مِعراج الرُّوح
الكاتب : رابطة خطباء الشام
الأربعاء 20 نوفمبر 2024 م
عدد الزيارات : 100
مقدمة:
ليلة المعراج هي إحدى اللّيالي العظيمة والمباركة في تاريخ أمّتنا، تحمل في طيّاتها أحداثًا جسيمةً وتجارب عميقةً، تبدأ القصّة عندما أُسري بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم مِن المسجد الحرام في مكّة إلى المسجد الأقصى في القُدس. 
بعد وصوله إلى المسجد الأقصى، صلّى النبي صلى الله عليه وسلم إمامًا بالأنبياء، ممّا يُظهر مكانته العظيمة بين الأنبياء والرّسل، ومِن هناك بدأت رحلة المعراج، حيث عُرج بالنّبيّ إلى السّماوات العُلى، برفقة جبريل.
وبعد أن وصل النّبيّ  صلى الله عليه وسلم إلى السّماء السّابعة وصل إلى مكانٍ لم يصل إليه مخلوقٌ مِن قبل، ورأى مِن آيات ربّه الكبرى، في هذا المكان تلقّى النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمر الصّلاة مِن الله تعالى، في البداية فُرضت خمسون صلاةً في اليوم، لكنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم عاد مرارًا وتكرارًا إلى الله جل جلاله يطلب تخفيف عدد الصّلوات، حتّى أصبحت خمس صلواتٍ في اليوم، مع بقاء أجر خمسين صلاةً، هذه الرّحلة المباركة تحمل العديد مِن الدّروس والعِبر، وأبرزها: أهمّيّة الصّلاة في حياة المسلم، فالصّلاة هي الرّكن الثّاني مِن أركان الإسلام، وهي الصّلة المباشرة بين العبد وربّه، تذكّرنا رحلة المعراج بأهمّيّة الصّلاة كفريضةٍ أساسيّةٍ؛ تُغذّي الرّوح وتُقوّي الإيمان.
لقد ضحّى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم تضحياتٍ جسيمةً في سبيل الدّعوة إلى الله سبحانه، ومشى إلى الطّائف وعاد منها دامي القدمين، فلا تعجب إذ قلاه أهل الأرض أن يحلّ ضيفًا على أهل السّماء، وقد يروق لك حلوله ضيفًا هناك، فترجوه لنفسك، وهذا وإن بدا محالًا مِن جانبٍ، إلّا أنّه يبدو واقعيًّا تمامًا عندما نستحضر الصّلاة الّتي فُرضت في المعراج، كأنّه قيل لنا: عُرج بنبيّكم، فإن شئتم أن تعرجوا فدونكم معراجًا لأرواحكم، لكن عليكم أن تضحّوا قبل العُروج، قوموا فتطهّروا مِن ذنوبكم، وأسبغوا الوضوء على المكاره -وإن وجدتم برد الماء- تُفتح لكم أبواب السّماء.
1- الله أكبر
التّأمّلات في أذكار الصّلاة تكشف عن العُمق الرّوحيّ لتلك الأذكار، فكل ذِكرٍ مِن أذكار الصّلاة يحمل معاني ساميةً، ويؤدّي دَورًا مهمًّا في تعزيز الإيمان والصّلة بالله عز وجل، فالتّكبير هو بداية كلّ صلاةٍ؛ بقول "الله أكبر"، هذا الذِّكر يُعلن بوضوحٍ أنّ الله سبحانه هو الأكبر والأعظم مِن كلّ شيءٍ في هذا العالَم، التّكبير يُذَكِّر المسلم بأنّ كلّ شيءٍ في الحياة -بكلّ تعقيداته وأهمّيّته- يخضَعُ لعظمة الله جل جلاله وقدرته، قال تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185].
وعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطُّهُورُ، وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ، وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ). سنن أبي داود: 61
هذا يُظهِر أهمّيّة التّكبير كمدخلٍ لكلّ صلاةٍ.
ثمّ بعد دعاء الاستفتاح سورة الفاتحة، الّتي تُعتبر ركنًا أساسيًّا في كلّ صلاةٍ، فهي السّورة الّتي لا تتمّ الصّلاة بدونها، 
عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ). صحيح البخاريّ: 756
والفاتحة سبع آياتٍ تُلخّص معاني العبوديّة والحمد والدّعاء، تبدأ السّورة بعد البسملة بحمد الله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، ليستحضر المسلم مع حمد الله سبحانه نِعمه العظيمة الّتي تحيط به مِن كلّ جانبٍ، وتستمرّ بذِكر رحمة الله عز وجل وعظمة ملكه: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}، ثمّ تتناول الاعتراف بعبادة الله وحده وطلب الاستعانة به: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، وتختتم السّورة بالدّعاء لله بالهداية للطّريق المستقيم: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 1-7].
فقراءة الفاتحة تُعزّز الوعي بالهدف الأسمى مِن الحياة، وهو عبادة الله جل جلاله.
ثمّ بين تكبيرات الانتقال التّسبيحُ، وهو ذِكر الله بقول: "سبحان الله"، ويُقال في الرَّكوع والسّجود، والتّسبيح يعني تنزيه الله عز وجل عن كلّ نقصٍ وعيبٍ، وهو تعبيرٌ عن التّواضع والاعتراف بعظمة الله وكماله، قال تعالى: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر: 24].
وعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (أَحَبُّ الْكَلَامِ إِلَى اللهِ أَرْبَعٌ: سُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ. لَا يَضُرُّكَ بِأَيِّهِنَّ بَدَأْتَ). صحيح مسلمٍ: 2137
فالتّسبيح يُعزِّز شعور العبد بوجود الله سبحانه، ويُذكِّره بأنه متصفٌ بالكمال. 
2- التَّحيَّات لله
الصّلاة -بأفعالها وأذكارها- تُعدُّ رحلةً روحانيّةً تربط المسلم بربّه عز وجل، وتُهذّب النّفس، وتزيد مِن الإيمان، تتضمّن الصّلاة أفعالًا محدّدةً تُعزّز مِن حالة الخشوع والانضباط، دعونا نتأمّل في بعض الأفعال الرئيسيّة للصلاة وما تحمله مِن معانٍ روحانيّةٍ:
الوقوف بين يدي الله جل جلاله في الصّلاة يعكس استقامة المسلم في عبادته، فالوقوف يمثّل الاحترام والاهتمام، ويُذكّر المسلم بأنّه في حضرة الله العظيمة، قال تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238].
الوقوف بين يدي الله جل جلاله يجسّد الالتزام والتّفاني في عبادة الله، ويجعل المسلم يتوجّه بكلّ قلبه وروحه إلى ربّه سبحانه.
والرّكوع هو أحد أفعال الصّلاة الّتي تُظهر التّواضع والاعتراف بعظمة الله، في الرّكوع يَحني المسلم ظهره حتّى يستوي، ويضع يديه على ركبتيه قائلًا: "سبحان ربّي العظيم"، هذه الحركة تعكس خضوع الإنسان واستسلامه لقدرة الله، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: كَشَفَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم السِّتَارَةَ وَالنَّاسُ صُفُوفٌ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ: (أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ مُبَشِّرَاتِ النُّبُوَّةِ إِلَّا الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ، يَرَاهَا الْمُسْلِمُ، أَوْ تُرَى لَهُ، أَلَا وَإِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا، فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ عز وجل، وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ، فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ). صحيح مسلم: 479
الرّكوع يُربي النّفس على التّواضع وينقّي القلب مِن الكِبر.
والسّجود هو قمّة الخشوع والقُرب مِن الله عز وجل في الصّلاة، حيث يضع المسلم جبينه على الأرض؛ تعبيرًا عن أقصى درجات التّواضع والعبوديّة، في الّسجود يقول المسلم: "سبحان ربّي الأعلى"، قال تعالى: {كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19].
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ، وَهُوَ سَاجِدٌ، فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ). صحيح مسلمٍ: 482
السّجود يعزّز الشّعور بالتّواضع والانكسار أمام عظمة الله، ويقرّب المسلم مِن ربّه جل جلاله.
ثمّ التّحيات في نهاية كلّ صلاةٍ، تشمل قول المسلم: "التّحيات لله، والصّلوات والطّيّبات، السّلام عليك أيّها النّبيّ ورحمة الله وبركاته، السّلام علينا وعلى عباد الله الصّالحين"، التّحيّات تحمل معاني الثّناء والتّبجيل لله، وتذكّر المسلم بأهمّيّة السّلام والدّعاء للنّبيّ صلى الله عليه وسلم، وللصّالحين مِن عباد الله، ولنستحضر أنّه صلى الله عليه وسلم يردّ السّلام علينا.
تليها الصّلوات الإبراهيميّة: "اللهم صلِّ على محمّدٍ وعلى آل محمّدٍ، كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنّك حميدٌ مجيدٌ"، هذه الصّلاة تعزّز الرّوابط بين المسلمين وأنبياء الله، وتجعلهم يستحضرون تضحياتهم.
خاتمةٌ:
الصّلاة تُشكّل ركيزةً أساسيّةً في حياة المسلم، وبدون التّأمل في أفعالها وأذكارها قد تفقد جزءًا كبيرًا مِن تأثيرها الرّوحي والنّفسي؛ لذا دعونا نتأمّل في أفعال وأذكار الصّلاة بعمقٍ؛ لننتفع منها، فتنهانا عن الفحشاء والمنكر.
يطلب الأنبياء مِن ربّهم سبحانه ما يزيد يقينهم به، فهذا إبراهيم يطلب مِن ربّه أن يريه كيف يحيي الموتى، وهذا موسى يطلب مِن ربّه أن يراه، ولم يؤثَر عن نبيّنا صلى الله عليه وسلم أنّه طلب المعراج، لكنّه عُرج به، ويجدر بمَن آمن بهؤلاء الأنبياء أن يجعل مِن كلّ صلاةٍ درجةً يرتقي بها يقينه وإيمانه، فمع كلّ سجودٍ قربٌ؛ فاسجد {وَاقْتَرِبْ}
فإذا سجدت أكثر مِن سجودٍ فقد آن لك أن تحيّي الرّبّ سبحانه، وكأنّك دخلت حضرته، فتقول "التّحيات لله". يختار الخطيب مِن صيغ الأذكار ما يناسب مذهب المصلّين، إذ تختلف صيغة التّحيات بين مذهب وآخر، فلا يتشوّش المصلّون
ثم تسلّم على رسول الله صلى الله عليه وسلم -الذي اختار الرّفيق الأعلى يوم توفّي- فيردّ عليك، وتسلّم كذلك على سائر عباد الله الصّالحين، وهناك في حضرة الرّبّ لا تخرج وتسلّم قبل أن تسأل ربّك، فقبل السّلام يُشرع لنا أن ندعو الله سبحانه، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيق رضي الله عنه، قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلاَتِي، قَالَ: (قُلِ اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مِنْ عِنْدِكَ مَغْفِرَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ). صحيح البخاريّ: 7387
وهناك في حضرة الرّبّ -بعد معراجك الرّوحيّ المبارك- تذكّر الأرض الّتي عَرج منها الرّسول الكريم صلى الله عليه وسلم، فخُصّ أهلها بدعواتك، فإنّه أهون الواجب وأقلّه، ثمّ سلّم، وبعد السّلام استحضر أنّه تمّ ردّ التّحيّة عليك، فقل: "اللّهمّ أنت السّلام ومنك السّلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام"، ولا تقم مِن مجلسك قبل أن تستغفر وتقرأ آية الكرسيّ والمعوّذتين وتسبّح وتحمد وتكبّر، فبهذه الأذكار يكتمل معراجك.
 

http://shamkhotaba.org