مقدمة:
إنّ مِن أهمّ وأعظم ما ينبغي أن يظلّ دائرًا على ألسنتنا، وحاضرًا في معاملاتنا وتصرّفاتنا هو العناية بدراسة معالم شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد تكاملت فيه الفضائل، وتنافست فيه المكارم، فتكوّنت الشّخصيّة المتكاملة، التي لا يطغى فيها جانبٌ على آخر، فلا تطغى شجاعته على كرمه، ولا حزمه على رحمته، وإنّما أخذ مِن كلّ شيءٍ أفضله وأوسطه، وأعطى لكلّ موقفٍ ما يناسبه ويلائمه.
وإننا لنجد في حياته صلى الله عليه وسلم أسوةً لنا في كل ميادين حياتنا، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].
ونختار اليوم جانبًا مِن شخصيته صلى الله عليه وسلم، نستقي منه ما نصلِح به أمورنا، ونسوِّي به أوضاعنا، ألا وهو الأساليب القياديّة في الشّخصيّة النّبويّة -وهي كثيرةٌ- إلّا أنّنا نقف اليوم مع آيةٍ واحدةٍ جمعت له صلى الله عليه وسلم أهم صفات القائد، ولعلّ ذلك مِن إعجاز القرآن الكريم، وهي قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159].
1- القيادة بالعفو والتَّسامح
لم تعرف البشرية أحدًا أرحم بعباد الله مِن رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، والناس في حاجةٍ إلى كنفٍ رحيمٍ، وإلى رعايةٍ فائقةٍ، وإلى بشاشةٍ سمحةٍ، وإلى ودٍّ يسعهم، وحِلمٍ لا يضيق بجهلهم وضعفهم ونقصهم.. في حاجةٍ إلى قلبٍ كبيرٍ يعطيهم ولا يحتاج منهم إلى عطاء، ويحمل همومهم ولا يعنيهم بهمّه، ويجدون عنده دائمًا الاهتمام والرّعاية والعطف والسّماحة والودّ والرّضاء.. وهكذا كان قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا كانت حياته مع النّاس، ما غضب لنفسه قطّ، ولا ضاق صدره بضعفهم البشريّ، ولا احتجز لنفسه شيئًا مِن أعراض هذه الحياة، بل أعطاهم كلّ ما ملكت يداه في سماحةٍ نديّةٍ، ووسعهم حِلمه وبرّه وعطفه وودّه الكريم صلى الله عليه وسلم، وما مِن واحدٍ منهم عاشره أو رآه إلا امتلأ قلبه بحبّه؛ نتيجةً لما أفاض عليه صلى الله عليه وسلم مِن نفسه الكبيرة الرّحيبة.
والأمثلة على ذلك كثيرةٌ، ويكفينا حديث أنسٍ رضي الله عنه قَالَ: (خَدَمْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَشْرَ سِنِينَ ، وَاللهِ مَا قَالَ لِي أُفًّا قَطُّ، وَلَا قَالَ لِي لِشَيْءٍ لِمَ فَعَلْتَ كَذَا؟ وَهَلَّا فَعَلْتَ كَذَا).
وممّا جاء في شمائله صلى الله عليه وسلم: أنّه كان أحلم في النّفار -الخصام- مِن كلّ حليمٍ، وأسلم في الخِصام مِن كلّ سليمٍ، وقد مُني بجفوة الأعراب فلم يوجد منه نادرةٌ، ولم يُحفر عليه بادرةٌ، ولا حليمَ غيره إلّا ذو عثرةٍ، ولا وقور سواه إلّا ذو هفوةٍ، فإنّ الله تعالى عصمه مِن نزغ الهوى وطيش القدرة بهفوةٍ أو عثرةٍ؛ ليكون بأمّته رؤوفًا، وعلى الخلق عطوفًا، وقد تناولته قريشٌ بكلّ كبيرةٍ، وقصدته بكلّ جريرةٍ، وهو صبورٌ عليهم ومعرضٌ عنهم، وما تفرّد بذلك سفهاؤهم دون حلمائهم، ولا أراذلهم دون عظمائهم، بل تمالأ عليه الجِلّة والدُّون -يعني: الشّرفاء فيهم والوضعاء- حتّى قُهر، فعفا وقدر فغفر، وقال لهم حين ظفر بهم عام الفتح وقد اجتمعوا إليه : (يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، مَا تَقُولُونَ؟) قَالُوا: نَقُولُ: ابْنُ أَخٍ، وَابْنُ عَمٍّ رَحِيمٌ كَرِيمٌ، ثُمَّ عَادَ عَلَيْهِمُ الْقَوْلَ قَالُوا مِثْلَ ذَلِكَ، قَالَ: (فَإِنِّي أَقُولُ كَمَا قَالَ أَخِي يُوسُفُ): {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُو أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}.
2- القيادة بالشُّورى
إنّ مِن أعظم الصّفات القياديّة في شخصيّة الرّسول صلى الله عليه وسلم -وكلّها عظيمٌ- أنّه كان كثيرًا ما يستشير أصحابه في الأمور المهمّة، فيأخذ بالرّأي السّديد والمنطق الرّشيد فيما لا وحي فيه؛ تعويدًا لهم على التّفكير بالمشاكل العامّة، وحرصًا على تربيتهم على الشّعور بالمسؤوليّة، ورغبةً في تطبيق الأمر الإلهيّ بالشّورى، وتعويد الأمّة على ممارستها، ومِن ذلك: مشورته لأبي بكرٍ وعمر رضي الله عنهما في أسرى بدر، وأخذه بمشورة سلمان الفارسيّ رضي الله عنه يوم الأحزاب بحفر الخندق، وبمشورة الحبّاب بن المنذر في بدرٍ بالنّزول في المكان المناسب، ومِن ذلك أنّه أخذ بمشورة زوجه أمّ سلمة رضي الله عنها، ففي الحديث: فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قَضِيَّةِ الْكِتَابِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِأَصْحَابِهِ: (قُومُوا فَانْحَرُوا ثُمَّ احْلِقُوا)، قَالَ: فَوَاللهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ، حَتَّى قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ، فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِيَ مِنَ النَّاسِ، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رضي الله عنها: يَا نَبِيَّ اللهِ، أَتُحِبُّ ذَلِكَ، اخْرُجْ ثُمَّ لَا تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً، حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ، وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ، فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ، نَحَرَ بُدْنَهُ، وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَامُوا فَنَحَرُوا وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا، حَتَّى كَادَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا غَمًّا.
ويُروى عن الحسن رضي الله عنه أنّه قال: "إنّ الله لم يأمر نبيّه بمشاورة أصحابه حاجةً منه إلى رأيهم، ولكنّه أراد أن يعرّفهم ما في المشورة مِن البركة، وقيل لرجلٍ مِن بني عبسٍ: ما أكثرَ صوابكم؟! قال: نحن ألفٌ وفينا حازمٌ واحدٌ، ونحن نشاوره ونطيعه، فصرنا ألف حازمٍ".
وقديمًا قالوا:
إذا بلغ الرّأي المشورة فاستعن برأي نصيحٍ أو نصاحة حازمِ
ولا تحسب الشّورى عليك غضاضةً فإنّ الخوافي رافدٌ للقوادمِ
3- القيادة بالحَزم
على الرغم مِن سماحته صلى الله عليه وسلم ورحمته، إلّا أنّ ذلك لا يعني أنّه يتوانى في أمرٍ قد عزم عليه، أو يتراخى في تطبيق شرع الله -وحاشاه صلى الله عليه وسلم أن يفعل ذلك- ولأنّ آراء الشّورى قد تكثر، فكان صلى الله عليه وسلم إذا تخيّر أمرًا مِن الأمور فإنّه يُقدم عليه، ولا يتردّد في ذلك، كما فعل في الخروج إلى أحد، أو في هدم مسجد الضّرار، وكذلك في قطع يد المرأة المخزوميّة، حيث ورد عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ، فَقَالُوا وَمَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالُوا: وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ؟) ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ، ثُمَّ قَالَ: (إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَايْمُ اللهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا).
فانظر حزم النّبيّ صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر، حتّى وصل به الأمر أن يُقسم، ثمّ يذكر ابنته في معرض القصّة، ممّا يدل على خطر الأمر، وأنّه لا يمكن أن يُتوانى في مثل هذا.
وهذه الثّلاثة -خروجه يوم أحد، وهدم مسجد الضّرار، وقصة المخزوميّة- وإنْ كانت متباينةً في الأحوال، إلّا أنّها يجمعها هنا عزمُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وجزمه وعدم توانيه في أمرٍ أراد أن يفعله.
خاتمةٌ:
هذا غيضٌ مِن فيض معالم المكارِم في شخصيّة النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وإنّ ما أشرنا إليه يجب على كلّ واحدٍ منّا أن يتخذّه منهاجًا ونبراسًا، فلا يعدوه ولا يتخطّاه، كما أنّه لا يقصِّر عنه ولا يهمله في حياته كلّها، وفي أيّ أمرٍ ولّاه الله سبحانه قيادته، وأوكل إليه قراره وإدارته؛ مِن الدّائرة الأصغر في شؤونات نفسه ثمّ أسرته وحيّه، وكذلك في عمله، وإن كان قد ولّاه الله أمرًا مِن أمور المسلمين فإنّه بأخذ هذه الصّفات أحرى، والاقتداء بها أَولى.
http://shamkhotaba.org