مقدمة:
قبل سنةٍ وأسبوعين كان النّاس في أشدّ الضّيق، يهاجمهم العدوّ ويخذلهم الصّديق، بعد أن أوقدوا على الطّاغية ثورةً تعثّرت خطاها أشدّ التّعثّر، فآلت الأحوال إلى نزوحٍ مريرٍ، وانسحاباتٍ خلّف الثّوار بها أموالهم وديارهم وراء ظهورهم، وفارقوا مدنهم، وفراقُها نظير خروج الرّوح مِن الجسد {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ} [النّساء: 66].
وصار الثّائر يقلّب نظره ويعيد حساباته، وارتفعت الأصوات الّتي تخطّئ الثّوّار أن قاموا في وجه طاغيتهم، وبدا وكأنّ الظّلم الّذي كنّا فيه قبل الثّورة قدرنا المحتوم الّذي لا بدّ أن نعيشه، ذاك ظلمٌ ليس كأيّ ظلمٍ، حكّامٌ فجرةٌ لا يرعون في مؤمنٍ إلًّا ولا ذمّةً، يحاربون الله ورسوله، إذ يمنعون صلاة الجمعة والجماعات في الجيش، فيحرصون على تنشئة جيشٍ لا يعرف لله قدرًا، وكانوا يصرّحون للعسكر أنّ سلطة الله وراء حدود المعسكر، أمّا في داخله فلا، هذا فضلًا عن السّجون وما فيها مِن أهوالٍ لا يتخيّلها العقل، وفي قصص النّاجين منها عبرٌ للمعتبر، كان ظلمًا يستدعي كلّ حرٍّ أن يثور عليه، لكنّ الثّورة أدبر وجهها، وعبست في وجه أبنائها حتّى صاروا بين المرّين، بل آلت الأمور بعد انحسار الثّورة إلى ظلمٍ أشدّ مِن سابقه، وانضاف إليه شدّة الفقر الّتي سبّبتها سنيّ الحرب، يومها ودّ بعض الثّوّار أن لو لم يقوموا بثورتهم، ولامهم القريب والبعيد على إذكاء نار حربٍ لا يقدرون على إدارتها وإنهائها على الوجه الحسن، بل شكّكّ البعض في مشروعيّة الثّورة أصلًا لمّا رأوا آثارها غير المرضيّة.
1- استيئاس النَّاس
لمّا رأى النّاس الطّاغية ينزل في عواصم الدّول العربية، ويجلس على مقعد سوريّا في جامعة الدّول العربيّة، ويُستقبل استقبال الرّؤساء الشّرعيّين سُقط في أيديهم، ورأوا علاقاته تتحسّن تدريجيًّا مع دولٍ كانت بالأمس القريب مِن أبرز داعمي الثّورة، حينها ملأ اليأس القلوب، وفرّ ناسٌ مِن ساحة المواجهة، وقالوا "انتهت الثورة" {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا * وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} [الأحزاب: 10-13].
ومع ذلك ظلّت عصبةٌ صابرةٌ مرابطةً محتسبةً الأجر مِن ربّ العباد رجاء أن تفلح {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200].
وفي عشيّةٍ مِن عشيّات الظّلم قصفت قوّات النّظام السّاقط مدينة أريحا، فقتلت أطفالًا في معهدٍ للعلوم الشرعيّة، فازداد غمّ النّاس وقالوا {مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} فكان الجواب {أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}
هذا ولا تُنال الجنّة إلّا بابتلاءٍ كهذا وصبرٍ كهذا {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214].
ولم يطلع صباح ذلك اليوم إلّا والنّاس يتناقلون ما صار لاحقًا أشهر خبرٍ، كان الجميع يتحدّثون عن انطلاق معركة ردع العدوان، لردع العدوّ أن يقصف أطفالنا فيقتل مَن شاء متى شاء، ولا أنبيك عن خوف النّاس يومها، كانت غالبيتهم العظمى -إن لم يكن كلّهم- خائفين مِن نتائج المعركة، فأعداد العدوّ كبيرةٌ، وداعموه دولٌ إقليميّةٌ وعالميّةٌ، ثمّ هو رئيسٌ شرعيٌّ بعد أن أُعيد تدويره، فعمّ سيسفر وجه المعركة؟ وإلامَ ستؤول؟ أنزوحٌ جديدٌ؟ أم تحريرٌ لعدّة قرىً واستمرار مسلسل القصف الهمجيّ الّذي لا يعرف شيخًا أو امرأةً أو طفلًا؟
أمّا أن تُحرّر حلب فكان هذا أشبه بالأحلام الّتي يركن إليها المرء ليفرّ مِن واقعه المرير، ثمّ ما يلبث أن يصحو منها على أصوات الطّيران يهدر فوقه يقول: "صبّحكم أو مسّاكم".
2- جاءهم نصرنا
سريعًا مرّت الأيّام الثّلاثة الأولى مِن المعركة، تحمل معها بشائر طار لها الثّوّار فرحًا، لم يعد المحرّر شريطًا حدوديًّا، وقرىً متناثرةً في الرّيف النّائي، لقد دخلت حلب في خارطةٍ خضراء، فأضافت لها ثقلًا كانت أحوج ما تكون إليه لتُنفخ فيها الرّوح، وشعر الثّوّار يومها بالنّديّة في السّيطرة مع عدوّهم، فلئن قهر العدوّ العاصمة السّياسيّة دمشق وأبقاها تحت حكمه، فها هي العاصمة الاقتصاديّة تخرج عن يده، وكان حينها ثوّار حلب قد أتمّوا ثمانية سنين عجافًا، مهجّرين عنها، تتراءى لهم في الأحلام دون الحقيقة، وما راعهم إلّا وهم يدخلونها بمراكبهم، أعزّ ما يكون الدّاخلون وأمنع، يومها بكوا فرحًا، وحُقّ لهم أن يبكوا، ولو علموا ما يخفيه لهم أسبوعهم لادّخروا دموعهم لما هو أعظم وأكبر، تدفّقت سيول المجاهدين إلى حماة بزخمٍ كبيرٍ وروحٍ معنويّةٍ عاليةٍ لتحرّر المدينة الكليمة بعد معارك بطوليّةٍ لو لم توثّقها آلات التّصوير لقيل هي ضربٌ مِن الخيال، ولقيل كانت المعركة شيئًا سهلًا، فرّ العدوّ فطارده المجاهدون، ولم يكن الأمر كذلك، بل استعصى العدوّ في جبل زين العابدين على مشارف حماة، وهو جبلٌ مطلٌّ عالٍ تشرف مدافعه على سهولٍ واسعةٍ لا بدّ مِن قطعها للوصول إلى حماة، فاستبسل المجاهدون في السّيطرة عليه حتّى تمّ لهم المقصود، ودخلوا حماة وطيف مجزرة الثّمانينيات يحيط بهم من كلّ جانبٍ، دخلوها في مثل هذا اليوم مِن العام الفائت، في الخامس مِن شهر كانون الأوّل، في مثل هذه السّاعة كان المجاهدون يمشّطون أحياءها حيًّا حيًّا، فيطهّرونها مِن رجس العدوّ الحاقد، ازدادت غبطة النّاس وفرحهم؛ إذ التحقت حماة بأختيها حلب وإدلب، وصار الشّمال في منعةٍ لم تكن له مِن قبل، وكان الحديث عن تقسيم سوريّا إلى دويلاتٍ يبدو واقعيًّا، إلّا أنّ التّوجّه إلى حمص وتحرّر درعا غيّر ذلك، لم تكن معركة حمص يسيرةً هيّنةً، إذ ما زال سلاح طيران العدوّ في الجوّ، ولا يملك الثوّار مضادًّا للطّيران، فقصف العدوّ جسر الرّستن ليعيق تقدّم المجاهدين، وقصف تجمّعات المجاهدين، لكن هيهات هيهات، بطولةٌ وبسالةٌ نادرتان أنزلتا المجاهدين في قلب حمص بعد يومين مِن فرحة حماة، وحبس الخلق أنفاسهم وهم يقولون "دمشق" درّة التّاج وواسطة العقد، هل يعقل أن يكون؟ لقد كان.. لم ينبلج فجر اليوم التّالي إلّا والبشير يصيح في النّاس، أن فرّ الجبان، وحرّرت عاصمة البلاد، حينها أدرك النّاس أنّ نعمةً عظيمةً قد خُبّئت لهم في ثوب محنةٍ قاسيةٍ، ما كان أعظمها مِن محنةٍ، وما كان أكبرها مِن منحةٍ تلتها، فسبحان الوهّاب {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} [البقرة: 259].
مال الثّوّار بعدها إلى السّاحل يطاردون فلول النّظام، ويستحيون مَن ألقى سلاحه منهم بعد صدور العفو.
خاتمةٌ:
إنّك ترى في هذا النّصر قول الحقّ {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ * لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 110-111].
وهو نعمةٌ عظيمةٌ تأخّرت حتّى تمحّض الفضل فيها لله، فلا يجرؤ على ادّعائها صديقٌ أدار صدره للثّورة، أو ثائر عجَز ففرّ، بل الفضل فيها لله دون سواه {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ} [الأنفال: 17-18].
ولمّا كان ذلك كذلك فقد وجب أن يُشكر ربّنا فلا يُكفر، ومِن أوجه شكره أن نقوم بدِين الله في خاصّة أنفسنا وفيمن نعول، فإنّ تطبيق الشّريعة في البلاد المحرّرة ليس وظيفة الحكّام فحسب، بل وظيفة كلّ مسلمٍ، إذ كلّنا راعٍ وكلّنا مسؤولٌ عن تطبيق دِين الله في الرّعيّة، ومِن شكر نعمة الله أن نسعى في توحيد بلدنا؛ فلا نترك للانفصاليّين الفرصة لتحقيق أطماعهم وأغراضهم غير المشروعة، ومِن شكرنا النّعمة أن ندفع عنها العدوّ الخارجيّ، فلا نسمح له أن يتوغّل في قراها ويعتقل مَن يشاء، أن نقدّم الشّهداء في سبيل صيانة أرضٍ لم تجفّ بعد مِن دمائهم {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} [الأعراف: 100].
http://shamkhotaba.org