رمضان يدنو.. عمَّ نصوم؟ وبمَ ندعو؟
مقدمة:
دارت الأيّام دورتها، وعاد إلينا الضّيف الكريم، لكنّه يعود هذا العام والحال مختلفٌ أشدّ الاختلاف عن السّنة الماضية، ما أكثر ما عقد المصلّون أكفّهم في رمضان الماضي واقفين بين يدي ربّهم جل جلاله، ما أكثر ما قرنوها ورفعوها إلى السّماء داعين مبتهلين، وكان أكثر دعائهم أن يخلّصهم الله عز وجل مِن الطّاغية وجنده، وها هو الخلاص يحلّ ضيفًا كريمًا مع رمضان هذا العام.
ما أكثر ما سأل المصلّون الله سبحانه أن يحرّر إخوانهم الأسرى، ولم يكن العقل يومها يتخيّل طريقة تحريرهم، وها هم الأسرى اليوم أحرارٌ بفضل الله، يتسحّرون معنا ويفطرون ويقومون اللّيل.
ما أكثر ما رجا المصلّون الله جل جلاله أن يمنّ على إخوانهم في غزّة أن تنتهي حربهم، وها هم ولله الحمد يبادلون الأسرى في صفقةٍ مشرّفةٍ.
رمضان يضبط لنا بوصلة العام بأكمله؛ مِن خلال الدّعوات الّتي ندعو بها، إنّ هذا الدّعاء الرّمضانيّ الجماعيّ فيه بيانٌ لأولويات الجماعة المسلمة، ووفق هذه الأولويّات تعمل الجماعة طيلة عامها لتقترب مِن تحقيق المطلوب أو لتحقّقه، فدِيننا ليس دِين دعاءٍ فحسب، بل هو دعاءٌ وتوكّلٌ وأخذٌ بالأسباب، وربّ دعوةٍ دعونا بها زمانًا فتأخّر تحقّقها، فالواجب علينا حينها ألّا نيأس، بل نستمرّ بالدّعاء والعمل، فهذا إسقاط النّظام وتحرير الأسرى استغرق منّا سنواتٍ طويلةً، لكنّ الله سبحانه منّ به علينا في النّهاية.
وبناءً على ذلك: ما هي أهمّيّة الدّعاء في رمضان؟ وما هي الأدعية الّتي سنستقبل بها رمضان الحرّيّة؟ هل تحقّقت كلّ أهدافنا بإسقاط نظام الإجرام وإخراج المساجين وتوقّف الحرب على غزّة؟ أم ما زال لدينا مطلوباتٌ نطلبها مِن ربّ الأرض والسّماوات؟
1- مخُّ العِبادة
أنزل الله عز وجل على نبيّه آيات الصّيام، أمرهم فيها أن يصوموا كما صامت الأمم السّابقة رجاء أن يثمر الصّوم التّقوى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].
وخفّف جل جلاله عن أقوامٍ يثقل عليهم الصّوم كالمرضى والمسافرين {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 184-185].
لكنّ آيات الصّيام لم تنته إلّا ببيان فضيلة الدّعاء {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186].
وكأن هذه الآيات كما تبيّن علاقة رمضان بالقرآن، فإنّها تبيّن أنّ للدّعاء شأنٌ خاصٌّ في رمضان، وهذا الّذي أومأت إليه الآيات إيماءً، صرّحت به الأحاديث، ففي علاقة رمضان بالقرآن ورد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه، قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ القُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدُ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ".
وفي علاقة الصّيام بالدّعاء ورد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قُلْنَا يَا رَسُولَ اللهِ: مَا لَنَا إِذَا كُنَّا عِنْدَكَ رَقَّتْ قُلُوبُنَا، وَزَهِدْنَا فِي الدُّنْيَا، وَكُنَّا مِنْ أَهْلِ الآخِرَةِ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ فَآنَسْنَا أَهَالِينَا، وَشَمَمْنَا أَوْلاَدَنَا أَنْكَرْنَا أَنْفُسَنَا فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (لَوْ أَنَّكُمْ تَكُونُونَ إِذَا خَرَجْتُمْ مِنْ عِنْدِي كُنْتُمْ عَلَى حَالِكُمْ ذَلِكَ لَزَارَتْكُمُ الْمَلاَئِكَةُ فِي بُيُوتِكُمْ، وَلَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَجَاءَ اللَّهُ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ كَيْ يُذْنِبُوا فَيَغْفِرَ لَهُمْ) ثُمَّ قَالَ صلى الله عليه وسلم: (ثَلاَثٌ لاَ تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ، الإِمَامُ العَادِلُ، وَالصَّائِمُ حِينَ يُفْطِرُ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ يَرْفَعُهَا فَوْقَ الغَمَامِ، وَتُفَتَّحُ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَيَقُولُ الرَّبُّ عز وجل: وَعِزَّتِي لأَنْصُرَنَّكِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ).
وإذا كانت الجماعة المسلمة لها دعواتٌ جماعيّةٌ، فإنّ الأفراد كذلك لهم همومهم الخاصّة الّـي يناجون بها ربّهم في سجودهم، حيث يكونون قريبين منه سبحانه، وأدعية رمضان للفرد المسلم كذلك تضبط أولويّاته لعامه القادم، فما يدعو به ويلحّ عليه هي خطّته السّنويّة.
2- البُوصلة
الصّوم امتناعٌ في اللّغة، فعَمّ نمتنع؟ يقول الفقهاء: نمتنع عن المفطّرات مِن طعامٍ وشرابٍ وجماعٍ، وذلك مِن طلوع الفجر الصّادق إلى غروب الشّمس {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البقرة: 187].
لكنّ علماء القلوب يضيفون امتناعاتٍ أخرى يجعلونها صومًا للخواصّ، أمّا الامتناع أعلاه فصوم العامّة، وصوم الخاصّة أن يمنعوا قلوبهم عمّا لا يليق بقلب المؤمن، فتصوم قلوبهم عن الغلّ والحقد والحسد وسوى ذلك مِن أمراض القلوب، وقد مرّ بنا رمضان الفائت ونحن طلّاب حرّيّة، فكان لنا امتناعاتٌ تناسب تلك المرحلة، وها نحن نستقبل رمضان وقد نلناها ونسعى في بناء دولتنا، فعمّ سنمتنع؟ هل سنمتنع عن الأمراض الّتي تفتك بالدّول؛ كالرّشوة والمحسوبيّة وسوى ذلك؟ هل سنتمنع عن تقديس الأشخاص وقد ذقنا مِن ويلات ذلك ما ذقنا؟ وقد علمنا أنّ شريعتنا لا تحبّذ مديح الأشخاص في وجوههم لئلّا يغترّوا ويأخذهم الكبر، عنْ هَمَّامِ بْنِ الْحَارِثِ، أَنَّ رَجُلًا جَعَلَ يَمْدَحُ عُثْمَانَ، فَعَمِدَ الْمِقْدَادُ فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَكَانَ رَجُلًا ضَخْمًا، فَجَعَلَ يَحْثُو فِي وَجْهِهِ الْحَصْبَاءَ، فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ: مَا شَأْنُكَ؟ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِذَا رَأَيْتُمُ الْمَدَّاحِينَ، فَاحْثُوا فِي وُجُوهِهِمِ التُّرَابَ).
بل إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم -وهو المستحقّ للمدح بلا ريبٍ- أبى أن يتجاوزوا الحدّ في مدحه، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه: أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا مُحَمَّدُ يَا سَيِّدَنَا وَابْنَ سَيِّدِنَا، وَخَيْرَنَا وَابْنَ خَيْرِنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا بِقَوْلِكُمْ، وَلَا تَسْتَجْرِيَنَّكُمُ الشَّيَاطِينُ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، أَنَا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، وَمَا أُحِبُّ أَنْ تَرْفَعُونِي فَوْقَ مَنْزِلَتِي الَّتِي أَنْزَلَنِيهَا اللهُ).
وإنّ عدم امتداحنا لولاة الأمر لا يعني مناصبتهم العداء، بل هو مساعدةٌ لهم أن ينضبطوا بضوابط الإسلام في الولاية، فالنّفس بطبعها تحبّ المديح والعلوّ والانتفاخ، والحكّام والولاة بيدهم مِن السّلطات ما لو طغوا وتجاوزا الحدّ لألحقوا بالنّاس بالغ الأضرار، فعلينا أن نكون عونًا لهم على أنفسهم وعلى الشّيطان، بدل أن نعين أنفسهم عليهم {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [يوسف: 53].
خاتمةٌ:
غدًا في رمضان سنستيقظ في الثّلث الأخير مِن اللّيل فنصلّي وندعو ونتناول السّحور، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (يَنْزِلُ رَبُّنَا عز وجل كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي، فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ).
ونمتنع عمّا حرّم الله علينا سحابة نهارنا، وكذلك ندعو الله جل جلاله، فإذا كانت صلاة التّراويح دعونا الله سبحانه، فبم سندعو؟
سندعو لولاة أمرنا بعد أن كنّا ندعو عليهم، ففي رمضان الفائت كنّا ندعو أن يهلك الله أعداءنا الّذين تسلّطوا علينا باسم الولاية، واليوم سندعو أن يسدّد الله الولاة القائمين على الأمر، فهذا مِن حقّهم علينا، وإذا سبق أنّنا لا نمدحهم في وجوههم لنعينهم على أنفسهم، فإنّنا ندعو لهم كذلك لعلهم يستعينون بدعائنا.
سندعو لإخواننا في غزّة أن يعينهم الله ويصبّرهم على جهادهم، فقد انتهت جولةٌ وأمامهم جولاتٌ، وفي دعائنا سيعلم الله صدق نوايانا أن لو أتيحت لنا فرصة نصرتهم لن نتخلّف عنها، لأنّنا قومٌ لا نقتصر على الدّعاء.
سندعو أن يمكّن الله عز وجل لدولتنا فتنتصر على أعدائها الّذين ما زالوا في الدّاخل مِن فلول النّظام ومِن انفصاليّين.
سندعو أن يرزقنا الله تحرير الجولان المحتلّ، فإنّ وطننا إذا كان معظمه قد نال حرّيّته فإن جزءًا منه ما يزال يرزح تحت الاحتلال، وإذا كنّا قد انتهينا مِن الحرب مع وكلاء الصّهاينة فإنّ المواجهة القادمة مع الصّهاينة أنفسهم، فلنستعدّ لها بالدّعاء حتّى إذا اندلعت اندلعت ونحن على أهبة الاستعداد النّفسيّ لها، وبها ننصر أهلنا في غزّة قولًا وفعلًا.
http://shamkhotaba.org