مقدمة:
يقول الله تبارك وتعالى: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 129].
ويقول سبحانه مذكِّرًا بنعمته علينا: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال: 26].
ويقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: (وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا).
إنّ مِن أعظم نِعم الله تعالى على الإنسان أن يؤمّنه مِن الخوف، وأن يرفع عنه عنتَ الظلم، وأن يحقّق له آماله في الانتقام مِن الظّالمين، وأن يُبعد عنه كيد الكائدين.
وقد رزقنا الله تعالى نِعمة النّصر والفرَج، وأيّدنا على عدوّنا؛ فأصبحنا ظاهرين، وأهلكَه لينظر كيف نعمل في الأرض، فمِن أوجب الواجبات علينا أن نشكر هذه النِّعمة العظيمة لله تعالى، وأن نعلم أنّ ما رزقنا الله إيّاه فإنّه بفضله ورحمته، ومِن المطلوب مِن المسلم أن يفرح بفضل الله تعالى ورحمته لعباده، وأن يدرك أنّ التعامل مع هذه النِّعمة بالحفظ والصّيانة هو الذي يزيدها وينمّيها، قال سبحانه: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7].
إنّنا في هذه الأيّام نفرح بنصر الله لنا وبخِزي أعدائنا، والواجب علينا في هذا الفرح ألّا نعتدي فيه، فمَن دعتهُ قوّته إلى ظُلم النّاس فهو الضّعيف، ومَن استقوى بالسّلاح على النّاس مجرمٌ مخطئٌ، ومَن اعتدى على شخصٍ ما -وإن كان المعتدَى عليه مجرمًا- يكون مجرمًا مثله، فلا ننشر الإشاعات ولا نروّجها، ولا نسمح بتصوير الوقائع الفرديّة المؤذية والمشوِّهة، فهذه الحوادث لا يخلو منها جيلٌ ولا عصرٌ، بل ننشر الصّور المشرقة الكثيرة، الّتي تبثّ الطّمأنينة وتولِّد الحالة الإيجابيّة، وذلك لأنّ القضاء على الفوضى لا يكون بين لحظةٍ وأخرى، بل هي معركةٌ مضنيةٌ، تحتاج جهود كلّ القادرين.
الحمد لله تِه شامي بلا أسدِ بلا اعتقالٍ بلا سجنٍ بلا كمدِ
الحمد لله رَوض الشَّام تجمعنا أخزيتَ فرعونها يا خير معتَمدِ
1- ثمرات التَّضحية
إنّنا امتحنّا وابتلينا في دِيننا وأنفسنا وأموالنا، فنالنا مِن جنس ما نال الأنبياء مِن الابتلاء، قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214].
هاجر منّا مَن هاجر فرارًا بدِينه وعِرضه، واستجابةً لأمر الله تعالى في كتابه: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النّساء: 97].
فوجدوا في مهاجرهم مراغمًا كثيرًا وسعةً، ولقي بعض مَن هاجر في الهجرة الأولى ربّه في ديار هجرته، فوقع أجره على الله، كما قال سبحانه: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النّساء: 100].
وسيعود آخرون مِن أبنائهم وأحفادهم إلى هذه الدّيار بعد أن طهّرها الله مِن رجس الظالمين.
قُتل منّا مَن قُتل، فلقي ربّه صابرًا محتسبًا، مقبلًا غير مدبرٍ، في معركةٍ مِن أعظم معارك الأمّة عبر التّاريخ، منهم مَن قُتل بالقصف، ومنهم مَن قُتل بالبرد، ومنهم مَن قُتل بالغرَق، ومنهم مَن قُتل في ساحات الشّهادة والفِداء والتّضحية، فلقي ربّه شهيدًا، ادّخرهم آباؤهم عند الله شهداء، وأودعت أمّهاتهم حبّات قلوبهنّ في هذه الأرض، وودّعت حرائرنا أزواجهنّ إلى جنّات الخُلد، وواللهِ لا يخيّبُ الله شعبًا بذل أرواحه ومُهجَه في سبيله وانتصارًا لدِينه.
2- مصرع الظَّالمين فرحةٌ للمؤمنين
إنّ التخلّص مِن الظّلم فرحةٌ كبرى، فكيف إذا كان الظّالم يجتهد في حرف هويّة الأمّة، ويبذل وسعه في نشر الكفر والعياذ بالله تعالى، فيسبّ زبانيته وضبّاطه الكبار الدِّين والرّبّ، ويقتدي بهم غير قليلٍ مِن عامّة النّاس مِن المفتونين بهم أو المنتفعين منهم، كيف إذا كان الظّالم يمنعنا مِن صِلة أرحامنا، ويغيّبنا في السّجون؟ كيف إذا كان الظّالم يعتدي على الأنفس والأموال، ويستهين بالدّماء والأعراض؟ كيف إذا كان الظّالم يحمي حِمى الصّهاينة المعتدين، ويذود عن حدودهم؟
إنّنا نفرح بنعمة الله علينا مع كلّ ما لاقيناه في فترة الثّورة المباركة، فإنّنا ننظر إلى تلك الابتلاءات كلّها أنّه نِعمٌ مِن الله تعالى، شهداؤنا شفعاؤنا عند الله، مغفورٌ لهم بإذن الله، أيتامنا أسبابٌ للقُرب مِن حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم، أراملنا أبوابٌ للتّقرّب إلى الله تعالى بصِلتهم والإحسان إليهم، مهجّرونا مهاجرون صابرون مقتدون بسنّة الحبيب الأعظم وأصحابه؛ حين حثّهم على ترك وطنهم واللّجوء إلى ملكٍ لا يُظلم عنده أحد، مَن قُطع طرفه فقد سبقه إلى الجنّة، ومَن أصابته شوكةٌ كُتبت له بها حسنةٌ، فأيّ نِعمةٍ أكبر مِن ذلك!
3- نصرٌ يوجب علينا الشُّكر والعمَل
إنّ النصر الكبير والفتح العظيم الّذي كتبه الله تعالى على أيدي ثلّةٍ مخلصةٍ مِن أبناء هذا الوطن مكتوبٌ في صحيفة كلّ أبٍ ربّى أبناءه على الثّورة على الظّالمين وإعلاء قيمة العدل في نظره، والتّحاكم إلى مبادئ الحقّ في واقعه، هذا النّصر مكتوبٌ في صحائف كلّ أمٍّ لم تمنع ولدها مِن الخروج للمظاهرات، في صحيفة كلّ مَن حفظ العهد؛ عهد الثّورة والدِّين، مكتوبٌ في صحيفة كلّ شيخٍ كان يجهر بكلمة الحقّ لطلّابه، نصرُنا في صحيفة كلّ شابٍ بذل مِن وقته أو ماله أو ضحّى بنفسه في سبيل الله تعالى.
وإنّ هذا النّصر بشرى عظيمةٌ مِن الله تعالى، فيه تذكيرٌ بالمعاني العظيمة الّتي كنّا نردّدها مؤمنين بها، لكن لم نتوقّع أن تكون بهذه الطّريقة وهذه السّرعة، فأدهشنا الله تعالى بعطائه، وأكرمنا بفضله، وهو مقدّمةٌ لانتصاراتٍ أُخرى؛ في مجالات التّنمية والبناء وتطوير التّعليم والحِفاظ على كرامة المواطن ونبذ الرّشوة ومنع الوصاية وإنهاء الطّائفيّة، وهو فرصةٌ كبيرةٌ ليمارس المسلم دَوره الأهمّ الّذي يستحقّ بسببه الخيريّة لهذه الأمّة، ألا وهو: النّصح للمسلمين، وعدم ترك مَن يريد أن يخرق السّفينة يعيث فيها فسادًا، فإنّنا كلّنا في سفينةٍ واحدةٍ، إن خرَق واحدٌ منّا نصيبه غرقت سفينة الوطن كلّه، وإن أخذنا على يد مَن يريد إغراقها نجى هو ونجونا جميعًا، كما أخبر النّبيّ النّاصح لأمّته صلى الله عليه وسلم.
خاتمةٌ:
إنّ مِن واجبنا الآن أن نكون شركاء في بناء هذا الوطن، لننجح فيه كما نجحنا في الثّورة على الظّالم، وبناء الوطن مهمّة كلّ واحدٍ منّا، ليس مهمّة فريقٍ ولا مجموعةٍ ولا طائفةٍ ولا فرقةٍ، بناء الأوطان خدمةٌ للنّاس، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟ وَأَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللهِ تَعَالَى أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ تَعَالَى سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ تَكَشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا، أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا).
فمَن نفع النّاس كُتب مِن خيرهم.
إنّ بناء الأوطان لا يحتاج إلى تولّي مسؤوليّةٍ ولا منصبٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ).
كلّكم راعٍ مسؤولٌ: الرّجل راعٍ، والمرأة راعيةٌ، الفقير راعٍ، والغنيّ راعٍ، الكبير راعٍ، والشابّ راعٍ، فلا تتركوا واجبًا سيسألكم الله تعالى عنه، انظروا فيما حولكم مِن المهامّ المتروكة، ليبحث كلّ واحدٍ منكم عن دَوره الممكن له، الّذي لا يقوم به غيره، فيبادر إلى إرضاء الله تعالى بخدمة عباده، وإنّ تحميل شباب الثّورة الّذين كتب الله على أيديهم هذا الفتح ما لا تستطيعه الدُّول المتقدّمة المستقرّة تفشيلٌ وتثبيطٌ، فلا ينبغي لنا أن نسهم في ذلك أبدًا.
http://shamkhotaba.org