواءٌ فيما يتعلّق بحقّ ربّه سبحانه، أو حقّ نفسه، أو حقوق الآخرين، مِن والدٍ ووالدةٍ، وزوجٍ وولدٍ، وذي رحمٍ وجوارٍ، وحقوق وظيفته وعمله، وحقوق رعيّته وأمّته، لو أحصى ذلك كلّه لعلم أنّ ذنوب يومٍ واحدٍ كفيلةٌ بحجب نصر الله، وتنزّل عقوبته، وتسلّط أعدائه، فكيف إذا عدّها في عامٍ كاملٍ، ثمّ جمع معها ذنوب إخوانه المسلمين!
حقًّا: إنّها الذّنوب الّتي توجب الذّلّ، وتسبّب التّنازع والفشل، وتؤدّي إلى الضّعف والعجز، ولنقرأ سياق الآيات في مصاب المسلمين في أُحدٍ وأسبابه، لنتعرّف أثر المعصية على الأفراد والأمّة، وهذا المعنى قد قُرّر في غير الحديث عن أُحدٍ في عددٍ مِن الآيات {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشّورى: 30].
وإنّنا إذا عرفنا الدّاء فإنّه يجب علينا اتّخاذ الدواء؛ لنُشَفى مِن الدّاء، وما علاجنا إلّا بالعودة الصّادقة إلى ربّنا جل جلاله، والنّصر لدِيننا، أفرادًا وجماعاتٍ، شعوبًا وحكوماتٍ، تائبين آيبين، نادمين مستغفرين، لتنهلّ علينا الخيرات، وتُدفَع عنّا العقوبات.
http://shamkhotaba.org