المسلم بشخصيته الفريدة التي بناها الإسلام لا يعرف المداهنة والمجاملة، يقف مع الحق أينما كان ومع من كان لا يفرق في ذلك بين صديق وعدو، أو بين قوي وضعيف، بل ولا يفرق فيه بين نفسه وغيره.
قال تعالى:( يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ كُونُوا۟ قَوَّ ٰمِينَ بِٱلْقِسْطِ شُهَدَآءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمْ أَوِ ٱلْوَ ٰلِدَيْنِ وَٱلْأَقْرَبِينَ ۚ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًۭا فَٱللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا ۖ فَلَا تَتَّبِعُوا۟ ٱلْهَوَىٰٓ أَن تَعْدِلُوا۟ ۚ وَإِن تَلْوُۥٓا۟ أَوْ تُعْرِضُوا۟ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًۭا) [النساء 135]
يأمر تعالى عباده المؤمنين أن يكونوا قوامين بالقسط، أي بالعدل، فلا يعدلوا عنه يمينا ولا شمالا ولا تأخذهم في الله لومة لائم، ولا يصرفهم عنه صارف، وأن يكونوا متعاونين متساعدين متعاضدين متناصرين فيه.
وقوله: {شُهَدَآءَ لِلَّهِ} أي: ليكن أداؤها ابتغاء وجه الله، فحينئذ تكون صحيحة عادلة حقا، خالية من التحريف والتبديل والكتمان؛ ولهذا قال: {ولو على أنفسكم} أي: اشهد الحق ولو عاد ضررها عليك وإذا سئلت عن الأمر فقل الحق فيه، وإن كان مضرة عليك، فإن الله سيجعل لمن أطاعه فرجا ومخرجا من كل أمر يضيق عليه.
وقوله: {أَوِ ٱلْوَ ٰلِدَيْنِ وَٱلْأَقْرَبِينَ} أي: وإن كانت الشهادة على والديك وقرابتك، فلا تراعهم فيها، بل اشهد بالحق وإن عاد ضررها عليهم، فإن الحق حاكم على كل أحد، وهو مقدم على كل أحد.
وقوله: {إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًۭا فَٱللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا} أي: لا ترعاه لغناه، ولا تشفق عليه لفقره، الله يتولاهما، بل هو أولى بهما منك، وأعلم بما فيه صلاحهما.
وقوله {فَلَا تَتَّبِعُوا۟ ٱلْهَوَىٰٓ أَن تَعْدِلُوا۟} أي: فلا يحملنكم الهوى والعصبية وبغضة الناس إليكم، على ترك العدل في أموركم وشؤونكم، بل الزموا العدل على أي حال كان، كما قال تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَـَٔانُ قَوْمٍ عَلَىٰٓ أَلَّا تَعْدِلُوا۟ ۚ ٱعْدِلُوا۟ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ} [المائدة: 8]
ومن هذا القبيل قول عبد الله بن رواحة، لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم يخرص على أهل خيبر ثمارهم وزرعهم، فأرادوا أن يرشوه ليرفق بهم، فقال: والله لقد جئتكم من عند أحب الخلق إلي، ولأنتم أبغض إلي من أعدادكم من القردة والخنازير، وما يحملني حبي إياه وبغضي لكم على ألا أعدل فيكم. فقالوا: "بهذا قامت السماوات والأرض".
وقوله: {وَإِن تَلْوُۥٓا۟ أَوْ تُعْرِضُوا۟} قال مجاهد وغير واحد من السلف: {تَلْوُۥٓا۟ } أي: تحرفوا الشهادة وتغيروها، و "الإعراض" هو: كتمان الشهادة وتركها، قال الله تعالى: {وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُۥٓ ءَاثِمٌۭ قَلْبُهُ} [البقرة:283] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها". ولهذا توعدهم الله بقوله: {فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًۭا} أي: وسيجازيكم بذلك.ابن كثير2/433
من تطبيقات الانحياز للحق أن العقوبات والحدود الشرعية لا تفرق بين غني أو فقير ولا تهادنُ ذا قوة وتنزل بالضعفاء: قال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النور:2]، وقال سبحانه: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة: 38].
وفي هذا السياق حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: أن قريشا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة حبُّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم-. فكلمه أسامة. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (أتشفع في حد من حدود الله). ثم قام فاختطب فقال (أيها الناس إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)البخاري حديث رقم/ 3288، مسلم: حديث رقم: 4505
فبين عليه الصلاة والسلام أن التمييز في إقامة الحدود هلكة، وهذا الكلام يوحي أن عدم العدل والمساواة بين الشريف والوضيع إذا أتيا ما يستوجب الحد في حقيهما سبب للهلاك، مع أن الحد يقام، لكنه يقام على قوم ولا يقام على آخرين، وهذا ما يعرف في هذا الزمان بالمحسوبية، فلان لا يضرب ولا يحبس ولا تصل إليه الأيدي؛ لأن قريبه فلان من الناس، أو لأنه صاحب وجاهة أو منصب، أو مال أو رئاسة أو غير ذلك، فهذا لا يجوز لأحد أن يقترب منه لمكانته الاجتماعية!!
أما الوضيع فإنه أول من يُطبق عليه الحد، وكلمة الوضيع ليست إهانة، إنما هو مصطلح وضع لمن لم يكن له أهل أو منصب أو قبيلة، أو ليس لديه مال أو غير ذلك، أما ميزان التفضيل في لسان الشرع فهو بتقوى الله عز وجل، فكم من إنسان يظن أنه عالي المنزلة مرموق المكانة لكنه لا يزن عند الله جناح بعوضة!
وكم من إنسان لا يؤبه له ولا يلتفت إليه، لكنه في أعلى عليين عند رب العالمين سبحانه وتعالى! والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى)،
وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13].
وقال عليه الصلاة والسلام: (رُبَّ أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره) فميزان الشرع هو الميزان العدل، إذ إن المرء يوزن بتقواه، وما دون ذلك لا وزن له عند الله عز وجل. قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله) هذا قسم، وكأنه يقول: والله، مع أنه لم يُسْتَقْسَم، وإنما أقسم عليه الصلاة والسلام من غير أن يستقسمه أحد؛ لبيان أهمية الأمر وخطورته والتأكيد عليه.قال: (وايم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)، وفي هذا إثبات القدوة والأسوة، إذ إنه عليه الصلاة والسلام يبدأ بنفسه أولاً.
آيات عظيمة في سورة النور بيانها ساطع وبرهانها واضح تكشف نفسيات أهل النفاق وتفضحهم فلا أحد أعلم بهم كخالقهم، كما وتكشف عن دواخل أهل الإيمان المذعنين لحكم الله ورسوله،
قال تعالى: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور 46 - 52]
قال تعالى: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} [هود: 113]. فإذا كان الركون للظالمين عقوبته النار فكيف بمن يظلم الناس؟!
قال تعالى: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف: 29].
وقال: {وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [الشورى 8]
وقال: {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا} [الفرقان 19]
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنّه سمع النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: (مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ، فَقَدْ ضَادَّ اللَّهَ، وَمَنْ خَاصَمَ فِي بَاطِلٍ وَهُوَ يَعْلَمُهُ، لَمْ يَزَلْ فِي سَخَطِ اللَّهِ حَتَّى يَنْزِعَ عَنْهُ، وَمَنْ قَالَ فِي مُؤْمِنٍ مَا لَيْسَ فِيهِ أَسْكَنَهُ اللَّهُ رَدْغَةَ الْخَبَالِ حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ)أخرجه أبو داود/3597 وصححه الألباني
وكما تحرم الشفاعة في الحدود يحرم على الإمام قبول الشفاعة فيها، فعن الزبير بن العوام رضي الله عنه (أنه لقي رجلا قد أخذ سارقا يريد أن يذهب به إلى السلطان فشفع له الزبير ليرسله، فقال: لا حتى أبلغ به إلى السلطان، فقال الزبير: إنما الشفاعة قبل أن يبلغ السلطان، فإذا أبلغ السلطان لعن الشافع والمشفع).أخرجه مالك
وفي رواية أنّه قال: (إذا بلغ الحد إلى الإمام فلا عفا الله عنه إن عفا)أخرجه الدار قطني
الشفاعة في التعزير جائزة:
والفرق بين الحدِّ والتعزير هو أن الحد مقدر، بخلاف التعزير؛ فإنه يرجع إلى اجتهاد المعزِّر.
ويحرم على السلطان أو من ينوب عنه أن يتنازل عن إقامة الحد، أو أن يعفو عنه؛ خلافاً للتعزير، فإن التعزير يراعى فيه أصحاب الهيئات وأصحاب المروءات، كما يراعى فيه الوسيلة الأنجع والأحسن والأفضل في حق المعزر، فربما ارتكب ما يستوجب التعزير اثنان: أحدهما معروف بالشر، والآخر من أصحاب الهيئات كالعلماء والمشايخ والوزراء والأمراء والسلاطين، أو رجل له منزلة في قلوب الخلق، أو رجل يشار إليه بالبنان بالجود والكرم أو العلم، أو غير ذلك من ذوي الهيئات، وقد مضت السنة على إقالة ذوي الهيئات عثراتهم؛ فعن عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ إِلَّا الْحُدُودَ)أبو داود / 4375 وصححه الألباني
خلافاً لمن كان معروفاً بالشر والفساد، فإنه إذا وقع فيما يستوجب التعزير فإن قدر له المعزر أقصى العقوبة التعزيرية فيكون هذا مخالفاً إذا ارتكب نفس الفعل رجل من أصحاب الهيئات، فإنما يكفي معه مجرد اللوم أو التوبيخ أو المعاتبة الرقيقة اللطيفة؛ لأنهما لا يستويان في المكانة والمنزلة، كما أن هذا ارتكب الفعل لأول مرة، وهذا ارتكبه عشرات المرات أو مئات المرات فلا يستويان.
وقد نقل ابن عبد البر الاتفاق على جواز الشفاعة في ما يقتضي التعزير.
أن نصدح بالحق أمام الظالم أيا كان شأنه وأن نقف مع صاحب الحق أيا كان شأنه، وأن نقبل الحقَّ ولو كان في تطبيقه ضرر على أنفسنا، تماماً ما قال الصديق رضي الله عنه: وُلِّيتُ عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني القوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ له حقه.