مقدّمة:
كان شهر رمضان ميداناً يتنافس فيه المتنافسون، ويتسابق فيه المتسابقون، ويحسن فيه المحسنون، تروّضت فيه النّفوس على الفضيلة، وتربّت فيه على الكرامة، وترفّعت عن الرّذيلة، ولكن ماذا بعد رمضان؟ هل تخرّجنا في مدرسة رمضان بشهادة التّقوى؟ وماذا بقي في قلوبنا من أثر شهر رمضان الكريم؟ وما هي أحوالنا بعد رمضان؟
1-ماذا استفدنا من رمضان؟!
ها نحن ودّعنا رمضان المبارك، ونهاره الجميل، ولياليه العطرة.
ها نحن ودّعنا شهر القرآن، والتّقوى، والصّب، والجهاد، والرّحمة، والمغفرة، والعتق من النّار.
فماذا جنينا من ثماره اليانعة، وظلاله الوارفة؟!
هل تحقّقنا بالتّقوى، وتخرّجنا من مدرسة رمضان بشهادة المتّقين؟!
هل تعلّمنا فيه الصّبر والمصابرة على الطّاعة، وعن المعصية؟!
هل ربّينا فيه أنفسنا على الجهاد بأنواعه؟!
هل جاهدنا أنفسنا وشهواتنا وانتصرنا عليها؟!
هل غلبتنا العادات والتقاليد السيئة؟!
هل... هل... هل...؟!
أسئلة كثيرة، وخواطر عديدة تتداعى على قلب كلّ مُسلم صادق، يسأل نفسه ويجيبها بصدق وصراحة..
ماذا استفدت من رمضان؟
إنّه مدرسة إيمانية، إنّه محطّة روحية للتّزود منه لبقيّة العام، ولشحذ الهمم بقيّة العمر، فمتى يتّعظ ويعتبر ويستفيد ويتغّير ويُغيِّر من حياته من لم يفعل ذلك في رمضان؟!
إنّه بحق مدرسة للتغيير؛ نُغيِّر فيه من أعمالنا وسلوكنا وعاداتنا وأخلاقنا المخالفة لشرع الله جل وعلا {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرّعد:11].
2-من أعظم أنواع الشّكر الاستمرار على الأعمال الصّالحة.
إن من شكر العبد لنعمة ربه عز وجل بعد أن وفقه للصيام والقيام أن يستمر على طاعة الله عز وجل في حياته كلها، ومن علامة قبول الحسنة الحسنة بعدها، وإن من كفر النعمة، وعلامة رد العمل، العودة إلى المعاصي بعد رمضان.
ستأتيك الشياطين من جهاتك الأربع؛ حتى لا تشكر الله - عز وجل - وإن مثَلَها كمثَلِ الذي كان مستريحًا مدَّة من الوقت، فعندما يقوم لا بدَّ له أن يعوِّض ما فاته، وكذلك الشياطين ستعمل بجِدٍّ ونشاط؛ من أجل إفسادك وإبعادك عن طاعة الله، وتَضيِيع ما جمعتَه من الحسنات في رمضان،
فإيَّاك - أيها المسلم العائد إلى الله - أن تُهزَم في هذه المعركة، إنها من أهم المعارك الجهادية، معركة الحق والباطل، معركة الجهاد الأكبر، فيوم أن تحافظ على توبتك وطاعتك لله - تعالى - يوم لا تسمع لهم، ولا تتبع نفْسَك الأمَّارة بالسُّوء، فهذا هو انتصارك في المعركة.
وما يفعله الكثير من المسلمين بعد انقضاء الشهر الكريم من التكاسل عن الطاعات، وتضييع الفرائض والواجبات، والتساهل في الذنوب والسيئات، والانجراف والارتكاس في الموبقات، فهذا كله من تبديل نعمة كفرًا، وفاعله كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثًا، وكمن يبني قصرًا ويهد مصرًا.
3-الإسلام دينٌ دائم الاتّصال بالعبد.
يَمتاز الإسلام عن غيره من الدِّيانات من حيث التطبيقُ والعمل: أنَّه دينٌ دائم الاتصال بالعبد، لا ينفكُّ عنه بمجرد ذهاب شعيرة أدَّاها، أو يتحلل منه فَوْر انتهاء زمن عبادةٍ معظَّمة فيه، بل يَظل الإسلام ملازمًا للعبد في كلِّ الأوقات والأمكنة، في البيت والسُّوق والعمل، وفي كلِّ مكان، وفي شعبان ورمضان وشوال، وفي كل زمان.
يَظلُّ هذا الدِّين يصلُ العبد بربه، ويعلو به إلى الملكوت الأعلى، ويسمو به عن دَنايا الدُّنيا، وهذا الحُسن لا يظهر إلاَّ في مُؤمن التزم الإسلام ظاهرًا وباطنًا كلَّ وقت وحين.
بينما لو أبصرت الدِّيانات الأخرى، لوجدت أنَّ شعائرهم مُجرد طقوس يُؤدونها في أوقاتها، وعادات يألفونها، لا تعدو أنْ تكون مجرد إشباع قلبي زائف، لا يصل العبد بخالقه، ولا يوجد السعادة والطمأنينة في داخله.
من هنا كانت العُبودية في الإسلام لله - تعالى - على الدوام، تستمرُّ مع العبد منذ التكليف حتى اللحد، لا ينفكُّ عن الاتصال بالله - تعالى - إلاَّ إذا تنكَّب العبد الطريق، وضلَّ عن الصراط المستقيم.
4-لا تكن رمضانيًّا.
لقد اعتادت النفوس في شهر الخير والبركات وموسم المغفرة والرحمات، على الإقبال على الطاعات، والمسارعة في الخيرات، والتنافس في سائر القربات، ولكن بمجرد إعلان ليلة العيد نجد الكثير من المسلمين قد تنكبوا الطريق، وضلوا السبيل وانحرفوا عن الصراط المستقيم، وانفلتوا من الطاعات، وانغمسوا في الملاهي والملذات، وسارعوا إلى المعاصي والشهوات، بل وقعوا في كبائر الإثم وعظائم الموبقات.
ولقد ذمّ السّلف هذا الصّنف من النّاس وهذا النّوع من الأجناس.
قيل لبِشْرٍ: "إن قومًا يجتهدون ويتعبدون في رمضان". فقال: "بئس القوم الذين لا يعرفون الله إلا في رمضان، إن الصالح يجتهد ويتعبد السنة كلها"
وسئل الشّبلي: "أيهما أفضل رجب أو شعبان" فقال: كن ربانيًّا، ولا تكن شعبانيًّا.
فيا أخي الحبيب: لازم طاعة الله - عز وجل - على الدوام، فرَبُّ شعبان ورمضان هو رب الشهور كلها، فليس لعموم الطاعة زمن محدد، وليس للتقوى موسم مخصص، فعمل العبد لا ينتهي بموسم، ولا ينقضي عن مناسبة، بل العبد مأمور بالعمل حتى الممات {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99].
عن علقمة، قال: (سألت أم المؤمنين عائشة، قُلْتُ: يَا أُمَّ المُؤْمِنِينَ، كَيْفَ كَانَ عَمَلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هَلْ كَانَ يَخُصُّ شَيْئًا مِنَ الأَيَّامِ؟ قَالَتْ: «لاَ، كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً، وَأَيُّكُمْ يَسْتَطِيعُ مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَطِيعُ»).
فكان-صلى الله عليه وسلم-يستمر في العمل الصالح، ويداوم على العبادة ويواظب على الطاعة.
ومن علامة توفيق الله - عز وجل - وقبوله العمل أن يتبع الحسنة بعد الحسنة، ويوفقه على المواظبة على فعل الخير، ولزوم طريق الاستقامة وطريق الهداية قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17].
5-عرفت فالزم.
أخي الحبيب: عرفت أثر العبادة، وذقت طعم الإيمان، وحلاوة الطاعة، ولذة المناجاة؛ فعليك أن تحافظ على هذه المكاسب، وتلك المنجزات، فتحرص على الطاعة، وتُقبل على العبادة، وتلزمَ الطريق المستقيم والهدي القويم.
وإنّ رؤوس الأعمال التي زكت فيها النفوس، ورقّت القلوب، ودمعت الأعين، وارتفعت فيها الأكف، من الصيام والقيام والصدقة والإحسان والذكر والتلاوة والدعاء والالتجاء، ليست مقتصرةً على رمضان، وليست مختصةً بشهر الصيام، بل كثيرٌ من الأعمال والعبادات والقرب والطاعات، سببٌ لتضعيف الحسنات وتكفير السيئات ورفع الدرجات، ولكننا عنها غافلون وفيها مفرطون، فالصلوات الخمس كفارة لما بينهما، وكذا الجمعة إلى الجمعة، وإذا كان رمضان هو شهر الدعاء، ففي الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله شيئًا إلّا أعطاه الله إياه.
وكذا الصدقة والإحسان والذكر والتلاوة، مشروعة في وقت، وأجرها ثابت في كل حين.
فعليك أخي الحبيب بالعزيمة الصادقة، والإرادة الجازمة، والنية الخالصة على مواصلة العبادة، والاستمرار على الطاعة، والمداومة الأعمال الصالحة، والاستفادة من هذه الغنائم الباردة، والفضائل المتعددة والمتنوعة، والأزمنة الفاضلة.
6- مثلٌ عليا في المداومة على العمل الصّالح.
ظاهرة الفتور والانحطاط بعد الجد في العبادة والنشاط ظاهرة يصاب بها كثير من المسلمين في كثير من الأحيان، لاسيما بعد مواسم الخيرات كشهر رمضان، ومن هنا تظهر أهمية (المداومة على العمل الصالح)؛ فهو شعار المؤمنين وديدن المخلصين، ولنا من سلف الأمة الذين ضربوا أروع الأمثلة في المداومة على الأعمال الصالحة خير قدوة وأسوة.
- الصّدّيق رضي الله عنه: عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: («مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ صَائِمًا» قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَا، قَالَ: «فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ جَنَازَةً؟» قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَا، قَالَ: «فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مِسْكِينًا؟» قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَا، قَالَ: «فَمَنْ عَادَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مَرِيضًا؟» قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ، إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ»).
- بلال رضي الله عنه: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِبِلاَلٍ عِنْدَ صَلاَةِ الفَجْر: («يَا بِلاَلُ حَدِّثْنِي بِأَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ فِي الإِسْلاَمِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ دَفَّ نَعْلَيْكَ بَيْنَ يَدَيَّ فِي الجَنَّةِ» قَالَ: مَا عَمِلْتُ عَمَلًا أَرْجَى عِنْدِي: أَنِّي لَمْ أَتَطَهَّرْ طَهُورًا، فِي سَاعَةِ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، إِلَّا صَلَّيْتُ بِذَلِكَ الطُّهُورِ مَا كُتِبَ لِي أَنْ أُصَلِّيَ " قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: «دَفَّ نَعْلَيْكَ يَعْنِي تَحْرِيكَ»).
7-استمرار العبد على العمل الصالح كفيل بتخفيف الشّدّة وإجابة الدّعوة.
إنَّ العبد إذا نزلت به شدة يهرع إلى الله - عزَّ وجلَّ - لكن هل يليق به أنْ ينسى الله في الرخاء، ولا يعرفه إلا في الشدائد؟!
واستمرارُ العبد على العمل الصالح كفيلٌ بتخفيف كلِّ شدة وإزالتها؛ ولذا جاء في حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -: (احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ، تَعَرَّفْ إِلَيْهِ فِي الرَّخَاءِ، يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ..).
وفي حديث أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَسْتَجِيبَ اللَّهُ لَهُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ وَالكَرْبِ فَلْيُكْثِرِ الدُّعَاءَ فِي الرَّخَاءِ)
8- صيام السّتّ.
لابد للعبد في طريقه إلى الله - عز وجل - من تقصير في الاستقامة، ومن نقص في الطاعة، وخلل في الهداية؛ ولهذا قال الله تعالى: {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} [فصلت: 6]،
فيجبرُ التقصير بالاستغفار، ويسدُّ الخلل بالتوبة والأوبة، ويكملُ النقص بنوافل العبادات، كما جاء في الحديث عَنْ حُرَيْثِ بْنِ قَبِيصَةَ، قَالَ: قَدِمْتُ المَدِينَةَ، فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ يَسِّرْ لِي جَلِيسًا صَالِحًا، قَالَ فَجَلَسْتُ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، فَقُلْتُ: إِنِّي سَأَلْتُ اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَنِي جَلِيسًا صَالِحًا، فَحَدِّثْنِي بِحَدِيثٍ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَنْفَعَنِي بِهِ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ العَبْدُ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ عَمَلِهِ صَلَاتُهُ، فَإِنْ صَلُحَتْ فَقَدْ أَفْلَحَ وَأَنْجَحَ، وَإِنْ فَسَدَتْ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ، فَإِنْ انْتَقَصَ مِنْ فَرِيضَتِهِ شَيْءٌ، قَالَ الرَّبُّ عَزَّ وَجلَّ: انْظُرُوا هَلْ لِعَبْدِي مِنْ تَطَوُّعٍ فَيُكَمَّلَ بِهَا مَا انْتَقَصَ مِنَ الفَرِيضَةِ، ثُمَّ يَكُونُ سَائِرُ عَمَلِهِ عَلَى ذَلِكَ)
ومن النوافل التي حث عليها الشارع ورغب فيها وأرشد على القيام بها، صيامُ ست من شوال: عَنْ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَأَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ فَكَأَنَّمَا صَامَ الدَّهْرَ كُلَّهُ)
خاتمة:
فاتقوا الله أيها الأخوة، وجدّوا في العمل، واعتبروا بما سلف؛ فالفرص تفوت، والأجل موقوت، والإقامة محدودة، والأيام معدودة، {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون: 11].
http://shamkhotaba.org