صلاح المُجتمعات بمراقبة ربِّ السَّماوات
الكاتب : رابطة خطباء الشام
الخميس 24 أبريل 2025 م
عدد الزيارات : 156
مقدمة:
قال الله جل جلاله: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ} [سبأ: 2].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النّساء: 1].
خصلةٌ كريمةٌ مِن خصال أهل الإيمان، وصفةٌ نبيلةٌ مِن صفات مَن وصلوا إلى مقام الإحسان، وخُلقٌ مِن أخلاق عباد الرّحمن، إنّها صفة المراقبة، حيث توجب على الإنسان ملاحظة نفسه في أعمالها وأقوالها، وتحرّكاتها وخطراتها، ليقيمها صاحبها على الصّراط المستقيم، لأنّ إهمال ملاحظة النّفس يؤدّي بها إلى الفساد والطّغيان، فالمراقبة حالةٌ للقلب يُثمرها نوعٌ مِن المعرفة، فيستيقن بأنّ الله عز وجل مطّلعٌ على الضّمائر، رقيبٌ على السّرائر، عليمٌ محيطٌ، سميعٌ قريبٌ، قائمٌ على كلّ نفسٍ بما كسبت {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطّلاق: 12].
ومِن هذا نعلم أنّ فضيلة المراقبة أساسها القلب، وترتبط بالباطن أكثر ممّا ترتبط بالظّاهر، فهي قائمةٌ على استشعار العبد بجلال الله سبحانه وسلطانه، حتّى يصل هذا العبد إلى مقامٍ عالٍ؛ كأنّه يرى الله عز وجل فيه، والمرء لا يرى الله جل جلاله بباصرةٍ، وإنّما يرى جلاله بقلبه وشعوره ووجدانه، وعندئذٍ يقوم بما أُسند إليه مِن واجباتٍ على الوجه الأكمل، ويحفظ الأمانات، ويصون الحقوق، لأنّه يعلم بأنّ مآله إلى الله سبحانه، وأنّه محاسبٌ بين يدي خالقه ومولاه، و يا له مِن شعورٍ بصفةٍ تُنتج ثمراتٍ إيجابيّةً عمليّةً، تُنظّم حياة الأفراد والمجتمعات على حدٍّ سواءٍ، فما سُبل تحصيل المراقبة؟ وماهي ثمراتها في حياتنا؟
إذا ما خلوت الدَّهر يومًا فلا تقلْ    خلوتُ، ولكنْ قلْ عليَّ رقيبُ
ولا تحسبنَّ الله يُغفِلُ ما مضى    ولا أنَّ ما يخفى عليه يغيبُ
1- أهمِّيَّة المراقبة، وسُبل تحصيلها
تعني المراقبة دوام عِلم العبد بأنّ الله جل جلاله يراه، وأنّه يعلم سرّه ونجواه، وأنّه لا يخفى عليه شيءٌ مِن أمر دنياه أو أُخراه {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة: 7].
وتنشأ هذه المراقبة عن خشية العبد مِن جلال الله عز وجل، وعميق الشّعور بسلطانه، ولا يتحلّى بها إلّا المؤمنون الأخيار، ولا يتّصف بها إلّا الأبرار الأطهار، الّذين يعلمون أنّ الله سبحانه لهم بالمرصاد، وأنّهم سيقفون يوم الحساب، وسيطالَبون بمثاقيل الذّرّ مِن الخطرات واللّحظات، فيعلمون أنّه لا نجاة لهم مِن هذه الأخطار إلّا بلزوم المحاسبة، وصدق المراقبة، ومطالبة النّفس في الأنفاس والحركات، ولا تتجّلى هذه الصّفة في أنفسهم بقوّتها ومكانتها في يومٍ وليلةٍ، بل هي تنبثق وتنمو، وتزهر وتعلو، وتشرف وتسمو، بطول المجاهدة، وتكرار المحاولة، وقوّة القريحة في حمل النّفس على ما ينبغي لها ويليق بها، مِن تطهيرٍ وتصفيةٍ وتعليةٍ، ولذا كان أوّل درجات المراقبة هي علم القلب بقرب الرّبّ {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16].
وهذا القرب يستوجب اشتغال العبد بمَن قَرب منه وأحاط به، ومِن ثَمّ يتعرّف العبد على أسماء الله الحسنى، وصفاته العلى، الّتي مِن بينها اسم الله الرّقيب {كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة: 117].
فيوقن بأنّ الله سبحانه يراقب خلجات الفؤاد، فيكثر مِن ذِكر الله بقلبه ولسانه، ليجعل سدًّا قويًّا يحجزه عن المعصية، لا سيّما إذا علم بشهادة الجوارح في الآخرة {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [فصّلت: 20].
يشعر المسلم بوجود سلطةٍ ورادعٍ مِن الخوف مِن الله جل جلاله؛ فيجتنب كبائر الذّنوب، ويترك قبائح الأفعال {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} [النّجم: 32].
وإلّا فما الّذي يمنع المؤمن عن هذه الكبائر والفواحش غير خشيته مِن ربّه سبحانه، ورغبته في الأجر العظيم والثّواب الجزيل {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [الملك: 12].
ومِن هنا كانت المراقبة بمثابة جرسٍ يدقّ في داخله؛ يوقظ صاحبه مِن غفلةٍ، فيردّه عن ظلمٍ، وشرٍّ ضارٍّ، أو يدفعه لعملٍ صالحٍ، وخيرٍ نافعٍ.
2- التَّحلِّي بالمراقبة يرقى بالمجتمع
تسعى الأمم في كلّ زمانٍ نحو التّقدّم والرّقيّ، وتبذل ما في وسعها للوصول إلى سؤدد الحضارة والازدهار، فتقرّر القرارات، وتنزل أشدّ العقوبات، بمَن يقع في المخالفات، ظنًّا منها أنّها بهذه القوانين الوضعيّة تحقّق مبتغاها، وقد جهلت بأنّ الأمّة لن ترتقي وتنهض إلّا بالضّمائر الحيّة، والقلوب اليقِظة، والنّفوس المستشعرة برقابة مَن لا يغفل ولا ينام، وإنّ مراقبة الله واستشعار عظمته توجب إتقان العمل وإحسان الصّنعة، وهي سببٌ في الامتناع عن المعاصي والشّهوات، والفواحش والمنكرات، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: ... ‌وَرَجُلٌ ‌دَعَتْهُ ‌امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ). صحيح البخاريّ: 1357
ولقد عرض لنا القرآن قصّةً ميّز فيها بين الخائف مِن مقام ربّه، وبين الغافل البعيد عن هذا المقام {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 27-28].
فما امتنع الأخ عن قتل أخيه إلّا بسبب خوفه مِن الله عز وجل، ومراقبته لمولاه، ولأجل هذا -أيضًا- امتنع نبيّ الله يوسف رضي الله عنه مِن الفاحشة لمّا عرضت عليه {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ} [يوسف: 23].
فبالمراقبة تصلح حياة الخلق مع الله جل جلاله، ثمّ مع عباد الله جميعًا، فهي تدفع صاحبها إلى فعل الخير، واجتناب المحرّم، فلا نجد فسادًا ماليًّا أو خُلقيًّا، وتأمر بالعدل والإنصاف، فلا جَور ولا ظلم، وتجعل المسلم يشعر بإخوانه، فلا يشبع وجاره جائعٌ إلى جنبه، وبها تُصان الحقوق، وتُحفظ الدّماء والأعراض، وبدونها تُهمل الأعمال، وتسوء الأحوال، ويتيه النّاس عن الصّراط السّويّ، وتكثر ذنوب الخلوات، عَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: (لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، ‌فَيَجْعَلُهَا ‌اللَّهُ عز وجل ‌هَبَاءً ‌مَنْثُورًا) قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا، أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ، قَالَ: (أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا). سنن ابن ماجه: 4245
بل بغياب الرّقابة يسعى النّاس في الأرض فسادًا، ويعتدون على الأموال والممتلكات، ويسفكون الدّماء، مهما شدّدت الدّولة في القوانين والعقوبات على ارتكاب المخالفات، ووضعت أحدث الكاميرات.
خاتمةٌ:
ما أحوج أبناء المجتمعات إلى مراقبة ربّ الأرض والسّماوات، في كلّ الأوقات وجميع اللّحظات، حتّى يأخذوا حقّهم دون زيادةٍ، ويؤّدوا واجباتهم دون نقصانٍ، ويمتنعوا عن المنكرات والمخالفات، ويعيشوا بنورٍ مِن الإيمان، وهدًى مِن تقوى الرّحيم الرّحمن، التي أوصى بها ربّنا الحنّان المنّان الأولين والآخرين {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النّساء: 131].
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بملازمتها في كلّ وقتٍ وحينٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (‌اتَّقِ ‌اللهَ ‌حَيْثُمَا كُنْتَ، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ، وَإِذَا عَمِلْتَ سَيِّئَةً، فَاعْمَلْ حَسَنَةً تَمْحُهَا). مسند أحمد: 21536
ولا يصل العبد إلى ذلك إلّا إذا كان ضميره حيًّا، يبعث في القلب الجلال والهيبة، والتّعظيم والخشية، فيُعَظّم ربّه في فؤاده، وينظّم سلوكه في حياته، فتزكو نفسه، ويستقيم أمره، فيسعد في دنياه قبل النّعيم الأبديّ في أُخراه، فكم نحن بحاجةٍ إلى القاضي العادل، والموظّف الأمين، والتّاجر الصّدوق، والطّبيب الثّقة، والمعلّم الّذي يؤدّي واجبه، ولن نجد هؤلاء في مجتمعنا إلّا إذا كانت الضّمائر حيّةً، والقلوب مستيقظةً، وحيثما وُجدت المراقبة لله في مجتمعٍ ساده الأمان، وظهر فيه العدل والخير والإحسان، وانمحى منه الشّرّ والظّلم والطّغيان، وبذا يحصل التّمكين في الأرض {وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم: 14].
فلنستشعر رقابة الله في قلوبنا ونفوسنا، وسلوكنا وحياتنا، حتّى نستقيم على صراط ربّنا، ونهج حبيبنا، فتنهض أمّتنا، ويزدهر مجتمعنا، بعدما انتشر فيه الظّلم والبغي، واستفحل فيه الشّرّ والفساد، وكثر فيه سفك الدّماء، وقتل الأبرياء.
 

http://shamkhotaba.org