مقدمة:
جاء رمضان لهذه الأمة ليرفع مقدارها بين الأمم، ليجعلها أمة تتعالى على حطام الدنيا، وتتسامى على الخسيس الفاني، أمة مجاهدة، أمة قائدة، أمة ربانية، و سر عزها وسر قوتها أنها انتصرت على كل شهوات النفس الحسية والمعنوية، ففي هذا الشهر يعيش المسلم وقد منع نفسه عن كل شهوة مباحة وغير مباحة، يعيش فترة يقول لنفسه بكل شجاعة وقوة وصبر، لا يا نفس لن تأكلي ولن تشربي لن تنالي شهوتك حتى يأذن لك ربي..
من أعطي الصبر فقد أعطي الخير كله، فهو سر عجيب وأساس رفعة الإنسان وتميزه عن سائر الحيوان، فلا عجب أن يكون أجره كما قال تعالى : {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر 10]
1- الصبر أساس كل خلق جميل
إن الصبر هو الأساس الأكبر لكل خُلُقٍ جميل، والتنزه من كلِّ خُلُقٍ رذيل، وهو حبس النفس على ما تكره، وعلى خلاف مرادها طلباً لرضا الله وثوابه، ويدخل فيه الصبر على طاعة الله، وعن معصيته، وعلى أقدار الله المؤلمة، فلا تتم هذه الثلاثة التي تجمع الدين كله إلا بالصبر.
فالطاعات - خصوصاً الطاعات الشاقة كالجهاد في سبيل الله، والعبادات المستمرة كطلب العلم والمداومة على الأقوال النافعة والأفعال النافعة - لا تتم إلا بالصبر عليها، وتمرين النفس على الاستمرار عليها وملازمتها ومرابطتها، وإذا ضعف الصبر ضعفت هذه الأفعال وربما انقطعت.
وكذلك كفُّ النفس عن المعاصي - وخصوصاً المعاصي التي في النفس داعٍ قويٌ إليها - لا يتم الترك إلا بالصبر والمصابرة على مخالفة الهوى وتحمُّل مرارته.
وكذلك المصائب حين تنزل بالعبد ويريد أن يقابلها بالرضا والشكر والحمد لله على ذلك لا يتم ذلك إلا بالصبر واحتساب الأجر .
ومتى مرّن العبد نفسه على الصبر ووطّنها على تحمُّل المشاق والمصاعب وجدّ واجتهد في تكميل ذلك صار عاقبته الفلاح والنجاح، وقلّ من جدّ في أمر يطلبه واستصحب الصبر إلا فاز بالظفر .
2- إياك والتأفف من طول القيام ومشقة الصيام
بعض الناس تجده يجلس الساعات الطوال على جواله أو على المسلسلات والبرامج في رمضان، وتجده يقضي كثيرا من ساعات الليل في السهرات مع أصحابه وخلانه، تجده يجود بوقته في اعمال دنيوية قد لا يعود أكثرها عليه إلا بالضرر، وإذا ما وقف قليلاً بين يدي الله في صلاة التراويح أو القيام تجده يتأفف ويتضجر وقد ينسحب من إتمام الصلاة، ويذهب ليشكو طول الصلاة ويعترض على الإمام ويشكوه إلى الناس!!
سبحان الله!
عباد الله: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)
ولما قال: (مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)
ما قال ذلك إلا لأنه يعلم أن القيام يكون صعباً على النفس وخاصة التي لم تتعود القيام، قال ذلك لينبهك ويقول لك: إياك أن تتأفف من طول القيام أو من مشقة الصيام؛ كي لا يذهب أجرك وتخسر تعبك.
أيها الصائم القائم: عندما تأتي إلى المسجد لتصلي فانْوِ أن تتعب جسدك في طاعة الله خير لك من أن تتعبه في أعمال الدنيا الفانية.
نعم أتعب جسدك في التقرب إلى الله، انصب في العبادة، وارغب إلى ربك، {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح 7-8]
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم من الليل حتى تَرِمُ قدماه!
هل تعلم ما معنى حتى ترم قدماه؟
هل تظن أن القدم ترم بركعة أو ركعتين ؟
أو بقيام شهر أو شهرين؟
إن تشقق وتورم قدمي النبي صلى الله عليه وسلم سبقة زمن طويل ورصيد كبير من القيام وهو من هو؟
هو الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وعندما سُئِل عن ذلك قال: (أفلا أكون عبداً شكورا)
فكيف بنا وذنوبنا أرهقتنا، ومعاصينا أذلتنا، أفلسنا بحاجة لأن نتخفف منها بركعات بين يدي الله تعالى، وهو الذي فتح باب الرحمات في رمضان ودعانا إلى مائدة جوده وكرمه؟!
إياك أخي أن تتأفف من مشقة العبادة صم إيماناً واحتساباً، وقم إيماناً واحتساباً، لا تمنَّ على الله بعبادتك فالله غني عنك وعن عبادة جميع العالمين، أنت المحتاج إلى الله وأنت الفقير إليه {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر 15]
3- كل أنواع الصبر في رمضان
وإن شهر رمضان مدرسة عظيمة وصرح شامخ يستلهم منه العباد كثيراً من العبر والدروس النافعة التي تربي النفوس وتقوِّمها في شهرها هذا وبقية عمرها، وإن مما يجنيه الصائمون في هذا الشهر العظيم والموسم المبارك تعويد النفس وحملها على الصبر؛ ولذا وصف النبي الكريم صلى الله عليه وسلم شهر رمضان بشهر الصبر في أكثر من حديث، منها ما رواه الإمام أحمد وغيره من حديث أبي قتادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صَوْمُ شَهْرِ الصَّبْرِ وَثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ صَوْمُ الدَّهْرِ)
وصف النبي صلى الله عليه وسلم شهر رمضان بأنه شهر الصبر وذلك لأن رمضان يجتمع فيه أنواع الصبر كلها، الصبر على طاعة الله، والصبر عن معصيته، والصبر على أقدار الله المؤلمة ,فرمضان فيه الصيام، وفيه القيام، وفيه تلاوة القرآن، وفيه البر والإحسان والجود والكرم وإطعام الطعام والذكر والدعاء والتوبة والاستغفار وغير ذلك من أنواع الطاعات، والأحاديث في ذلك كثيرة، وكل هذه الطاعات تحتاج إلى صبر ليقوم بها الإنسان على أكمل الوجوه وأفضلها .
قال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا، كُتِبَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْءٌ..)
وعن ابن عباس "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مِنْ أَجْوَدِ النَّاسِ، وَأَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ، حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، يَلْقَاهُ كُلَّ لَيْلَةٍ يُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، أَجْوَدَ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ"
وصلة الرحم وإعانة المحتاج وبذل الابتسامة والدعوة إلى الله وكل إعمال البر في رمضان أجرها مضاعف عمّا سواه.
وفيه كفّ اللسان عن الكذب والغش واللغو والسب والشتم والصخب والجدال والغيبة والنميمة ومنع بقية الجوارح عن اقتراف جميع المعاصي، وهذا يكون في رمضان وفي غيره، والبعد عن هذه المعاصي يحتاج إلى صبر حتى يستطيع العبد حفظ نفسه عن الوقوع فيها .
قال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ)
وقال: (وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ)
ورمضان فيه ترك الطعام والشراب وما يتعلق بها ونفسه تتوق لذلك وكذلك حبس النفس عما أباحه الله من الشهوات والملذات كالجماع ومقدماته، وهذا لا تستطيع النفس إلا بالصبر .
لأن النفس لا تترك محبوباتها إلا لما هو أشد حباً عندها، فالصائم ما ترك هذه المباحات التي هي من حاجات الإنسان ومشتهياته إلا لأن الله أمره بذلك.
جاء في الحديث القدسي، يقول الله عز وجل: (الصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَأَكْلَهُ وَشُرْبَهُ مِنْ أَجْلِي،..)
ومن هنا تنمو مشاعر المحبة لله والطاعة لأمره في المنشط والمكره ويتعود العبد مراقبة الله في أوقات لا يطلع الناس عليه فيها.
4- الجهاد والصبر في رمضان
رمضان ليس شهر الكسل والنوم والدعة، رمضان شهر العمل والنشاط والفتوحات والبشارات، إن كثيرا من معارك المسلمين وانتصاراتهم كانت في شهر رمضان، بل إن شهر رمضان فرض في نفس السنة التي فرض فيها الجهاد وهي السنة الثانية للهجرة، ويجتمع في رمضان الصبر على مشقة الصيام والقيام، الصبر على الجهاد والتعب في سبيل الله.
فهنيئاً لكم يا أهل الشام فقد اجتمعت لكم هذه كلها.
إن الناس اليوم يعيشون في تعب وجهد وضنك وضيق من العيش، فإلى مشقة الصيام اجتمعت مشقة الجهاد، ولكن يا أيها الناس لا يدعوكم هذا إلى الضجر والسخط على الله، والله إن الله يريد أن يرفعكم ويعظم أجركم بصبركم.
كم ستعيش في هذه الحياة؟ كم ستتعب أو ترتاح؟ ما هي إلا أيام قليلة وسيرتاح هذا الجسد وتأنس تلك الروح، لكن لمن صبر واحتسب، لا لمن ضجر وسخط.
وتذكروا دائماً أن غمسة في الجنة تنسي ألام العمر، وغمسة في النار والعياذ بالله تنسي نعيم الدنيا.
عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فيصبغ في النار صبغة، ثم يقال: يا ابن آدم هل رأيت خيرا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا، والله يا رب ويؤتى بأشد الناس بؤسا في الدنيا، من أهل الجنة، فيصبغ صبغة في الجنة، فيقال له: يا ابن آدم هل رأيت بؤسا قط؟ هل مر بك شدة قط؟ فيقول: لا، والله يا رب ما مر بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط)
واعلموا أن لكم سلفاً صالحاً جاهد وعانى وجاع وعرِيَ في سبيل الله.
عن سعد قال: (إِنِّي لَأَوَّلُ العَرَبِ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَكُنَّا نَغْزُو مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا لَنَا طَعَامٌ إِلَّا وَرَقُ الشَّجَرِ، حَتَّى إِنَّ أَحَدَنَا لَيَضَعُ كَمَا يَضَعُ البَعِيرُ أَوِ الشَّاةُ، مَا لَهُ خِلْطٌ..)
وعن خباب بن الأرت، قال: هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل الله، نبتغي وجه الله، فوجب أجرنا على الله، فمنا من مضى لم يأكل من أجره شيئا، منهم مصعب بن عمير، قتل يوم أحد، فلم يوجد له شيء يكفن فيه إلا نمرة، فكنا إذا وضعناها على رأسه، خرجت رجلاه، وإذا وضعناها على رجليه، خرج رأسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ضعوها مما يلي رأسه، واجعلوا على رجليه الإذخر)، ومنا من أينعت له ثمرته، فهو يهدبها.
وقد أمر الله بالصبر وأثنى على الصابرين، وأخبر أن لهم المنازل العالية والكرامات الغالية في آيات كثيرة من القرآن وأخبر أنهم يوفون أجرهم بغير حساب قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200]
وقال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة:45]
وقال سبحانه: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:155ـ 157]
وقال تعالى: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:177]
وقال عز وجل:{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153]
وقال تعالى في جزاء الصابرين وأجرهم : {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10]
وقال صلى الله عليه وسلم: (وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ)
وقال صلى الله عليه وسلم : (واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب , وأن مع العسر يسرا)
http://shamkhotaba.org