تسجيل صوتي لخطبة الجمعة من حمص للشيخ عبدالرحمن الضحيك
بعنوان:
( الجبن داءٌ قتّالٌ )
قال تعالى: ( لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ).
عباد الله،
إن المتتبع لأحوال بلادنا في السنوات الأخيرة، يرى عياناً أن الأمة مقبلة على ملاحم، بل ومعارك شرسة، ويبصر حقيقة صعبة، وهي أنه ليس هناك إلا نصال ونضال، وصهيل وعويل، وإراقة دماء، وتمزق أشلاء، لا يعلم نهايتها إلا الله وحده.
وإن من أشد ما يفت في عضد الأمة وينخر في ساقها خلق ذميم لا يتصف به إلا عبيد الشهوات، ولا يستسيغه إلا أصحاب الخور والضعف، هذا الخلق الذميم هو الجبن.
الجبن مرض خسيس، يورث المهالك، ويقعد بصاحبه عن معالي الأمور، ويرضيه بالأدنى، ويجعله قرين الذل، ورفيق الهوان.
الجبن دليل على ضعف القلب، وانطوائه على أمر يخاف الإنسان من إظهاره، ولذا حكى الله عن المنافقين فقال: ( يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ).
والجبن والخور والعجز من أسوء ما يوصف به الرجال، في سنن أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( شر ما في الرجل شح هالع وجبن خالع ).
وفي البخاري عن عَمْرَو بْنَ مَيْمُونٍ الأَوْدِيَّ قَالَ:( كَانَ سَعْدٌ يُعَلِّمُ بَنِيهِ هَؤُلاَءِ الكَلِمَاتِ كَمَا يُعَلِّمُ المُعَلِّمُ الغِلْمَانَ الكِتَابَةَ وَيَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَعَوَّذُ مِنْهُنَّ دُبُرَ الصَّلاَةِ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الجُبْنِ، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ العُمُرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ ).
قيل لعلي بن أبي طالب: كيف تصرع الأبطال؟ قال: إذا لقيته كنتُ أقدِّر أني أقتله، ويقدِّر هو أني قاتلُه فأجتمع أنا ونفسُه عليه فنهزمُه. وكان يقول: والذي نفس أبي طالب بيده لألف ضربة بالسيف أهون عليّ من موتة على فراش.
قيل لعنترة: كيف تغلب الأبطال؟ قال: أبدأ بالجبان فأضربه فأقسمه قسمين، فإذا رأى الشجاعُ الجبانَ مقسوماً فرّ مني، وقيل له: كيف تنتصر على الناس؟ قال: بالصبر.
لقد تنزّلت آيات تربّي النفوس على خلُق البطولة، فالنصر بعيد عن الجبناء، وبعيد عن المهازيل، ولقد توجّهت الآيات الكريمة إلى النفوس تنقّيها من رذيلة الجبن والإحجام، وتنذرها بسوء عاقبة الجبناء، اقرؤوا وتدبروا قول الله عز وجل: ( كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً )، فالآية صريحة في أن الجبان يُبتلى بذي قوة لا يعرفُ للعهد رحمة، ولا يقيم للعدل وزنا، ولا يعرف للحق طريقاً.
ولقد سجّل الشجعان وصدّقت الحكماء أن الموت في مواطن البطولة أشرف من حياة يكسوها الذل ويغمرها الهوان، والحر يلاقي المنايا ولا يلاقي الهوان، ومن العجز أن يموت الفتى جباناً.
وآيةٌ أخرى في كتاب الله تفضح فئات من الجبناء الخوارين، أنكروا رجولتهم، ودفنوا كرامتهم، وقعدوا مع فئات لم تُخلق للضرب ولا للطعان، ( رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوالِفِ ). ولا يتوارى عن هواتف الشرف أو دواعي البطولة إلا من كان حظه من الرجولة ضئيلاً، ومن الكرامة منقوصاً.
وإليكم -أيها الإخوة- صورة من صور الشجاعة، والتغلب على الجبن والخوف.
ها هوَ الإمامُ الأوزاعي ذلكم الإمامُ المحدثُ الورعُ الفقيه. حين دخل عبدُ الله بن علي ذلكم الحاكمُ العباسيُ دمشقَ في يوم من الأيام فيقتلُ فيها ثمانية وثلاثين ألفَ مسلم. ثم يُدخِلُ الخيولَ مسجدَ بني أميةَ، ثم يتبجحُ ويقول: من ينكرُ عليَّ فيما أفعل؟ قالوا: لا نعلمُ أحداً غير الإمام الأوزاعي. فأرسَلَ من يستدعيه، فعلمَ الأوزاعي أنه الامتحان، وعلم أنه الابتلاء، فماذا كان منه؟ قامَ واغتسلَ، وتحنطَ وتكفن، ولبس ثيابه من على كفنه، ثم أخذ عصاه في يده، ثم اتجه إلى من حَفِظهُ في وقت الرخاء فقال: يا ذا العزةِ التي لا تضام، والركنَ الذي لا يرام، يا من لا يهزمُ جندُه، ولا يغلبُ أولياؤهُ، أنتَ حسبي ومن كنتَ حسبَه فقد كفيتَه، حسبي اللهُ ونعم الوكيل. ثم انطلق -وقد التجأَ إلى الله سبحانه وتعالى- انطلاقة الليث إلى ذلك الحاكم. قال: فدخلتُ وإذا السيوف مصلتة، وإذا السماط معد. قال: فدخلتُ، ووالله ما تصورتُ في تلك اللحظةِ إلا عرشَ الرحمنِ بارزا، والمنادي ينادي: فريقٌ في الجنة وفريقٌ في السعير. فوالله ما رأيتُه أمامي إلا كالذباب، والله ما دخلت بلاطه حتى بعْتُ نفسي من الله جل وعلا.
قال: فانعقدَ جبينُ هذا الرجل من الغضب ثم قال له: أأنتَ الأوزاعي؟ قال: يقولُ الناسُ أني الأوزاعي. قال: ما ترى في هذه الدماء التي سفكنا؟ قال: حدثنا فلان عن فلان عن فلان، عن جَدك ابن عباس وعن ابن مسعود وعن أنس وعن أبي هريرة وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يحلُ دمُ امرئ مسلمٍ إلا بإحدى ثلاث، الثيبُ الزاني، والنفسُ بالنفسِ، والتاركُ لدينه المفارقُ للجماعة ). قال: فتلمظَ كما تتلمظُ الحية، وقام الناس يتحفزون، ويرفعون ثيابهم لئلا يصيبَهم دمي، ورفعتُ عمامتي ليقعَ السيفُ على رقبتي مباشرة. وإذ به يقول: وما ترى في هذه الدور التي اغتصبنا، والأموالِ التي أخذنا؟ فقال: سوفَ يجرِّدُك اللهُ عرياناً كما خلقَك، ثم يسأُلك عن الصغيرِ والكبيرِ، والنقيرِ والقطميرِ، فإن كانت حلالاً فحساب، وإن كانت حراماً فعقاب. قال: فانعقدَ جبينه مرة أخرى من الغضبِ، وقام الوزراء يرفعون ثيابهم، وقمت لأرفع عمامتي ليقع السيف على رقبتي مباشرة. قال: وإذ به تنتفخ أوداجه ثم يقول: اخرج. قال: فخرجت، فوالله ما زادني ربي إلا عزا. ثم ترك الشام وسكن بيروت إلى أن توفاه الله. ثم جاء هذا الحاكم ومر على قبر الأوزاعي، ووقف عليه وقال: والله ما كنتُ أخافُ أحداً على وجهِ الأرضِ كخوفي هذا المدفون في هذا القبر. واللهِ إني كنتُ إذا رأيتُه رأيتُ الأسدَ بارزاً.
قال الذهبي رحمه الله في سير أعلام النبلاء: " قَدْ كَانَ عَبْدُ اللهِ بنُ عَلِيٍّ مَلِكاً جَبَّاراً، سَفاكاً لِلدِّمَاءِ، صَعْبَ المِرَاسِ، وَمَعَ هَذا فالإِمَامُ الأَوزَاعِيُّ يَصْدَعُهُ بمُرِّ الحَقِّ كَمَا تَرَى، لاَ كَخَلْقٍ مِنْ عُلَمَاءِ السُّوءِ الَّذِيْنَ يُحَسِّنُوْنَ لِلأُمَرَاءِ مَا يَقتَحِمُونَ بِهِ مِنَ الظُّلمِ وَالعَسْفِ، وَيَقلِبُونَ لَهُمُ البَاطِلَ حَقّاً -قَاتَلَهُمُ اللهُ- أَوْ يَسكُتُوْنَ مَعَ القُدْرَةِ عَلَى بَيَانِ الحَقِّ ". اهـ.
عباد الله، وإن مما يقوي القلب، ويشحذ الهمم ويربي في النفس الشجاعة، ويقضي على الخوف والجبن ما نراه من بطولات على الجبهات والتي ستزيح عن الأمة كابوس النظام المجرم الغاشم، نسأل الله أن يأخذه أخذ عزيز مقتدر.
إن الأمة التي تأبى الضيم بحق هي الأمة التي تلد أبطالاً، وتبذل كل مجهود في إعداد وسائل الدفاع، لا يقعُد بها هدنة خداعة، ولا يُلهيها غفلة عن الخائن.
إن تفاضل الأمم في التمتّع بالحرية والسلامة من أرجاس الضيم لا يتبيّن إلا بقدر ما فيها من شهامة الرجال، وما تدّخره من أدوات الرمي والطعان، فإذا ما اجتمع للأمة رأي وسيف وعزّة تجافت عنها المظالم.
أما الانهزاميون الذين لم يعدوا العدة فمثلهم ما ذكره المؤرخون عن قائد كان يضرب به المثل في الجبن أخذ القيادة بغير كفاية ولا قدرة ولا جدارة، أخذ الناس لقتال الأزارقة في بلاد فارس -وهم فئة من الخوارج- وكان مستهترا بهم حتى استعد الأزارقة وتترسوا وقووا كتائبهم فقال له أحدهم: «يا ابن أخي! خندق على نفسك، فاني لا آمن عليك البيات» فلم يفعل. وقال: «لهم أهون علي من ضرطة الجمل» فبيتوه واصطلموا عسكره. فكان هو أول من انهزم ودخل المدينة على بغلته، وترك الناس يُقتَّلون فقال الشاعر:
تركت أبناءنا تدمى نحورهم وجئت منهزما يا ضرطة الجمل
لذلك ينبغي التنبه والتيقظ دائما فعدونا خوان غدار، لا يثق به إلا كل أبله مغفل، نبهني الله وإياكم من رقدة الغافلين وحشرني وإياكم في زمرة خلص عباده الصالحين أقول هذا القول وأستغفر الله.
http://shamkhotaba.org