(رمضان أقبل أيها المشتاق)
مقدمة:
يا من تبحث عن عفو الله ومغفرته:
هذه جنة الخلد تمشي على الأرض بين يديك، ورحمات ربك المنزلة تعرض نفسها عليك، وصوت الحادي ينادي: قد جاءك شهر رمضان شهر العتق من النيران والقرب من الرحمن.
يا من ترجو الجنان، وتأمل العتق من النيران:
الرحلة لا تمرُّ على طريق الكسل، والقافلة ليس من زادها طول الأمل، ها قد أظلّكَ شهر كريم، تفتَّح فيه أبواب الجنان وتغلّقُ أبواب النيران، وتصفّدُ الشياطين، فيه ليلة خير من العمر كله؛ فهيا كحل عيونك بالسهر، وأسرج جوادك للسفر، واعلم أن هجر الوسادة ثمن السيادة، اصدق مع الله ولو مرة وسترى العجب، أنت مدعو على موائد الكرم الإلهي والأجر الرباني وحقٌ على المزور أن يكرم زائره.
1- رمضان نعمة عظيمة
ما أشبه الليلة بالبارحة، هذه الأيام تمرّ سريعة و كأنها لحظات، بالأمس استقبلنا رمضان ثم ودعناه، وما هي إلا أشهر مرت كساعات فإذا بنا على أبواب هذا الشهر من جديد، وكم عرفنا أقواماً أدركوا رمضان أعواماً وهم اليوم من سكان القبور ينتظرون البعث والنشور، وربما يدرك بعضنا رمضان هذا وبعضنا لا يدركه.
إن إدراكنا لرمضان نعمة ربانية ومنحة إلهية، فهو بشرى تساقطت لها الدمعات وانسكبت لها العبرات.
في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب جهنم وسلسلت الشياطين)
وفي رواية مسلم (فتحت أبواب الرحمة).
كان الصالحون يعدون إدراك رمضان من أكبر النعم، فكان رمضان يدخل على أحدهم ولصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء،
كان رمضان يدخل عليهم وهم يترقبونه وينتظرونه، يتهيئون له بالصلاة والصيام والصدقة والقيام، أسهروا له ليلهم، وأظمئوا له نهارهم، فهو أيام معدودات فاغتنموها، ولو تأملت حالهم لوجدتهم بين باكٍ غُلِبَ بعبرته، وقائم غصَّ بزفرته، وساجد يتباكى بدعوته، كان يدخل على أقوام صدق فيهم قول الله عزوجل {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} سورة السجدة: 16.
لذلك كان من دعائهم " اللهم سلمني إلى رمضان، وسلم لي رمضان، وتسلمه مني متقبلاً "
وكان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه يبشر أصحابه بشهر رمضان، فقد روى أحمد من حديث أبي هريرة، قال: لما حضر رمضان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قد جاءكم رمضان، شهر مبارك، افترض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها، فقد حرم )
إن العبد ببلوغ رمضان وصيامه وقيامه يسبق الشهداء في سبيل الله الذين لم يدركوا رمضان .
فعن طلحة بن عبيد الله أن رجلين من بلي قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان إسلامهما جميعا فكان أحدهما أشدَ اجتهادا من الآخر ، فغزا المجتهد منهما فاستشهد ، ثم مكث الآخر بعده سنة ، ثم توفي ، قال طلحة: فرأيت في المنام بينا أنا عند باب الجنة ، إذا أنا بهما فخرج خارج من الجنة فأذن للذي توفي الآخر منهما ، ثم خرج فأذن للذي استشهد ، ثم رجع إلي فقال: ارجع فإنك لم يأن لك بعد. فأصبح طلحة يحدث به الناس ، فعجبوا لذلك ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحدثوه الحديث، فقال: (من أي ذلك تعجبون؟) فقالوا: يا رسول الله ، هذا كان أشد الرجلين اجتهادا ثم استشهد ، ودخل هذا الآخر الجنة قبله!! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أليس قد مكث هذا بعده سنة؟) قالوا: بلى . قال: (وأدرك رمضان ، فصام وصلى كذا وكذا من سجدة في السنة) ، قالوا: بلى . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فما بينهما أبعدُ مما بين السماء والأرض)
الله أكبر .. إنه رمضان شهرُ المرابح ، زائرٌ زاهر، وشهر عاطِر، فضلُه ظاهر، بالخيراتِ زاخر، فحُثّوا حزمَ جزمِكم، وأروا الله خيرًا مِن أنفسكم، فبالجدّ فاز من فاز، وبالعزم جازَ مَن جاز، واعلَموا أنّ من دام كسله خاب أمله، وتحقَّق فشله..
رمضان .. شهرُ القبول والسّعود ، والعتقِ والجود ، والترقّي والصّعود، فيا خسارة أهلِ الرّقود والصّدود، فعن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (قال الله عزّ وجلّ: إذا تقرب العبد إلي شبرًا تقرّبت إليه ذِراعًا، وإذا تقرّب مني ذراعًا تقرّبت منه باعًا، وإذا أتاني مشيًا أتيته هرولة)
هذا نسيم القَبول هبّ، هذا سيلُ الخير صَبّ، هذا باب الخير مفتوح لمن أحبّ، هذا الشّيطان كبّ، فأقبلوا على الله وجدوا في السير إليه.
2- رمضان فرصتك للتغيير
رمضان فرصة للتغيير بأن تلتزم المساجد، تصلي مع المسلمين وتحضر دروس العلم فيها .
ولتعلم أن لك بكل خطوة تسعى إلى بيت الله عز وجل حسنة، وتحط عنك خطيئة، وتُرفع بها درجة، ولا تزال الملائكة تدعو وتستغفر للمصلي في مصلاه حتى ينصرف، ولا تزال في صلاة ما دامت الصلاة تحبسك، ثم صلاة الجماعة تفضل صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة.
ورمضان فرصة للتغيير بأن تحافظ على صلاة الفجر حاضرة بعد أن كنت تنام عنها وكانت تفوتك كثيرا، فوقت الفجر من أعظم الأوقات، وأعطيات الله تعالى للسائلين في ذاك الوقت أعظم الأعطيات، وركعتا سنة الفجر خير من الدنيا وما فيها، ومن صلى فرضها فهو في ذمة الله وحفظه، قال صلى الله عليه وسلم : (مَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فَهُوَ فِي ذِمَّةِ اللهِ)
وهي صلاة عظيمة مشهودة، قال تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} سورة الإسراء 78.
والذاهب إليها وإلى العشاء في الظلمة له النور التام يوم القيامة، قال صلى الله عليه وسلم (بشر المشائين في الظلم إلى المساجد، بالنور التام يوم القيامة)
ورمضان فرصة لمن كان ينام الليل كله ولا يركع لله فيه ركعات لأن يُروِّض نفسه على قيام الليل ولو بركعات خفيفات، غداً يأتي رمضان وتذوق طعم القيام لله ولذة مناجاته والبكاء بين يديه وتعلم أنك قادر على القيام مهما أصابك من التعب، في ذلك الوقت العظيم الذي يتنزل الله فيه ويطلب من عباده وينادي عليهم من له حاجة أو دعوة فليطلبها فالإجابة مضمونة، كما جاءنا في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ينـزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، يقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له)
وكلنا أيضاً يعلم حديث المصطفى عليه الصلاة والسلام في الأجر الوفير فيمن بقي في مصلاه بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس فقال :
(مَنْ صَلَّى الْغَدَاةَ فِي جَمَاعَةٍ ثُمَّ قَعَدَ يَذْكُرُ اللَّهَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَانَتْ لَهُ كَأَجْرِ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ, تَامَّةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ)
ورمضان فرصة للتغيير لمن كان مقصرًا في نوافل العبادات ؛ فلم يجعل له منها نصيباً، ولم يأخذ لنفسه قسماً يحافظ عليه، فيغير من حاله، ويبدل من شأنه ، ففي رمضان تتهيأ النفوس، وتقبل القلوب، وتخشع الأفئدة، فانتهز الفرصة وفيحافظ على شيء منها، فهي مكملة للفرائض متممة لها، قال صلى الله عليه وسلم: (إن أول ما يحاسب به العبد المسلم يوم القيامة الصلاة المكتوبة فإن أتمها وإلا قيل انظروا هل له من تطوع فإن كان له تطوع أكملت الفريضة من تطوعه ثم يفعل بسائر الأعمال المفروضة مثل ذلك)
ورمضان فرصة للتغيير لمن هجر القرآن قراءة وتدبراً ، وحفظاً وعملاً حتى أصبح القرآن نسياً منسياً ، أن يكون هذا الشهر بداية للتغيير ، فترتب لنفسك جزءاً من القرآن ، لا تنفك عنه بأي حال من الأحوال ، ولو كان هذا الجزء يسيراً ، فأحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل ، وقليل دائم ،خير من كثير منقطع ، ولا تنس الفضل الجزيل لمن قرأ كلام الله الجليل يقول النبي صلى الله عليه وسلم : (من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول الم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف)
ورمضان فرصة لمن تعود على حياة المترفين ، ونشأ على حب الدعة واللين ، أن يأخذ من رمضان درسا في تربية النفس على المجاهدة والخشونة في أمر الحياة ، فربما تسلب النعمة ، و تحل النقمة فالدنيا غدارة غرارة مناحة مناعة ، وإقبال الدنيا كإلمامة ضيف ، أو غمامة صيف ، أو زيارة طيف ،عن أبي عثمان النهـدي قال : أتانا كتاب عمر بن الخطاب : "اخشوشنوا واخشوشبوا واخلولقوا وتمعددوا كأنكم معد وإياكم والتنعم وزي العجم" أي العيش الخشن الذي تعرفه العرب.
ورمضان فرصة للتغيير من أخلاقنا فمن جبل على الأنانية والشح وفقدان روح الشعور بالجسد الواحد ، فشهر الصوم مدرسة عملية له، وهو أوقع في نفس الإنسان من نصح الناصح ، وخطبة الخطيب ، لأنه تذكير يسمعه ويتلقنه مِنْ صَوْتِ بطنه إذا جاع ، وأمعائه إذا خلت ، وكبده إذا احترت من العطش ، يحصل له من ذلك تذكير عملي بـجوع الجائعين ، وبؤس البائسين ، وحاجة المحتاجين ، فتسمح نفسه بأداء حق الله إليهم ، وقد يجود عليهم بزيادة ، فشهر الصيام شهر الجود والمواساة .
ورمضان فرصة لمن كان قليل الصبر ، سريع الغضب ، أن يتعلم منه الصبر والأناة . فأنت الآن تصبر على الجوع والعطش والتعب والنصب ساعات طويلة ، ألا يمكنك - أيضاً - أن تعود نفسك من خلال شهر الصبر.
الصبر على الناس وتصرفاتهم وأخلاقهم ، وما يفعلونه تجاهك من أخطاء ، وليكن شعـــارك الدائم قوله تعالى {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} سورة آل عمران:134
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضـَبِ)
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من كظم غيظا وهو يستطيع أن ينفذه ، دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره في أي الحور شاء)
ورمضان فرصة لمن كان يأكل الحرام من خلال أكل الربا أو التلاعب في البيع والشراء أو بيع المحرمات ، أو سرقة أموال الناس أن يغير من حاله ، وأن يبدل من شأنه ، وأن يدع أكل الحرام . فإن الله تعالى يحاسب على النقير والقطـمير فحـذار يرحمك الله أن تزل قـدمك بعد ثبوتها !! يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة لحم ودم نبتا على سحت ، النار أولى به)
3- ما ينبغي على المسلم أن يقدمه بين يدي شهر رمضان
أ- ينبغي على المسلم أن ينوي استغلال رمضان على أكمل الوجوه التي يستطيعها، فرمضان أيام معدودات سرعان ما ينقضي ويترك خلفه حسرة المقصرين وفرحة الطائعين المقبلين، وما قول الله عنه: {أياماً معدودات} إلا إشعاراً لنا بقرب رحيله وسرعة انتقاله.
ب- إن أهل التجارة في الدنيا يحرصون على استغلال مواسم التجارة فيكِّدسون فيها بضاعتهم ويبذلون رؤوس أموالهم ويُجهدون أنفسهم ابتغاء كسب الأرباح، وحريٌّ بالمؤمن في تجارته مع الله أن يكون أكثر إقبالاً من أهل الدنيا على دنياهم، وأكثر بذلاً لرأس ماله -وهو وقته- من بذلهم لرؤوس أموالهم، فالتجارة مع الله لا تخسر، ورمضان من أعظم تلك المواسم فمن خسر فيه متى يربح؟! ومن أعرض فيه متى يُقبِل؟!عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد المنبر، فقال: (آمين آمين آمين، قيل: يا رسول الله، إنك حين صعدت المنبر قلت: آمين آمين آمين، قال: أتاني جبريل فقال: يا محمد! من أدرك أحدَ والديه فمات فدخل النار فأبعده الله قل: آمين فقلت: آمين قال: يا محمد من أدرك شهر رمضان فمات فلم يغفر له فأُدخل النار فأبعده الله قل: آمين فقلت: آمين قال: ومن ذكرتَ عنده فلم يصلِّ عليك فمات فدخل النار فأبعده الله قل: آمين فقلت: آمين)
وروى البخاري عن ابن عباس قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة"
قال ابن حجر في فتح الباري: في هذا الحديث فوائد: "منها تعظيم الشهر، واختصاصه بنزول القرآن فيه، ومدارسته فيه، وكثرة نزول جبريل وفي كثرة نزوله من توارد الخيرات مالا يحصى، ومداومة التلاوة توجب زيادة الخير، واستحباب تكثير العبادة في أواخر العمر"
ت- الفرح والسرور بقدوم رمضان: فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يفرح حيث كان أجود ما يكون في رمضان، والجود صفة مقترنة بالفرح والسرور، ألا ترى إلى من يحصل له أمر يسرّه كيف يسارع إلى الإنفاق أو الهدية.
ث- اصلاح ذات البين: فإن فساد ذات البين هي الحالقة، تحلق الدين لا الشعر، والمتشاحنون لا ترتفع لهم إلى الله أعمال.
ج- استقباله بالدعاء: فلا أحد يعينك على الطاعة إلا الله.
ح- استقباله بصفحة مشرقة: مع الله بالتوبة، ومع النبي بالاتباع والطاعة، ومع الأرحام بالصلة، ومع الناس برد الحقوق والإحسان.
خ- ومن أهم ما تستعد به لرمضان: التخطيط والعزم الصادق على استغلاله من خلال برنامنج يومي مكتوب/ ورد قرآني، صدقة، صلة، صلاة الجماعة، الدعاء، درس للأهل، حلقة تحفيظ في البيت، تفطير صائم.. /
اللهم بلغنا رمضان وسلمنا له وسلمه لنا واعتقنا فيه من النار واجعلنا من المتقين الأبرار.
http://shamkhotaba.org