مقدمة:
قال تعالى: ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ )(آل عمران: 190-191).
عباد الله، إن الزمان بليله ونهاره، وشهوره وأعوامه آية من آيات الله التي نصبها للعباد ذكرى وموعظة، وإن انقسام الأيام إلى صيف وشتاء من جملة آيات الله الكونية التي منَّ الله بها على العباد، وقد أخبرنا ربنا أن من صنيع أولي الألباب والعقول السليمة التفكر في خلق الله، والتأمل فيه، وها هو الصيف قد حل بلفحه ولهيبه، وناره وسمومه، وفي الصيف فوائدُ نستفيدها، ووقفاتُ تأمل واعتبار في عجيب صنع الله الذي أتقن كل شيء، والذي كل شيء عنده بمقدار.
أ-شدة الحر من فيح جهنم
الوقفة الأولى التي نقفها مع الصيف: ما جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم، واشتكت النار إلى ربها فقالت: رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا فَأْذَنْ لِي أَتَنَفَّسْ. فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ فَمَا وَجَدْتُمْ مِنْ بَرْدٍ أَوْ زَمْهَرِيرٍ فَمِنْ نَفَسِ جَهَنَّمَ، وَمَا وَجَدْتُمْ مِنْ حَرٍّ أَوْ حَرُورٍ فَمِنْ نَفَسِ جَهَنَّمَ )(مسلم:617).
فإذا كان هذا الحر الشديد والشمس المحرقة إنما هي نفس من أنفاس جهنم فيا ترى ما عذابها إذاً؟
ب-حر الصيف يذكر بنار الاخرة
وهل تذكر العاصي لربه تلك النار التي توقد وتغلي بأهلها حين أقدم على معصية الجبار سبحانه، مستهيناً بمولاه وجاحداً لنعمته عليه، ومتناسياً ما أعد من العذاب والنكال للعصاة.
رأى عمر بن عبد العزيز قوماً في جنازة قد هربوا من الشمس إلى الظل وتوقوا الغبار، فبكى وأنشد:
من كان حين تصيب الشمس جبهته ** أو الغبـار يخــاف الشيــن والشعثا
ويألف الظــل كي يبقــى بشاشتـــه ** فسوف يسكن يومــا راغمــا جدثا
فــي ظل مقفــــرة غبــــراء مظلمـــة ** يطيل تحت الثرى في غمها اللبثا
تجهــزي بجهــاز تبلغيـــن بـه يا نفس ** قبــــل الردى لــــم تخلقي عبثـــا
فكم في حر الصيف من ذكرى، كم أشعل من أحشاء، وكم هيج من عروق، كم منا من لفحه حرّ الصيف، وعرقه يقطر من وجهه فما تذكر يوم القيامة، يوم يسيل العرق من العباد كما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم فقال: ( تُدْنَى الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْخَلْقِ حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ مِيلٍ، فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فِي الْعَرَقِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى كَعْبَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى حَقْوَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ إِلْجَامًا. قَالَ وَأَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ إِلَى فِيهِ )(مسلم: 2864).
فلنوقف أنفسَنا في عتبات المحاسبة، ولنقل لها: يا نفس، أتراكِ تطيقين الحر في ذلك اليوم؟ أيها الضعيف: كيف تهرب من حر الشمس ونسيت فيح جهنم ولا تهرب منها؟ أيها العاقل، ليكن صيفك واعظًا لك، ومذكرًا لك نارًا وقودها الناس والحجارة.
جـ-شدة الحر ليست عائقا عن طاعة الله
الوقفة الثانية: هل الحر عائق عن طاعة الله، أم أن الصفوة من عباد الله يرون أن في الحر غنيمة لا تفوت؟
خرج ابن عمر في سفر معه أصحابه فوضعوا سفرة لهم فمر بهم راع فدعوه إلى أن يأكل معهم فقال: إني صائم، فقال ابن عمر: في مثل هذا اليوم الشديد حره وأنت بين هذه الشعاب في آثار هذه الغنم وأنت صائم؟ فقال أبادر أيامي هذه الخالية.
د-شدة الحر عقوبة وابتلاء
وهذا الحر ابتلاء من الله عز وجل لعباده المؤمنين من جهة وعقوبة للعاصين من جهةٍ أخرى، وقد ابتلى الله المؤمنين بالحر في غزوة تبوك، فحين خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى غزوة تبوك وكانت في حر شديد تواصى المنافقون فيما بينهم بعدم النفير في هذا الحر فجاء الوعيد من الله فقال تعالى فاضحا المنافقين: (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ، فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)(التوبة: 81-82).
أما كون هذا الحر عقوبة، فهذا لا شك فيه عند من يفقه نصوص الكتاب والسنة، فإن الله عز وجل يعاقب عباده بأشياء كثيرة مما يكرهون، قال الله تعالى: ( وَمَا أَصَابَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ )(الشورى: 30).
ومن مظاهر كون هذا الحر عقوبة ما يحصل من موت كثير من الناس والزروع والأشجار وتلف بعض الآلات وإزهاق كثير من المرضى ممن لا يتحملون شدة الحر، وفوق ذلك كله الأموال الطائلة التي تنفق وتصرف لمقاومة الحر الشديد، لا سيما في الكهرباء.
ولا شك أيها الإخوة أن هذا يوجب علينا جميعاً سرعة الرجوع إلى الله والتوبة من كل المنكرات، فإن هذا الحر نذير خطر، وإن الله يمهل ولا يهمل، قال تعالى: ( ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِى عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ )(الروم: 41).
هـ-ابن آدم ملول
الوقفة الثالثة: ابن آدم ملول، قد وصفه ربه بأنه ظلوم جهول، ومن جهله عدم الرضا عن حاله، وفي ذلك يقول الناظم:
يتمنى المرء في الصيف الشتاء ** فإذا جـاء الشتاء أنكره
فهو لا يرضــــى بحــال واحـــــد ** قتل الإنسان ما أكفره
وهذا من طبع البشر ولكن المسلم يرضى بما قدر الله من خير أو شر، أخرج مسلم عن صهيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله خير وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له ).
ولن يعدم المؤمن أحد هذين الخيرين بشرط الرضا والشكر والصبر، ومن حرم الصبر على ما قدر الله فهو المحروم.
و-الشمس تسجد لله
الوقفة الرابعة: هذه الشمس بضخامتها ولهبها المحرق تسجد بين يدي ربها مطيعة مذعنة كما ثبت في الحديث الصحيح، فقد أخرج البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر حين غربت الشمس: ( أتدري أين تذهب؟ قلت: الله ورسوله أعلم قال: فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش، فتستأذن فيؤذن لها، ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها وتستأذن فلا يؤذن لها، يقال لها: ارجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها، فذلك قوله تعالى: وَالشَّمْسُ تَجْرِى لِمُسْتَقَرّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ )(البخاري: 3199).
فعلام يتكبر بعض بني آدم عن السجود لربهم طاعة له وامتثالاً قبل أن يحال بينهم وبين السجود ( يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ )(القلم: 42).
ز-تقلب أحوال الدنيا دليل على أن العسر يتبعه اليسر
عباد الله، إن هذا الحر له غاية مهما طالت أيامه، فبعد الحر يأتي الجو البارد، وهكذا الدنيا لا يدوم لها حال، وهذا أعظم تنبيه للمسلم كي يدرك أن الشيء لا يدوم في هذه الدنيا، فالدنيا حر وبرد، غنى وفقر، قوة وضعف، عز وذل، صحة ومرض، حياة وموت، ضيق وفرج، وفي هذا تنبيه للظالم أن ينتظر دوران الدائرة عليه، وتسلية للمكروب المبتلى الذي ينتظر فرج الله، وكثير من المسلمين اليوم في بقاع شتى يعيشون ظلماً واضطهاداً ولا يعلم مداه إلا الله، فلهم بشرى فإن الحال لا تدوم.
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها ** فرجت وكنت أظنها لا تفرج
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وبهدي سيد المرسلين أقول هذا القول وأستغفر الله.
http://shamkhotaba.org