مقدمة:
رعاية اليتيم في الإسلام مِن أعظم القربات الّتي حثّ عليها الشّرع، فهي تجسّد قيم الرّحمة والتّكافل الاجتماعيّ الّتي جاء بها الدِّين، وقد جعل الله تعالى كفالة اليتيم طريقًا إلى الجنّة وصحبة النّبيّ فيها، عَنْ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (أَنَا وَكَافِلُ اليَتِيمِ فِي الجَنَّةِ هَكَذَا) وَقَالَ بِإِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالوُسْطَى).
الاهتمام باليتيم لا يقتصر على توفير الطعّام والكساء، بل يشمل التّربية والتّعليم والدّعم النّفسيّ، ليشعر بالانتماء والأمان، إنّ رعاية اليتيم تحفظ المجتمع مِن التّفكّك، وتغرس في النّفوس معاني العدل والإحسان، وتبني أجيالًا صالحةً قادرةً على العطاء، ممّا يجعل كفالة اليتيم مسؤوليّةً دينيّةً وأخلاقيّةً واجتماعيّةً عظيمةً.
رعاية اليتيم في الإسلام ليست مجرّد عملٍ اجتماعيٍّ، بل هي عبادةٌ عظيمةٌ يتقرّب بها العبد إلى الله تعالى، وقد أكّد القرآن الكريم هذا المعنى في قوله: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} [الإنسان: 8-10].
هذه الآيات الكريمة تُظهر أنّ إطعام اليتيم ورعايته يجب أن يكون خالصًا لوجه الله، بعيدًا عن أيّ غرضٍ دنيويٍّ أو انتظار شكرٍ مِن النّاس، فهي تربّي المسلم على الإخلاص، وتغرس في المجتمع روح التّكافل والرّحمة، وتؤكّد أنّ الاهتمام باليتيم مِن أعظم صور البرّ الّتي تُنجي العبد مِن أهوال يوم القيامة، ومِن هنا فإنّ رعاية اليتيم تمثّل قيمةً دِينيّةً وأخلاقيّةً ساميةً، تحفظ المجتمع وتبني أجيالًا صالحةً قادرةً على مواجهة التّحدّيات.
هذا وفي القرآن والأحاديث جمعٌ مِن النّصوص الّتي تصون حقّ اليتيم وتحثّ على كفالته، فلنلقِ نظرةً على تلك النّصوص، وما يمكن أن نفهمه منها.
1- لا يُقهر المصون
الآية الكريمة {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} [الضّحى: 6].
تذكيرٌ بمنّة الله تعالى على نبيّه صلى الله عليه وسلم، إذ كان يتيمًا فتكفّل الله برعايته وهيّأ له مَن يكفله ويؤويه، حتّى نشأ محفوظًا بعنايةٍ ربانيّةٍ خاصةٍ، هذه الآية تُظهر أنّ رعاية اليتيم اقتداءٌ بسنّة الله في حفظ نبيّه الكريم، وأنّ الاهتمام باليتيم امتدادٌ لرحمة الله الّتي شملت خير خلقه، فهي تغرس في المؤمنين معنى العطف، وتؤكّد أنّ كفالة اليتيم صورةٌ مِن صور الشّكر لله على نعمه، ووسيلةٌ لتجسيد الرّحمة في واقع الحياة، وقد علمتم أنّ الرّاحمين يرحمهم الرّحمن، فارحموا أيتام الأرض، يرحمكم مَن في السّماء.
والآية الكريمة {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ} [الضّحى: 9].
تحمل توجيهًا ربّانيًّا دقيقًا، يتجاوز مجرّد الرّعاية المادّيّة لليتيم، فهي تنهى عن أيّ صورةٍ مِن صور القهر النّفسيّ، أو الاستعلاء الاجتماعيّ، الّذي قد يشعره بالضّعف أو الإقصاء، فالمطلوب ليس فقط إطعامه أو كسوته، بل معاملته بكرامةٍ، وصون مشاعره مِن الانكسار، ليحيا حياةً طبيعيّةً متوازنةً، هذه الآية تؤكّد أنّ الإسلام ينظر إلى اليتيم كعضوٍ كامل الحقوق في المجتمع، يجب أن يُحاط بالرّحمة والاحترام، وأن يُمنع عنه أيّ شكلٍ مِن أشكال الظّلم أو الاستغلال، ممّا يرسّخ قيمة العدالة الإنسانيّة في أعمق صورها.
والآية الكريمة {كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ} [الفجر: 17].
تأتي في سياق التّوبيخ والإنكار على مَن أهمل حقّ اليتيم ولم يكرمه، فهي تكشف أنّه مِن مظاهر الانحراف والبُعد عن منهج الله إهمال هذه الفئة الضّعيفة في المجتمع، الإكرام هنا لا يقتصر على العطاء المادّيّ، بل يشمل حُسن المعاملة، وصون الكرامة، وإشراك اليتيم في الحياة الاجتماعيّة؛ دُون شعورٍ بالنّقص أو التّهميش، بهذا المعنى تؤكّد الآية أنّ إكرام اليتيم معيارٌ لصدق الإيمان، وأنّ التّقصير في حقّه علامةٌ على قسوة القلب، ممّا يجعل رعايته أمرًا شرعيًّا، وأخلاقيًّا لا يُستهان به.
والآية الكريمة {وَآتُوا الْيَتَامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً} [النّساء: 2].
تمثّل توجيهًا إلهيًّا صارمًا بضرورة حفظ أموال اليتامى، وإعطائها لهم كاملةً دون نقصٍ أو تحايلٍ، فهي تنهى عن استبدال الرّديء بالجيّد، أو خلط أموالهم بأموال الأوصياء بغرض الاستيلاء عليها، وتصف هذا الفعل بأنّه حوبٌ كبيرٌ؛ أي: إثمٌ عظيمٌ، هذه الآية تؤكّد أنّ الإسلام لا يكتفي بالدّعوة إلى الرّحمة باليتيم، بل يضع تشريعاتٍ دقيقةً لحماية حقوقه الماليّة، ويعتبر أيّ اعتداءٍ عليها جريمةً، فهي تغرس في المجتمع قيمة الأمانة، وتبيّن أنّ رعاية اليتيم تشمل صيانة ماله كما تشمل رعاية نفسه، ليكبر وهو محفوظ الحقوق والكرامة.
2- نارٌ في البطون
الآية الكريمة {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النّساء: 10].
تشمل تحذيرًا شديدًا مِن الله تعالى، فهي تُصوِّر أكل مال اليتيم -بغير حقٍّ- كأنّه ابتلاعٌ للنّار في البطون، وتبيّن أنّ عاقبة هذا الفعل هي دخول السّعير يوم القيامة، فهي تغرس في النّفوس هيبة هذا الحقّ، وتؤكّد أنّ حفظ أموال اليتامى ورعايتها أمانةٌ عظيمةٌ، وأنّ التّفريط فيها أو استغلال ضعفهم يُعدّ مِن كبائر الذّنوب الّتي تهدّد سلامة الفرد في الآخرة، وسلامة المجتمع في الدّنيا.
والآية الكريمة {وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [الأنعام: 158].
ترسم منهجًا دقيقًا في التّعامل مع أموال اليتامى، فهي لا تكتفي بالنّهي عن أكلها ظلمًا، بل تضيف شرطًا مهمًّا؛ وهو أنّ أيّ تصرّفٍ فيها يجب أن يكون بالّتي هي أحسن، أي بالفعلة الّتي هي أحسن ما يُفعل بماله؛ كحفظه وتثميره.
وهذا يشمل استثمار المال أو إنفاقه بما يعود عليه بالنّفع، مع التزام الأوصياء بالأمانة والعدل حتّى يبلغ اليتيم سنّ الرّشد، ويصبح قادرًا على إدارة ماله، وفي الحديث الشّريف: عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحَارِثِ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (مَنْ ضَمَّ يَتِيمًا بَيْنَ أَبَوَيْنِ مُسْلِمَيْنِ إِلَى طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ حَتَّى يَسْتَغْنِيَ عَنْهُ، وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ الْبَتَّةَ، وَمَنْ أَعْتَقَ امْرَأً مُسْلِمًا، كَانَ فَكَاكَهُ مِنَ النَّارِ، يُجْزِي لِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْهُ مِنَ النَّارِ).
هذا النّصّ النّبويّ يوضّح أنّ كفالة اليتيم ليست مجرّد إحسانٍ عابرٍ، بل هي التزامٌ كاملٌ، يشمل الطّعام والشّراب والرّعاية، حتّى يصبح قادرًا على الاعتماد على نفسه، وجعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم جزاء ذلك الجنّة المؤكّدة، كما قرن الحديث بين كفالة اليتيم وعتق الرّقاب، وكلاهما مِن أعظم القربات الّتي ترفع الإنسان وتحرّره مِن النّار، فهو حديثٌ يجمع بين الرّحمة العمليّة والجزاء الأخرويّ، ويؤكّد أنّ رعاية اليتيم طريقٌ إلى الجنّة، وعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: (يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنِّي أَرَاكَ ضَعِيفًا، وَإِنِّي أُحِبُّ لَكَ مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي، لَا تَأَمَّرَنَّ عَلَى اثْنَيْنِ، وَلَا تَوَلَّيَنَّ مَالَ يَتِيمٍ).
نصح النّبيّ صلى الله عليه وسلم أبا ذرٍّ بعدم تولّي المسؤوليات الّتي تحتاج إلى قوّةٍ وحزمٍ، لأنّه رآه ضعيفًا في هذا الجانب، حرصًا على مصلحته، ومِن أعظم ما شدّد عليه النّبيّ صلى الله عليه وسلم تولّي مال اليتيم، لأنّ هذا المال أمانةٌ عظيمةٌ تحتاج إلى قوّةٍ في الحفظ، وعدلٍ في التّصرّف، وأيّ ضعفٍ أو تقصيرٍ قد يؤدّي إلى ضياع حقّ اليتيم.
خاتمةٌ:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقَاتِ)، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: (الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ اليَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ الغَافِلاَتِ).
هذا الحديث الشّريف يضع أكل مال اليتيم في مصافّ أعظم الكبائر الّتي تهلك صاحبها، إلى جانب الشّرك بالله والقتل وأكل الرّبا، وهذا يدلّ على أنّ الإسلام لا ينظر إلى مال اليتيم كحقٍّ ماليٍّ فحسب، بل كأمانةٍ مقدّسةٍ، والاعتداء عليها يُعدّ جريمةً عظيمةً تهدّد المجتمع، وتستوجب العقاب الإلهيّ، وإدراج هذا الذّنب بين (الموبقات) يرسّخ في النّفوس هيبة حقّ اليتيم، ويؤكّد أنّ رعايته وصيانة ماله واجبٌ شرعيٌّ عظيمٌ، والتّفريط فيه مِن أسباب الهلاك.
لقد خلّفت سنوات الثّورة في مجتمعنا فئاتٍ ضعيفةً تستحقّ منّا كلّ العناية، ومنهم الأيتام الّذين فقدوا معيلهم في قصفٍ أو سجنٍ مظلمٍ ظالمٍ، فلنخلُف شهداءنا في بنيهم بخيرٍ، وما تزال ديارنا عرضةً لاعتداء الكيان الغاصب المجاور، وقد قدّم ريف دمشق شهداء خلال التّصدّي لتوغّلاتهم، فهل سألنا عن الأيتام الّذين خُلّفوا نتيجة البطولة والفداء؟ إنّنا ما خلَفنا الشّهداء في أبنائهم إلّا أغرينا المقبل على الشّهادة المشفق على بينه الضّعاف أن "أقبل ولا تلتفت وراءك، إنّك إن تخلّف صبيةً ضعافًا تخلّفهم بين أعمامهم، والعمّ ضنينٌ بابن أخيه يحوطه ويصونه"، فدونكم أبناء إخوانكم فارعوا وصونوا.
ختامًا: بما أنّ الله أبقاك لبنيك إلى اليوم؛ فلا تجعلنّهم كالأيتام وما تيتّموا، ولا تغفلنّ عن تأديبهم، ولا تنشغلنّ، وتذكّر:
ليس اليتيم مَن انتهى أبواه مِن همّ الحياة وخلّفاه ذليلًا
إنّ اليتيم هو الّذي تلقى له أمًّا تخلّت أو أبًا مشغولًا
http://shamkhotaba.org