مقدمة:
العبادة لله سبيل الكمال، وطريق الهدى بعد الضّلال، تزيد بها النّعم، وتُدفع بها النّقم، وتُنال بها السّعادة، وتحصل بها السّيادة، ويتحقّق بها التّمكين في الأرض {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النّور:55].
وإنّ مِن أعظم الأُعطيات، وأشرف المقامات، أن يُوَفَقّ الإنسان للعبوديّة الحقّة، فينال شرفًا وعزًّا، ورفعةً وتكريمًا.
وممّا زادني شرفًا وتِيهًا وكدت بأخمصي أطأ الثّريّا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيّرت أحمد لي نبيًّا
فإذا أقبل المسلم على عبادة الله الطّوعيّة، الّتي مُزجت بالمحبّة القلبيّة، وكان أساسها المعرفة اليقينيّة، أفضت به إلى السّعادة الأبديّة، ولكم يطرب القلب، وتُشنّف الأذن، وينشرح الصّدر، وتسمو الحياة، حين يطرق السّمع وصف الله عز وجل لخلقه: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت: 56].
فتنزل السّكينة على القلوب لسماعها، فتأمن مِن الخوف، وتأنس مِن الوحشة، ويشعر المؤمنون بأنّ ربّهم قريبٌ منهم، يسمع نجواهم، ويقضي حوائجهم، ويستجيب دعاءهم {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186].
والعبوديّة اسمٌ جامعٌ لكلّ ما يحبه الله و يرضاه، مِن الأقوال والأعمال الظّاهرة والباطنة، ومِن لوازمها التّوكّل على الله جل جلاله، والاعتماد عليه، وحقيقتها الافتقار المطلق لله سبحانه في كلّ حالٍ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15].
وبهذا يتجرّد الإنسان مِن حظوظ نفسه وشهواته، ويقبل بكلّيّته إلى ربّه، متذلّلًا بين يديه، مستسلمًا لأمره ونهيه {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162].
وإنّ العبوديّة الخالصة لله هي عين الحريّة والكرامة، فهي الّتي تعتق القلب مِن رقّ المخلوقين، وتحرّره مِن الذّلّ والخضوع لكلّ ما سوى ر بّ العالمين جل جلاله، فمَن عبد الله وحده لم يُستَعبد إلّا له.
1- العبوديَّة اختيارٌ أو اضطرارٌ
إنّ العبادة الّتي أمر الله سبحانه عباده بتحقيقها، وكلّفهم بالتزامها، تبتدئ بتوحيد الله عز وجل، ومعرفة أركان الدِّين، والعمل على إقامتها بصدقٍ وإخلاصٍ، وإتقانٍ وإحسانٍ {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البيّنة: 5].
وإنّ أعظم ما يُوصف به الإنسان أن يكون عبدًا لمولاه، ومِن أجل ذلك خلق الله الخلق، واصطفى الرّسل، وأنزل الكتب، وارتضى العبوديّة للكمَّل مِن خلقه، وشرّفهم بها، حيث جعلها للملائكة المقرّبين، وللأنبياء والمرسلين، ولسائر عباده المؤمنين {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [النّساء: 172].
فلم تتكبّر الملائكة عن أن يكونوا عبادًا لله {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ} [الأنبياء: 19].
وكذا الأنبياء والمرسلون قاموا بأمره، ودعوا إلى دِينه {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} [ص: 45].
وأثنى على خاتم الرّسل محمّدٍ صلى الله عليه وسلم بالعبوديّة في أشرف المقامات ذِكرًا، فامتنّ عليه بأعظم كتابٍ وأصدقه {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا} [الكهف: 1].
ولمّا أثنى على مَن كمل إيمانهم مِن بين سائر النّاس، صدّر ذلك بقوله: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63].
وهذه العبوديّة حقٌّ لله على عباده، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (يَا مُعَاذُ: أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ؟)، قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: (أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، أَتَدْرِي مَا حَقُّهُمْ عَلَيْهِ؟) قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: (أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ).
وهي عبوديّةٌ خاصّةٌ بمَن أراد الله به خيرًا مِن عباده، وهي عبوديّة الطّاعة والمحبّة، والذّلّ والخضوع، واتّباع أوامره، واجتناب نواهيه، لا يستكبرون عن ذلك ولا يرفضونه، بل يرون أنّ ذلك أعظم نعمةٍ، وأشرف مقامٍ، وإلّا فالأصل أنّ كلّ مَن خلقهم الله هم عبيدٌ له، المؤمن منهم والكافر، حتّى فرعون وهامان وقارون وأبو لهبٍ، وسائر الكفّار هم عبيدٌ لله رغم أنوفهم {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 93].
لكنّهم أنفوا مِن ذلك واستكبروا، فكانوا عبيدًا لشياطينهم وأهوائهم، فإذا تقرّر ذلك فإنّ كل مخلوقٍ هو عبدٌ؛ شاء أم أبى، وليس في الوجود إلّا عبدٌ ومعبودٌ، خالقٌ ومخلوقٌ، فالخالق المعبود هو الله وحده، والمعبود المخلوق هو مَن سوى الله مِن الموجودات، ومَن رفض عبوديته لله فقد تكبّر عن عبادة الخالق المعبود، وانحرف إلى عبادة عبدٍ مخلوقٍ، حيث لا يمكن أن يكون المخلوق بلا عبوديّةٍ.
2- حرِّيَّةٌ متوهَّمةٌ
إنّ مِن النّاس مَن أعرض عن أوامر دِيننا الحنيف، وتذرّع بأنّها قيودٌ وتعقيداتٌ، وادّعى أنّه يطلب الحرّيّة المطلقة وقد وَهِم، وأصبح عبدًا لأهوائه وشياطينه، ويا ويله يرفض عبوديّته للخالق القادر، ويعطيها للمخلوق العاجز!
قال ابن تيمية: "إنّ الإنسان أمام طريقين لا ثالث لهما، فإمّا أن يختار العبوديّة لله، وإمّا أن يرفض هذه العبوديّة، فيقع -لا محالة- في عبوديّةٍ لغير الله".
وهذا المعنى واضحٌ وجليٌّ في قوله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس: 60-61].
فلا يوجد إلّا عبوديّتان، فإمّا عبوديّةٌ للرّحمن، وإمّا عبوديّةٌ للشّيطان، وليس هناك ما يسمّى حرّيّةً مطلقةً، ولو كانت لهم لتحكّموا في حياتهم، ولَدفعوا الضّرّ عن أنفسهم، ولكنّنا نراهم يمرضون ويخافون، ويجوعون ويحزنون، ثمّ يموتون ويُدفنون، ولا يقدرون على دفع المكاره، ولا ردّ المصائب، فأين هي الحرّيّة المطلقة إذا كانوا لا يملكون نفعًا ولا ضرًّا؟ وهل يملك الحرّيّة في نفسه مَن أمره بيد غيره، ولا يملك مِن أمر حياته وموته، وفقره وغناه قيد شعرةٍ؟
وقد أثبت الإسلام أنّ للإنسان حرّيّةً ضمن ضوابط معيّنةٍ {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا} [البقرة: 256].
ولكنّ دعاة الحرّيّة أبَوا إلّا أن يقصروها على تحطيم معتقدات المسلمين وثوابتهم {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة: 16].
فتراهم يشكّكون في المسلّمات، تحت شعار حرّيّة الفكر والرّأي والثّقافة، ويدمّرون الضّوابط الأخلاقيّة باسم الحرّيّة الشّخصيّة، كما أمْلَتها عليهم أنظمة الفساد والإجرام، فكان مِن تمام العبادة الأخذ على يد الظّالم الفاجر الّذي شجّع على الحرّيّة الّتي تنشر رذائل الأخلاق، ولأجل هذا انتفضا الشّعوب المقهورة في وجه حكوماتها الظّالمة المستبدّة، مطالبةً بحرّيّتها المسلوبة المحقّة، وهي مدركةٌ لضريبة الثّورة على النُّظُم الجائرة، تضحيةً في سبيل الله، وأملًا في أن يختفي الباطل الّذي يحاول أن يُخرس أصوات الحرّيّة أينما وُجدت، وتعود الحياة إلى صفائها الأوّل، ليستقي منها الجيل القادم أسمى معاني الحرّيّة والحياة الكريمة، والعبوديّة الحقّة لله وحده.
خاتمةٌ:
مَن عرف نفسه حقّ المعرفة، وعرف ربّه بما هو أهله، تخطّى العثرات، وترفّع عن الدّنيّات، وسلك سُبل الهداية، وعبد الله كأنّه يراه، عبادة إيمانٍ وخضوعٍ، وإجلالٍ وخشوعٍ، ورهبةٍ ورغبةٍ، وعلم أنّ مولاه شرّفه إذ كلّفه بالعبادات، وجعله حرًّا مختارًا، وليس مُكرَهًا ولا مُجبرًا، و بيّن له طريق الهداية وطُرُق الغواية، وإنّ العبد الحقيقيّ إذا ما أنعم الله عليه بالدّنيا، في مالٍ أو جاهٍ، أو منصبٍ أو رئاسةٍ، قابل ذلك بالشّكر والعرفان، والتّواضع لربّ العالمين، وخفض جناحه لعباد الله المؤمنين، وسخّر نفسه لخدمة المخلوقين، ولم يخضع لأجل دُنيا أو مالٍ، أو شهوةٍ تفنى وتبقى حسراتها، وإنّ المؤمن الصّادق لَيعلم أنّ تمام الحرّيّة مِن تمام العبوديّة لله الواحد الأحد، ويشعر بتلك الحرّيّة الّتي كفلها الله للإنسان، وقيّدها بتكاليف شرعنا ودِيننا، كي لا تعمّ الفوضى حياة النّاس، حيث إنّ منهم مَن انحرف عن صراط الله المستقيم باسم الحرّيّة الشّخصيّة، واستكبر على أوامر ربّ العالمين، ومِن ثَمّ تَعَالى على عباد الله المؤمنين، وظلم المستضعفين، وليس هذا مِن صفات المؤمن الحقّ الّذي يستشعر المسؤوليّة، ويفهم الغاية الّتي خُلِق مِن أجلها، ويقبل على طاعة ربّه يزداد إيمانًا وعملًا صالحًا، فيرتقي بكرامته إلى أعلى مقامٍ وأشرف منزلةٍ، قدوته في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، إمام العابدين، وسيّد الطائعين، فقد كان كثير الخشية لربّه، لَهج اللّسان بذكره، أسوةً في نصرة الحقّ، وقوّة العزيمة، وعلوّ الهمّة، وثبات اليقين؛ بالتّضحية المُثلى، وبهذا مكّن الله له الدِّين، وجمع أتباعه بعد الفرقة، وأعزّهم بعد الذّلّة، فأصبحوا في الأرض سادةً، وفي العبادة قادةً، وأصبحت لهم الكلمة المطاعة، والرّاية الخفّاقة.
http://shamkhotaba.org