أثر الإيمان في الإذعان للعقوبة
مقدمة:
إنّ المؤمن إذا زلت قدمه فاقترف جرماً -وهو بطبيعته بشر يخطئ ويصيب- سرعان ما يستيقظ ضميره، ويدفعه دفعاً حتى يذهب إلى يد العدالة من غير قرار من سلطان ولا إعلان من محكمة ولا حراسة من شرطي، فيعترف بالجريمة ويطلب العقوبة لنفسه تطهيراً من الذنب، ورجاء في أن تكون كفارة له عن ذنبه، وشفيعاً له إلى ربه، لا يمنعه من الاعتراف أن فيه جلد ظهره أو قطع يده أو إزهاق روحه.
والمجتمع -أي مجتمع- لا يرقى وينتظم ويسعد بسن القوانين، وإصدار القرارات وتنظيم اللوائح، ويقظة رجال السلطة -وإن كان لا يستغني عن ذلك كله - وإنما يرقى وينتظم ويسعد، بوجود القلوب الحية، وتوافر الضمائر اليقظة بين أبنائه.
وفي خطبتنا هذه أمثلة تجسد الإيمان الذي كان في النفوس فدفعهم إلى تطهير أنفسهم في الدنيا مخافة من عذاب الآخرة.
عناصر الخطبة:
1- الرضا بحكم الله علامة إيمان.
2- أداء الحقوق المالية.
3- الاعتراف بالذنب والجريمة.
4- الرضى بحكم القاضي ولو كان الحق لك.
5- تنفيذ الحد رحمة للجاني، وكفارة لذنبه.
1- الرضا بحكم الله علامة إيمان
إن الله ربط الإيمان به بالرضا بالاحتكام لشرعه عند التنازع، فقال تعالى: ( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ) (النساء: 59).
[ أي: ردوا الخصومات والجهالات إلى كتاب الله وسنة رسوله، فتحاكموا إليهما فيما شجر بينكم { إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ }
فدل على أن من لم يتحاكم في مجال النزاع إلى الكتاب والسنة ولا يرجع إليهما في ذلك، فليس مؤمنا بالله ولا باليوم الآخر.
وقوله: { ذَلِكَ خَيْرٌ } أي: التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله. والرجوع في فصل النزاع إليهما خير { وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } أي: وأحسن عاقبة ومآلا كما قاله السدي وغير واحد ] (ابن كثير: 345-346).
والله يقول:
( وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ) (الشورى: 10)،
[ فما حكم به كتاب الله وسنة رسوله وشهدا له بالصحة فهو الحق، وماذا بعد الحق إلا الضلال ] (ابن كثير: 345-346).
ولذلك أقسم الله على عدم إيمان من لم يرض بتحكيم شرع الله فيما شجر من الأمور، فقال:
( فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا )(النساء: 65).
وفي آيات عظيمة في سورة النور بيانها ساطع وبرهانها واضح تكشف نفسيات أهل النفاق وتفضحهم فلا أحد أعلم بهم من خالقهم، كما وتكشف عن دواخل أهل الإيمان المذعنين لحكم الله ورسوله،
يقول تعالى: ( لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُون )(النور: 46 -52).
2- أداء الحقوق المالية
عنصر الإيمان إذا دخل المعركة أطفأ لهب الخصومة، فصارت نارها برداً وسلاماً، وحطم طغيان الأنانية فاستحالت تسامحاً وإيثاراً، وحلق بالمؤمن من المتاع الأدنى إلى المثل الأعلى.
في القصة التي روتها أم سلمة زوج الرسول صلى الله عليه وسلم مثل واضح على مبلغ أثر الإيمان: رجلان يختصمان في مواريث وليس لهما بينة إلا دعواها، كلاهما يقول: هذا حقي، وينكر على صاحبه أن يكون له حق .. ويحتكم الرجلان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي صدر كل منهما فرديته وأنانيته، فيصدع الرسول صلى الله عليه وسلم آذانهما وقلبيهما بهذه الكلمات الحية: ( إنما أنا بشرٌ ، وإنكم تختصمون إليَّ ، ولعلَّ بعضَكم أن يكون ألحنَ بحُجَّتِه من بعضٍ ، فأقضي له على نحوِ ما أسمعُ ، فمن قضيتُ له بحقِّ أخيه شيئًا فلا يأخذُه ، فإنما أقطعُ له قطعةً من النارِ ) (صحيح البخاري)
سمع الرجلان المختصمان هذه الكلمات الهادرة، فلمست أوتار الإيمان من صدريهما، وأيقظت فيهما خشية الله والدار الآخرة، فبكى الرجلان، وقال كل منهما لصاحبه: حقي لك!
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أما إذ فعلتما ما فعلتما فاقتسما وتوخيا الحق ثم استهما ثم تحالا )(أي ليحل كل منكما صاحبه وليسامحه فيما عسى أن يكون حقه). (أخرجه أبو داود وأحمد وغيرهما، وحسنه الألباني في إرواء الغليل برقم/ 1423)، ، وقوله صلى الله عليه وسلم: إنما أنا بشر ... إلى قوله من النار، (رواه البخاري ومسلم).
3-الاعتراف بالذنب والجريمة
- الاعتراف بالخيانة:
قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ )(الأنفال: 27).
نزلت هذه الآية في أبي لُبَابَةَ حين بعثَهُ الرسولُ صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظةَ لينزلوا على حكمِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فاستشارَ اليهودُ أبا لبابةَ – وكان حليفاً لهم – فأشارَ عليهم بالنزولِ على حكمِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ولكنه أشار بيدِهِ إلى حَلْقِهِ، أي أنَّهُ الذَّبْحُ.
ثم شعرَ أنَّه خانَ اللهَ ورسولَهُ، فَرَبَطَ نفسَه في ساريةِ المسجدِ تسعةَ أيامٍ لا يذوقُ طعاماً حتى تابَ اللهُ عليه، فأطْلَقَهُ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
- الاعتراف بالزنا:
• عن سليمان بن بريدة، عن أبيه، قال: جاء ماعز بن مالك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ( يَا رَسُولَ اللهِ، طَهِّرْنِي، فَقَالَ: «وَيْحَكَ، ارْجِعْ فَاسْتَغْفِرِ اللهَ وَتُبْ إِلَيْهِ»، قَالَ: فَرَجَعَ غَيْرَ بَعِيدٍ، ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، طَهِّرْنِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَيْحَكَ، ارْجِعْ فَاسْتَغْفِرِ اللهَ وَتُبْ إِلَيْهِ»، قَالَ: فَرَجَعَ غَيْرَ بَعِيدٍ، ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، طَهِّرْنِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مِثْلَ ذَلِكَ حَتَّى إِذَا كَانَتِ الرَّابِعَةُ، قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ: «فِيمَ أُطَهِّرُكَ؟» فَقَالَ: مِنَ الزِّنَى، فَسَأَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَبِهِ جُنُونٌ؟» فَأُخْبِرَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَجْنُونٍ، فَقَالَ: «أَشَرِبَ خَمْرًا؟» فَقَامَ رَجُلٌ فَاسْتَنْكَهَهُ، فَلَمْ يَجِدْ مِنْهُ رِيحَ خَمْرٍ، قَالَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَزَنَيْتَ؟» فَقَالَ: نَعَمْ، فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ، فَكَانَ النَّاسُ فِيهِ فِرْقَتَيْنِ، قَائِلٌ يَقُولُ: لَقَدْ هَلَكَ، لَقَدْ أَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ، وَقَائِلٌ يَقُولُ: مَا تَوْبَةٌ أَفْضَلَ مِنْ تَوْبَةِ مَاعِزٍ، أَنَّهُ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَضَعَ يَدَهُ فِي يَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: اقْتُلْنِي بِالْحِجَارَةِ، قَالَ: فَلَبِثُوا بِذَلِكَ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً، ثُمَّ جَاءَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ جُلُوسٌ، فَسَلَّمَ ثُمَّ جَلَسَ، فَقَالَ: «اسْتَغْفِرُوا لِمَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ»، قَالَ: فَقَالُوا: غَفَرَ اللهُ لِمَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ تَابَ تَوْبَةً لَوْ قُسِمَتْ بَيْنَ أُمَّةٍ لَوَسِعَتْهُمْ ) (رواه مسلم/1695).
المرأة الغامدية:
وهذه امرأة أعرابية تعرف بالغامدية، تزني ويضطرب في أحشائها جنين من الزنا، فيأتي عليها ضميرها المؤمن -وقد ارتكبت الفاحشة سراً- إلا أن تتطهر منها جهاراً.
وجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم تقول له: إني قد زنيت فطهرني؟ فيردها الرسول صلى الله عليه وسلم فتأتي في الغد فتقول: يا رسول الله .. لِمَ تردني؟ لعلك أن تردني كما رددت ماعزاً .. فو الله إني لحبلى!!
فيقول لها: أما لا .. فاذهبي حتى تلدي.
وتذهب المرأة تنتظر الوضع، وتمضي عليها الأيام والأشهر دون أن تخبو جذوة ضميرها. فما أن ولدت حتى أتت بالصبي في خرقة، وقالت للرسول صلى الله عليه وسلم: ها قد ولدته.
قال لها: فاذهبي فأرضعيه حتى تفطميه.
وتعود المرأة إلى دارها ترضع ولدها، وتمضي مدة الرضاع -وهي في العادة حولان كاملان- أربعة وعشرون شهراً لم يستطع اختلاف الليل والنهار فيها أن ينسي المرأة ما ارتكبت من خطيئة.
وبغير إعلان من محكمة، ولا تنبيه من حاكم، ولا حراسة من شرطي ترجع المرأة إلى رسول الله طائعة مختارة، لتلقى مصيرها الذي رضيته لنفسها فتقدم إليه الصبي وفي يده كسرة من الخبز، وتقول: هذا يا نبي الله قد فطمته، وقد أكل الطعام.
ولم يجد النبي صلى الله عليه وسلم بداً بعد هذا أن أمر بها، فحفر لها إلى صدرها، وأمر الناس فرجموها. فأقبل خالد بن الوليد رضي الله عنه بحجر فرمى رأسها فنضح الدم على وجه خالد، فسبها .. فسمع نبي الله صلى الله عليه وسلم سبه إياها .. فقال: ( مهلا يا خالد، فو الذي نفسي بيده، لقد تابت توبةً لو قُسِّمَتْ بين سبعين من أهلِ المدينةِ لوسِعَتْهُم . وهل وجدتْ توبةً أفضلَ من أن جادتْ بنفسِها للهِ تعالى ؟ ) . (القصة رواها مسلم /1695).
الاعتراف بالذنب والصبر على حكم الله:
- عن سلمة بن صخر الأنصاري قال: كنت امرأ قد أوتيت من جماع النساء ما لم يؤت غيري، فلما دخل رمضان تظاهرت من امرأتي مخافة أن أصيب منها شيئا في بعض الليل، فأتتابع في ذلك، فلا أستطيع أن أنزع حتى يدركني الصبح، فبينا هي ذات ليلة تخدمني إذ تكشف لي منها شيء فوثبت عليها، فلما أصبحت غدوت على قومي، فأخبرتهم خبري، فقلت: انطلقوا معي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلأخبره قالوا: لا، والله لا نذهب معك نخاف أن ينزل فينا قرآن أو يقول فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالة يبقى علينا عارها، فاذهب أنت واصنع ما بدا لك، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته خبري قال: «أنت بذاك؟» قال: أنا بذاك، وها أنا ذا فامض في حكم الله فإني صابر محتسب قال: «أعتق رقبة»... إلى آخر الحديث
(قال الألباني: حديث صحيح ورجاله موثقون وهو مخرج في الإرواء: 2091)
• عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ رَجُلًا أَصَابَ مِنَ امْرَأَةٍ قُبْلَةً، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ( أَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ، إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ) (هود: 114) فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلِي هَذَا؟ قَالَ: «لِجَمِيعِ أُمَّتِي كُلِّهِمْ» (رواه البخاري/526 ومسلم/2763).
4-الرضى بحكم القاضي ولو كان الحق لك
وَعَنْ الشَّعْبِيّ قَالَ: وَجَدَ عَليُّ بْنُ أَبي طَالِبٍ دِرْعَهُ عِنْدَ رَجُلٍ نَصْرَانِيّ فَأقْبَلَ بِهِ إلى شُرَيْحٍ يُخَاصِمُهُ قَالَ فَجَاءَ عَلِيُّ حَتَّى جَلَسَ إلى جَنْبِ شُرَيْحٍ قَالَ يَا شُرَيْحُ لَوْ كَانَ خَصْمِيْ مُسْلِمَاً مَا جلستُ إلا مَعَهُ وَلَكِنَّهُ نَصْرَانِيٌّ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( إذا كُنْتُمْ وَإيَّاهُمْ في طَرِيْقٍ فَاضْطرُّوْهُمْ إلى مَضَايِقِهِ وصَغِّرُوْا بِهِمْ كمَا صَغَّرَ اللهُ بِهِم مِنْ غَيْرِ أنْ تَطْغَوْا ) ثمَّ قَالَ: هَذَا الدِّرْعُ دِرْعِىْ وَلَمْ أَبعْ وَلَمْ أهَبْ.فَ
قَالَ شُرَيْحٌ لِلنَّصْرَانِيّ: مَا تَقُولُ فِيمَا يَقُولُ أَمِيرُ المُؤمِنينَ
فَقَالَ النَّصْرَانِيّ: مَا الدِّرْعُ إلاّ دِرْعِيْ، وَمَا أميْرُ المُؤمِنينَ عِنْدِيْ بِكاذِبٍ فَالْتَفَت شُرَيْحٌ إلى أميْرِ المُؤمنينَ عَلَىّ بْنِ أِبيْ طَالِبٍ فَقَالَ لَهُ: هَلْ مِنْ بَيِّنَةٍ فَضَحِكَ عَلِيٌّ رَضَيَ اللهُ عَنْهُ، وَقَالَ أصَابَ شُرَيْحٌ مَالِي فَقضَى شُرَيْحٌ بِهَا لِلنَّصْرَانِيّ.
قَالَ فَأَخَذَهُ النَّصْرَانِيّ وَمَشىَ خُطاً ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ أمَّا أَنَا فَأَشْهَدُ أنَّ هَذِهِ أَحْكَامُ الأنْبِيَاءِ، أمِيْرُ المُؤمِنِيْنَ يُدْنْيِنْي إلى قَاضِيْهِ يَقْضِيْ عَلَيْهِ؟
أَشْهَدُ أَنْ لاَ إلَهَ إلاَ اللهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُولُه، الدِّرْعُ وَاللهِ دِرْعُكَ يَا أَمِيْرَ المُؤمنْينَ، اتَّبَعْتُ الجَيْشَ وأنْتَ مُنْطَلِقٌ إلى صِفِينَ فَخَرَجَتْ مِنْ بَعْيِركَ الأَوْرَقِ فَقَالَ أمَّا إذَا أسلَمْتَ فهِيَ لَكَ، وَحَمَلَهُ عَلَى فَرَسٍ.
(من كتاب موارد الظمآن لدروس الزمان /40).
5-تنفيذ الحد رحمة للجاني، وكفارة لذنبه
إن المجتمع الذي يشفع في حدود الله مجتمع ظالم، والمجتمع الذي لا يعين على تطبيق شرع الله مجتمع ظالم، والمجتمع الذي يرى الظالم والسارق والقاتل وقاطع الطريق ثم لا يأخذ على أيديهم مجتمع ظالم.
ألم تعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غضب يومَ أن شفع أسامة بن زيد في المرأة التي سرقت لأنها كانت شريفة في قومها
( أتشفع في حدٍّ من حدود الله يا أسامة؟! ) (البخاري /3475، ومسلم/ 1315).
ألا ليت الناس يعلمون أن عذاب الدنيا أهون من عذاب النار يوم القيامة.
ما بال بعض الناس تثور ثائرتهم، وتنتفخ أوداجهم، ويؤلبون بعضهم عند تنفيذ حكمٍ على مجرمٍ أو مذنبٍ؟
عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقابه ) (صحيح الجامع/ 1971).
إنه مهما بلغ المذنب من الوجاهة والكرامة في عشيرته أو في سلطانه أو في ماله أو في قوته؛ فإن حكم الله يشملُه،
( لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا ) (البخاري /3475، ومسلم/ 1315).
( إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ، أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الحَدَّ.. ) (البخاري /3475، ومسلم/ 1315).
يقول رب العزة سبحانه: ( فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) (النساء: 65)
لا يستقيم لك إيمانٌ إلا إذا حكَّمت شرع الله فيما شجر بينك وبين إخوانك، بل وحتى لا تجدَ حرجاً في نفسكَ مما قُضِيَ في حقك، ولو كان الحُكْمُ ضاراً بك في الدنيا، فإنه مطهِّرٌ لك يوم القيامة.
بل حريٌ بك أن تذهب أنت وتشهد على نفسك أمام القضاء فيما اقترفته يداك! نعم تذهب أنت وتشهد على نفسك وتُقِرُّ بجرمك، تطبيقاً لأمر الله جل وعلا: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ) (النساء: 135).
وقوله : ( فَلَا تَتَّبِعُوا۟ ٱلْهَوَىٰٓ أَن تَعْدِلُوا۟ ) أي: فلا يحملنكم الهوى والعصبية، على ترك العدل، لذلك هدّدهم في ختام الآية بقوله: ( وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ).
وإن أي إنسان لا تنفع معه كل وسائل الوعْظ والتوجيه، وكل عوامل الارتقاء الموجودة في مجتمع الإيمان لا يَستحِقُّ أي رحمة أو شفقة، فكما أن الإنسان يرضى عن طواعية أن يُستأصَل العضو الفاسد من جسده خَشية من تَسرُّب الفساد إلى أعضاء الجسد الأخرى إن أبقاه، فكذلك توقيع العقوبة على المجرمين.
تطبيق الحد على الجاني كفارة لذنبه:
في صحيح مسلم عندما جاءت الغامدية إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالت: ( يا رسول الله زنيت فطهرني..) (مسلم/ 1695).
جاءت تطلب الطهارة من الذنب في الدنيا؛ لأنها تعلم أنه مهما كانت العقوبة شديدة في الدنيا فإنها أهون من عذاب الله يوم القيامة.
يرى جمهور الفقهاء أنّ الحدّ المقدّر في ذنبٍ يكون كفّارة لذلك الذّنب، لما ثبت في الصحيحين عن عبادة بن الصامت قال: ( كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس، فقال: تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تزنوا، ولا تسرقوا، ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلا بالحق، فمن وفّى منكم فأجره على الله، ومن أصاب شيئاً من ذلك فعوقب به، فهو كفارة له، ومن أصاب شيئاً من ذلك فستره الله، فأمره إلى الله إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذبه ).متفق عليه.
فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الحدود كفارات ومطهرات لمن اقترف هذه الكبائر، ومن ستره الله ولم تقم عليه هذه الحدود، ولم يتب فأمره مفوض لربه إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، قال تعالى: ( إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا ) (النساء: 48).
وعند الحنفيّة: الحدّ غير مطهّر، بل المطهّر التّوبة، فإذا حُدَّ ولم يتب يبقى عليه إثم المعصية عندهم.
وإن تاب وأُقيم عليه الحد فإنه ينجو من عذاب ذلك الذنب الذي اقترفه.
فإذا ما زلَّت قدمُ إنسان أو جماعة بجريمة مهما عَظُمت، فإن الشريعة المطهَّرة تفتح أمامهم ضياء مملوءًا بالأمل المُشرِق و بالحياة النظيفة السليمة البعيدة عن الجرائم، ذلك الضياء هو التوبة،
فإن عادوا فرِح الله بتوبتهم فرحًا شديدًا أشدّ من فرحِ مَن ضلَّت عنه ناقته وهو في الصحراء، وعليها طعامه وشرابه ثم وجدها،
﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾ (البقرة: 222).
http://shamkhotaba.org