صَوْمُ الجَوارحِ
الكاتب : رابطة خطباء الشام
الخميس 16 يونيو 2016 م
عدد الزيارات : 4132
مقدمة:
لقد هبت على القلوب نفحة من نفحات نسيم القرب، سعى سمسار المواعظ للمهجورين في الصلح، وصلت البشارة للمنقطعين بالوصل، وللمذنبين بالعفو، والمستوجبين النار بالعتق، فعلى المسلم أن يجعل من نفسه محلا قابلا لتنزل الرحمات والبركات، لأن هذا الشهر شهر فضل عظيم من الله تعالى من جهة، ومن جهة أخرى أن هذا الفضل لا يذهب إلا لأهله.
1- الصائمون هم السائحون
من هم السائحون؟ وما هي سياحتهم؟ هل هم الذين يجوبون الأرض طولاً وعرضاً، ويقضون أوقاتهم هباء وسدى؟ أو اكتشافاً وتطلعاً؟ كلا والله، لو عرفناهم وعرفنا سياحتهم لتمنينا أن نكون سائحين العام كله.
السائحون هم الصائمون، والسائحات هن الصائمات، وسياحة هذه الأمة الصيام، أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون؟ 
يا سائحون: بشرى لكم وفضيلة قول الله عزوجل: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة 112]. 
قال ابن جرير: "أما قوله السائحون:هم الصائمون"، وقالت عائشة رضي الله عنها: "سياحة هذه الأمة الصيام".
فأنعم بالصيام سياحة لهذه الأمة ترفع بها الدرجات، وتكفر بها الخطيئات، وتكسر بها الشهوات، ويستجلب بها الخيرات، ويقرع بها أبواب الجنات. 
إن الصوم أمانة فليحفظ أحدكم أمانته وليتق الله في أمانته عنده.
نصوم فإن الصوم من علم التقى     وإن طويل الجوع يوماً سيشبع
بعض الناس يصومون عن الأكل والشرب والجماع وغيره من المفطرات، ولا يصومون عن أشياء محرمة كالغيبة والنميمة والكذب ونحوها من المخالفات القولية والفعلية، وهذا لا شك أنه انتكاس في مفهوم الصوم، لأن الصوم تربية للصائم، فليس من المعقول أن يربيك الله على الإمساك عن بعض المباح، ثم لا تمسك عن المحرمات.
فالصوم إنما هو صوم الجوارح عن الآثام، وصمت اللسان عن فضول الكلام، وغض البصر عن النظر إلى الحرام، وكف الكف عن أخذ الحطام، ومنع الأقدام عن قبيح الإقدام، فكن كما شئت، فإنما تجني ما تغرس، ولا يدرك ألطاف العطايا الربانية إلا من ربّى للصوم قلبَه وفؤادَه .
2- خطر اللسان على الصائم
إن اللسان من نعم الله العظيمة، ولطائف صنعه الغريبة، فهو صغيرٌ حجمه، عظيم خطره وجرمه، وإننا ونحن بصدد الحديث عن صوم الجوارح وأخطرها صوم اللسان عما  حرم الله تعالى، حيث إن صوم اللسان عما حرم الله عزوجل من الغيبة والنميمة والسخرية والكذب والقذف والبهتان والسب والشتائم وغير ذلك من آفات اللسان المهلكه، إن صوم اللسان عن هذا كله شرط لحصول ثواب الصوم، وأما من أطلق عذبة اللسان، وأهملَه مرخيَّ العِنان، فإن الشيطان يسلك به طريق الهلاك، ويسوقه إلى جُرُفٍ هارٍ فانهار به في نار جهنم، فلا يكبُ الناسَ في النار على وجوههم إلا حصائدُ ألسنتهم، ولا ينجو الإنسان من شر اللسان إلا إذا قيده بلجام الشرع، فلا يطلقه إلا فيما ينفعه في الدنيا والآخرة، ويكفه عن كل ما يخشى غائلته في عاجله وآجله.
وحقا إن العاقل هو من يحافظ على صومه من المعاول الهدامة التي تحاول أن تهدم بنيان صومه، والغبي من يبذل جهدا في تحمله الجوع والعطش والتعب خلال ساعات الصوم الطويلة، ثم يأتي على بنيانه الذي شيده فيهدمه بمعول الغيبة للناس، فضلا عن الغيبة لمن رفعهم الله تعالى وكرمهم  كالعلماء والمجاهدين وأمثالهم، فيكون من الأخسرين أعمالا وهو يظن أنه قد أحسن صنعا، وفي الحقيقة كان من المفلسين يوم القيامة، لأنه لم يحترس من عدوه الذابح له.
قال صلى الله عليه وسلم: (أتدرون ما المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: «إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة، وصيام، وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار) رواه مسلم /2581
فيا من أطلق لسانه يفري في أعراض الناس سباً وشتماً وقذفاً وافتراءً، اتق الله في نفسك وفي المسلمين، ولا تكن يوم القيامة من المفلسين، لا تذهب تعبك ونصبك في طاعة الله بالغيبة والنميمة، تأتي يوم القيامة فتظن أن لك أعمالاً فإذا هي تذهب لأناس ظلمتهم وشتمتهم وضربتهم، فإياك إياك أخي المسلم، حسناتك حسناتك لا تعطها لغيرك، وسيئات غيرك لا تحملها على ظهرك فتطرح في النار.
ورحم الله القائل :
إحفظ لسانك واستعذ من شره         إن اللسان هو العدو الذابح
وزن الكلام إذا نطقت بمجلس         وزنا يلوح به الصواب اللائح
فالصمت من سعد السعود بمطلع     يحمي الفتى والنطق سبع ذابح
لما سلسل الشيطان في شهر رمضان، وخمدت نيران الشهوات بالصيام، انعزل سلطان الهوى، فلم يبق للعاصي عذر، فيا غيوم الغفلة عن القلوب تقشعي،  ويا شموس التقوى والإيمان اطلعي، ويا صحائف أعمال الصائمين ارتفعي، ويا قلوب الصائمين اخشعي، ويا أقدام المتهجدين اسجدي لربك واركعي، ويا عيون المجتهدين لا تهجعي، ويا ذنوب التائبين لا ترجعي، ويا أرض الهوى ابلعي ماءك ويا سماء النفوس اقلعي، قد مدت في هذه الأيام، موائد الإنعام للصوام، فما منكم إلا من دعي: {يا قومنا أجيبوا داعي الله} [الأحقاف:31].
فطوبى لمن أجاب فربح وأصاب، وويل لمن لم يلب النداء فطرد عن الباب. 
إن هذا الشهر مدرسة ربانية رحمانية تفتح أبوابها كل سنة شهرا كاملا يتدرب فيه العباد على طاعة الله عز وجل والإمساك عن معاصيه، فهو شهر الصيام والقيام وتلاوة القرآن والصدقة والعمرة وسائر الطاعات .
روى البخاري وغيره عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : قال الله: (كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره وإذا لقي ربه فرح بصومه) رواه البخاري 4/103
3- توجيه نبوي حكيم للصائم في رده على من جهل عليه
ما أجمل أن يتأدب المسلم بآداب الصوم ويتمثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم (فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم) رواه البخاري/ 103
ما بال بعض الناس إذا صام شتت أعصابه، وطار صوابه، وطفق يرمي بالعبارات الجافية القاسية أهله وأولاده وجيرانه، وزملاءه ومعامليه، وربما كان في غير حال الصوم هادئا وديعا خلوقا لطيفا؟!! ألا ما أروع قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فليقل إني امرؤ صائم)، إنه توجيه نبوي كريم، جاء في صورة الأمر المؤكد، يرشد الصائم إلى التزام منهج الصوم، وخلق الصوم، وما هذه العبارة التي يرشدنا المعصوم إلى فعلها إلا بمثابة صمام الأمان من آفات اللسان وخطر الجوارح، إنها وقاية للصائم تكبح جماح شهوته قولا وعملا، وما يزال هذا الهدي النبوي المحمدي بالصائم، حتى يجعله عبدا ربانيا، يعيش في ذروة الكمال الإنساني، فهو في ضوء هذا الدستور الحاسم (إني امرؤ صائم) يصبح من عباد الرحمن {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان 63].
ومن الذين قال الله فيهم:{وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص:55]
ولا يتم التقرب إلى الله تعالى بترك الشهوات المباحة في غير حالة الصيام، إلا بعد التقرب إليه بترك ما حرم الله في كل حال، من الكذب والظلم والاعتداء على الناس في دمائهم وأموالهم وأعراضهم، ولهذا قال النبي : (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه) رواه البخاري4/16
قال بعض السلف: "أهون الصيام ترك الشراب والطعام".
وقال جابر: "إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك سكينة ووقار يوم صومك، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء".
وكان السلف إذا صاموا جلسوا في المساجد وقالوا: "نحفظ صومنا ولا نغتاب أحدا".
والصائمون على طبقتين: 
أحدهما من ترك طعامه وشرابه وشهوته لله تعالى يرجو عنده عوض ذلك في الجنة، فهذا قد تاجر مع الله وعامله، والله تعالى لا يضيع أجر من أحسن عملا، ولا يخيب معه من عامله، بل يربح عليه أعظم الربح، فهذا الصائم يعطى في الجنة ما شاء الله من طعام وشراب ونساء، قال الله تعالى: {كُلُواْ واشربوا هَنِيئَاً بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِي الأيام الخالية}[الحاقة:24].
قال مجاهد وغيره: "نزلت في الصائمين".
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن في الجنة بابا يقال له الريان يدخل منه الصائمون لا يدخل منه غيرهم) رواه البخاري 4/111
 وفي رواية: (فإذا دخلوا أغلق), وفي رواية:(من دخل شرب ومن شرب لم يظمأ أبدا).
والطبقة الثانية من الصائمين من يصوم في الدنيا عما سوى الله، فيحفظ الرأس وما وعى، ويحفظ البطن وما حوى، ويذكر الموت والبلى، ويريد الآخرة فيترك زينة الدنيا، فهذا عيد فطره يوم لقاء ربه وفرحه برؤيته .
أهل الخصوص من الصوام صومهم صون اللسان عن البهتان والكذب, والعارفون وأهل الأنس صومهم صون القلوب عن الأغيار والحجب، العارفون لا يسليهم عن رؤية مولاهم قصر، ولا يرويهم دون مشاهدته نهر، هممهم أجلّ من ذلك .من صام عن شهواته في الدنيا أدركها غدا في الجنة، ومن صام عما سوى الله فعيده يوم لقائه، قال تعالى: {من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت} [العنكبوت:5].
وقوله عز وجل في الحديث القدسي: (كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به) معناه أن الأعمال كلها تضاعف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلا الصيام فإنه لا ينحصر تضعيفه في هذا العدد، بل يضاعفه الله عز وجل أضعافا كثيرة، بغير حصر عدد، فإن الصيام من الصبر وقد قال الله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}  [الزمر:10].
وقيل الحكمة في إضافة الصيام إلى الله عز وجل، أن الصيام هو ترك حظوظ النفوس وشهواتها الأصلية التي جبلت على الميل إليها، من الطعام والشراب والنكاح، ولا يوجد ذلك في غيره من العبادات.
قال بعض السلف: "طوبى لمن ترك شهوة حاضرة لموعد غيب لم يره"، وقيل: "لأن الصيام سر بين العبد وربه لا يطلع عليه غيره"، ولذلك قيل: "لا تكتبه الحفظة"، والله عز وجل يحب من عباده أن يعاملوه سرا.
اللهم اجعلنا ممن صام وقام رمضان إيماناً واحتساباً، وأعتق رقابنا من النار.

http://shamkhotaba.org