حاجة البيوت للتربية الإسلامية الصحيحة
الكاتب : رابطة خطباء الشام
الأربعاء 18 مايو 2016 م
عدد الزيارات : 4147
مقدّمة:
إن للأسرة دوراً عظيماً في بناء المجتمع؛ حتى تنتشر فيه الفضائل، وتنبذ الرذائل، فالأسرة هي اللَّبنةُ الأولى في بناء أي مجتمع، فإذا كانت هذه اللبنة مفكَّكةً منهارةً، فلا بد أن يكون المجتمع مفكَّكًا منهارًا، وإذا كانت هذه الأُسرة صُلْبةً متماسكة، فلا بد أن يكون المجتمعُ المتكوِّن منها صُلبًا متماسكًا كذلك.
ولَمَّا كان الإسلام الحنيف يعمل على تكوين المجتمع الإسلاميِّ القوي، فقد حرَص على تدعيم اللَّبِنة الأولى في البنيان الاجتماعي، وهي الأسرة، وعمل على إسعادِها وعلى تقوِيتها.
وفي هذا الصدد جاء بالمبادئ والقوانين التي تعمل على إحكام العلاقات والروابط داخل الأسرة، وعلى تقويتها وحِفظها من الضَّعف والانهيار، وأوجبَ على المجتمع أن ينفِّذ هذه المبادئ والقوانين، قال تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: 71] 
 

1- الأسرة أوّلاً
إن بناء الأسرة خير وسيلة لتهذيب النفوس وتنمية الفضائل التي تؤدي إلى قيام الحياة على التعاطف والتراحم والإيثار؛ حيث يتعوَّد أفرادها على تحمُّل المسؤوليات، والتعاون في أداء الواجبات، ومن خلال تحقيق هذه الأهداف الكبرى، يمكن أن تحقق هناك أهداف أخرى في ظلال الأسرة؛ مثل: إقامة شرع الله، وتحقيق مرضاته؛ لأن البيت المسلم ينبني على تحقيق العبودية لله تعالى، ولذلك ورد تعليل إباحة الطلاق حين تطلبه المرأة بالخوف من عدم إقامة حدود الله؛ قال تعالى: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾ [البقرة: 229] 
فالأولاد غرس الآباء، وثمرات أفئدتهم، فإن كان الوالد حريصاً على رعاية غرسه وتعاهده، وحمايته من الآفات التي قد تفسده أو تهلكه، فإنه يكون غرسا صالحا، مثمرا نافعا بإذن الله، وإن أهمله وتركه، ولم يعطه حقه من الرعاية والعناية، فإن مصيره في الغالب هو الهلاك والبوار، فيشقى بنفسه، ويشقى والديه ومجتمعه من حوله.
{قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر:15].
 
2- التّربية الإسلاميّة وأثرها على المجتمع
إنَّ ضرورتنا للتربية الإسلامية من أعلى الضرورات، وحاجتنا إليها أشد إلحاحاً من كل الحاجات، فما قيمة الأجساد والأبدان بلا قيم ولا إسلام؟ وما قيمة الصّور والأشباح بلا عقول ولا أرواح؟ وهل تغني القوالب إذا فسدت القلوب؟
في الأجساد تشترك كل الكائنات وفي البحث عن الطعام والشراب تُشاركُ الإنسانَ فصائلُ الحيوانات، وفي الحاجة إلى الغذاء والهواء يشترك المؤمنون والكفار، والأبرار والفجار، والأخيار والأشرار، ولكن بالمبادئ والقيم، بالتربية والتعليم، بالعقيدة والإيمان: يستقلُّ أهل الإسلام.
كم تعاني المجتمعات البشرية اليوم من مصائب وحوادث؟ وكم تجرعت من ويلات وكوارث؟ فلماذا ارتفعت معدلات الجرائم والفواحش بما يذهل العقول؟ لم يكن ذلك ليحدث إلا لمّا أُهْمِلت قضية التربية، وما تفشى الظلم والطغيان والفساد إلا لما أُسيئَت تربيةُ الإنسان، وانحرفت أخلاقياته، وانجرفت سلوكياته في مهاوي الردى والضياع. 
لقد خلفت خلوف ووجدت أجيال بعد أجيال، منتكسة الفطرة، معدومة التربية لا تعرف حقوق الله، ولا حقوق عباد الله، لا يحملون رسالة، ولا يحققون هدفاً ولا غاية، لا يعرفون معروفاً، ولا ينكرون منكراً، حياتهم لهو وبطالة، وأحوالهم شر وغواية، في الرذائل غارقون، وللفضائل تاركون، لا خير فيهم للبلاد والعباد، فأي جناية على المجتمع أعظم من هذه؟
إنَّ وجود أجيال في معزل عن التربية الحقة جريمة في حق المجتمع، وجناية على الأمة بأسرها؛ كم اشتكت المجتمعات من انحراف الأحداث! وكم اشتكى الآباء من تمرد الأبناء! وكم عانى الوالدان من العقوق، وإهمال أبنائهم في أداء الحقوق، متناسين أن مكمن الداء في هذه المشكلات كلها هو سوء التربية!
لذلك كان حقا على أهل الإسلام: أن يقوموا بمسؤولياتهم في تحقيق هذا الأمر بكل ما أوتوا من إمكانات، وأن تتكاتف في ذلك جميع القنوات: البيت والأسرة، الوالدان والأقارب، المدارس والجامعات، المساجد والمنتديات، المجتمع بكافة فئاته، وسائل الإعلام بشتى قنواتها، الكل يجدّ في التربية والبناء وغرس القيم والأخلاق في البنات والأبناء ليخرج جيل مثالي من الرجال والنساء.
 
3-الأمانة المهمّة (التّربيّة الإيمانيّة)
إن الأبناء أمانة في أعناق آبائهم فهل رعوا هذه الأمانة حق رعايتها؟ ألا فليتق الله أناس ضيعوا هذه الرعية التي سوف يسألون عنها، 
فعن ابن عمر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» قَالَ: - وَحَسِبْتُ أَنْ قَدْ قَالَ - «وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي مَالِ أَبِيهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ») متفق عليه، وهذا لفظ البخاري /893 
وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إِنَّ اللهَ سَائِلٌ كُلَّ رَاعٍ عَنْ مَا اسْتَرْعَاهُ حَفِظَ ذَلِكَ أَمْ ضَيَّعَ؟ حَتَّى يَسْأَلَ الرَّجُلَ عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ) صححه الألباني ( الصحيحة/ 1636) 
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: "مما يحتاج إليه الطفل غاية الاحتياج العناية بأمر خُلُقِه، فإنه ينشأ على ما عوده المربي في صغره، ولهذا نجد الناس منحرفة أخلاقهم، وذلك من قِبَل التربية التي نشأوا عليها". 
ويقول الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله: "الصبي أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذجة خالية من كل نقش وصورة، وهو قابل لكل نقش، ومائل إلى كل ما يمال إليه، فإن عُود الخير وعُلِّمه نشأ عليه، وسعد في الدنيا والآخرة، وشاركه في ثوابه أبواه وكل معلم له ومؤدب، وإن عُود الشر وأهمل إهمال البهائم شقي وهلك وكان الوزر في رقبة القيّم عليه والولي له، وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6].
إن الأبناء يتمثلون بالآباء ويحملون عاداتهم السلوكية، فإذا كان الأب مدخنا مثلا فإن انتقال هذه الظاهرة إلى الطفل أمر وارد، وقديما قيل:
وينشأ ناشئ الفتيان فينا     على ما كان عوده أبوه
 
4- بين رجال اليوم وصبيان الأمس
يلخص الفرق بين حال الأمة اليوم، وحالها وقت أن سادت العالم، الفرق بين رجال اليوم وصبيان الأمس.
رجالنا اليوم: بين مباريات الكرة، والمسلسلات المدبلجة، والأفلام الخليعة، والبرامج التافهة، وإضاعة الأوقات..
أما صبيان الصحابة فيمثلهم هذا الأثر:
عن سعد رضي الله عنه قال: (رأيت أخي عمير بن أبي وقاص -قبل أن يَعْرِضنا رسول الله صلى الله عليه وسلم- يوم بدر يتوارى، فقلت: ما لك يا أخي؟، قال: إني أخاف أن يراني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيستصغرني فيردني، وأنا أحبُّ الخروج لعلَّ الله أن يرزقني الشهادة.
قال: فَعُرِض على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فردَّه، فبكى فأجازه، فكان سعد رضي الله عنه يقول: فكنت أعقد حمائل سيفه من صغره، فقتل وهو ابن ست عشرة سنة). رواه ابن سعد؛ في الطبقات الكبرى؛ برقم:3/149 وذكره الحافظ؛ في الإصابة؛ برقم:4/603 
وكان الصحابة يصطحبون أبناءهم في المعارك حتى يشبوا على معاني الجهاد والشجاعة،
أخرج البخاري عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: (كَانَ فِي الزُّبَيْرِ ثَلَاثُ ضَرَبَاتٍ بِالسَّيْفِ إِحْدَاهُنَّ فِي عَاتِقِهِ» قَالَ: «إِنْ كُنْتُ لَأُدْخِلُ أَصَابِعِي فِيهَا) البخاري/3973
وروى البخاري أيضاً عن عروة:(أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالُوا لِلزُّبَيْرِ يَوْمَ اليَرْمُوكِ: أَلَا تَشُدُّ فَنَشُدَّ مَعَكَ؟ فَقَالَ: " إِنِّي إِنْ شَدَدْتُ كَذَبْتُمْ، فَقَالُوا: لاَ نَفْعَلُ، فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ حَتَّى شَقَّ صُفُوفَهُمْ، فَجَاوَزَهُمْ وَمَا مَعَهُ أَحَدٌ، ثُمَّ رَجَعَ مُقْبِلًا، فَأَخَذُوا بِلِجَامِهِ، فَضَرَبُوهُ ضَرْبَتَيْنِ عَلَى عَاتِقِهِ، بَيْنَهُمَا ضَرْبَةٌ ضُرِبَهَا يَوْمَ بَدْرٍ، قَالَ عُرْوَةُ: «كُنْتُ أُدْخِلُ أَصَابِعِي فِي تِلْكَ الضَّرَبَاتِ أَلْعَبُ وَأَنَا صَغِيرٌ» قَالَ عُرْوَةُ: «وَكَانَ مَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ يَوْمَئِذٍ وَهُوَ ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ فَحَمَلَهُ عَلَى فَرَسٍ وَوَكَّلَ بِهِ رَجُلًاالبخاري/3975 
 
5- اللبنة المهمّة (المرأة)
هناك جزئية لها أهميتها الخاصة في القضية التربوية العامة، ألا وهي العناية بتربية المرأة: بنتا، وأختا، وزوجة، لا سيما تنشئتها منذ الصغر على الفضيلة والحياء ولله در القائل:
 
من لي بتربية النساء فإنهــا            في الشرق علة ذلك الإخفاق
ربوا البنات على الفضيلة إنها                في الخافقين لهن خير وثاق
الأم مدرسة إذا أعددتهــــــا               أعددت شعباً طيب الأعراق.
 
فما عانت مجتمعات اليوم من المظاهر المحرمة، والمناظر المثيرة، إلا لمَّا أهملت تربية المرأة، وما عمَّت الفتنة بمظاهر التفسخ، والتبرج، والتبذل، والسفور، والاختلاط، إلا لمَّا أهملت تربية المرأة. فليتق الله القائمون على النساء من الأزواج والآباء، فليؤدبوهن، ويأخذوا على أيديهن، ويلزموهن بالقرار في البيوت، والحجاب الشرعي، حتى لا يَفتِنَّ، ولا يُفتَنَّ، فيأتين على بنيان التربية من القواعد.
{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33].
 
6- حال السّلف مع تربية أبنائهم
حينما نتكلم عن السلف الصالح في التربية، فإننا نتكلم عن أفضل العصور التاريخية على الإطلاق في تنشئة الجيل الصاعد، فهم يربونهم تربية دينية منشؤها الكتاب والسنة، ويعتنون بالصغار عناية شديدة، سواء في المجال الديني أو النفسي أوغير ذلك، وهناك أمثلة كثيرة على هذا، سنحاول قدر الإمكان حصرها في نقاط، لعلنا ندرك ما كان عليه هؤلاء الأبطال من خير عظيم، ونحاول أن نجبر الخلل الذي وقعنا به في تربية أبنائنا، ومن ذلك:
أ- تربيتهم بالقدوة:
فقد ذكر ابن الجوزي عن نفسه أنه كان يتأثر ببكاء بعض شيوخه أكثر من تأثره بعلمهم.
وقال عتبة بن أبي سفيان لمؤدب ولده: "ليكن أول إصلاحك لولدي إصلاحك لنفسك؛ فإن عيونهم معقودة بك؛ فالحسن عندهم ما صنعتَ، والقبيح عندهم ما تركتَ".
ب- تربيتهم على العلم والأدب والخير:
وهذا من تمام القيام بالأمانة التي وليها الوالدان، جاء في الأثر: "ما نحل والد ولدًا من نِحَل أفضل من أدب حسن".
كما أن السلف كانوا يقدمون الغالي والرخيص ليرغبوا الأطفال في العلم؛ فقد روى النضر بن شميل قال: سمعت إبراهيم بن أدهم يقول: قال لي أبي: يا بنيَّ! اطلب الحديث؛ فكلما سمعت حديثًا وحفظته فلك درهم. فطلبت الحديث على هذا.
وأرسل معاوية -رضي الله عنه- ابنه يزيد إلى عالم، فعلمه العربية وأنساب قريش والنجوم وأنساب الناس.
ولما دفع عبد الملك وُلْده إلى الشعبي يؤدبهم قال: علمهم الشعر يمجدوا وينجدوا، وحسِّن شعورهم تشتد رقابهم، وجالس بهم علية الرجال يناقضوهم الكلام.
قال الشافعي حفظت القرآن وأنا ابن سبع سنين، وحفظت الموطأ وأنا ابن عشر، وحفظ سهل بن عبد الله القرآن وهو ابن ست سنين، وغيرهم كثير.
وقال سهل بن عبد الله التستري: كنت وأنا ابن ثلاث سنين أقوم بالليل فأنظر إلى صلاة خالي محمد بن سوار، فقال لي يوما: ألا تذكر الله الذي خلقك؟ فقلت: كيف أذكره؟ فقال: بقلبك عند تقلبك بثيابك ثلاث مرات من غير أن تحرك به لسانك، الله معي الله، الله ناظري، الله شاهدي، فقلت: ذلك ليالي ثم أعلمته، فقال: قل كل ليلة سبع مرات، فقلت: ثم أعلمته، فقال: قل كل ليلة إحدى عشر مرة، فقلته: فوقع حلاوته في قلبي، فلما كان بعد سنة قال لي خالي احفظ ما علمتك، ودم عليه إلى أن تدخل القبر، فإنه ينفعك، ثم، قال لي خالي يوماً يا سهيل: من كان الله معه وناظراً إليه وشاهده أيعصيه؟ إياك والمعصية. فكنت أخلو بنفسي، فبعثوا بي إلى المدينة، فمضيت إلى الكتاب، فتعلمت القرآن، وحفظته، وأنا ابن ست سنين أو سبع سنين، وكنت أصوم الدهر وقوتي من خبز الشعير اثنتي عشرة سنة.
وبنات السلف كن يحفظن حديث النبي صلى الله عليه وسلم، قال الزبيدي: "كان للإمام مالك ابنة تحفظ علمه، يعني الموطأ، وكانت تقف خلف الباب، فإذا أخطأ التلميذ، نقرت الباب".
وكان عروة بن الزبير يسمع الحديث على خالته عائشة وهو غلام، وكان السلف يعلمون أبناءهم المغازي والسير.
فعن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: "كان أبي يعلمنا المغازي، والسرايا، ويقول: يا بني إنها شرف آبائكم، فلا تضيعوا ذكرها".
جـ - حب الرسول صلّى الله عليه وسلّم:
ونلاحظ في سلوك أولاد الصحابة سرعة استجابتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتنفيذ أوامره.
ففي البخاري ومسلم عن أنس بن مالك قال: (أتى علَيَّ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأنا غلامٌ أُلاعِبُ الصِّبيانَ فسلَّم علينا ثمَّ دعاني لحاجةٍ لولا أنَّها كانت سِرًّا له لَحدَّثْتُكَ بها ولكنْ لا أُحدِّثُ بسِرِّ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أحَدًا مِن النَّاسِ) المعجم الأوسط:8893
وخدم أنس رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو طفل صغير، عمره عشر سنين، لمدة عشرة أعوام.
وجاء ابن الزبير وهو ابن سبع سنين أو ثمان؛ ليبايع الرسول صلى الله عليه وسلم، وأمره الزبير بذلك، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه مقبلاً وبايعه.
وكان أطفال الصحابة يقاتلون من يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم، وقصة معاذ ومعوذ ابني عفراء وقتلهم أبي جهل معروفة، عن عبد الرحمن بن عوف، أنه قال: (بينا أنا واقفٌ في الصفِّ يومَ بدرٍ . نظرتُ عن يميني وشمالي . فإذا أنا بين غُلامَينِ من الأنصارِ . حديثةٍ أسنانُهما . تمنيتُ لو كنتُ بين أضلَعَ منهما . فغمزني أحدُهما . فقال : يا عمِّ ! هل تعرف أبا جهلٍ ؟ قال : قلتُ : نعم . وما حاجتُك إليه ؟ يا ابنَ أخي ! أخبرتُ أنه يسبُّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ . والذي نفسي بيدِه ! لئن رأيتُه لا يفارقُ سوادي سوادَه حتى يموتَ الأعجلُ منا . قال : فتعجَّبتُ لذلك . فغمزني الآخرُ فقال مثلَها . قال : فلم أنشبْ أن نظرتُ إلى أبي جهلٍ يزول في الناسِ . فقلتُ : ألا تريانِ ؟ هذا صاحبُكما الذي تسألانِ عنه . قال : فابتدراه ، فضرباه بسيفِهما ، حتى قتلاه . ثم انصرفا إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ . فأخبَراه . فقال « أيكما قتلَه ؟» فقال كلُّ واحدٍ منهما : أنا قتلتُ . فقال «هل مسحتُما سيفَيكما ؟» قالا : لا . فنظر في السَّيفَين فقال: «كلاكما قتلَه»رواه مسلم 
د- تعليم القرآن:
أما تعليم القرآن فهو أصل راسخ من أصول التربية، وترسيخ العقيدة، قال الحافظ السيوطي: "تعليم الصبيان القرآن أصل من أصول الإسلام، فينشؤون على الفطرة، ويسبق إلى قلوبهم أنوار الحكمة، قبل أن تتمكن الأهواء منها، وقبل سوادها بفعل المعصية والضلال".
وقال ابن خلدون: "تعليم القرآن الولدان شعار من شعائر الملة، أخذ به أهالي الملة، ودرجوا عليه في جميع عصورهم؛ لما يسبق إلى القلوب من رسوخ الإيمان وعقائده، بسبب آيات القرآن ومتون الأحاديث، وصار القرآن أصل التعليم".
قال الشافعي حفظت القرآن وأنا ابن سبع سنين، وحفظت الموطأ وأنا ابن عشر. وحفظ سهل بن عبد الله القرآن وهو ابن ست سنين، وغيرهم كثير.
هـ - توثيق علاقتهم بالمسجد:
وقد ضاقت المساجد بالصبيان، حتى اضطر الضحاك بن مزاحم معلم الصبيان ومؤدبهم أن يطوف على حمار؛ ليشرف على مكتبه الذي بلغ عدد صبيانه ثلاثة آلاف صبي، وكان لا يأخذ أجراً على عمله.

http://shamkhotaba.org